تبدأ رواية "أبناء الخطأ الرومانسي" للكاتب والمترجم "ياسر شعبان"، الصادرة طبعتها الثالثة قبل شهور قليلة عن دار كنوز للنشر والتوزيع، بإهداء إلي هؤلاء جميعًا: " إلي أبناء الخطأ الرومانسي في كل زمان ومكان..إلي الأولاد والبنات الذين انتحروا لما فشلوا في علاقة عاطفية أو فقدوا حلما.. إلي الشباب الذين ماتوا لأجل الأفكار الكبيرة.. والوطن.. إلي كل الذين رفضوا أن تدجنهم الحياة، فرأيناهم مجانين.. إلي بعض الذين أحبهم بأسمائهم: صلاح عبد الصبور صلاح جاهين سيد قطب أمل دنقل نجيب سرور أروي صالح.. "إلي أبي". فهل ينبهنا أو ينبه هؤلاء ( كيف وهم بعيدون عنه إما بالزمان أو المكان أو منتحرين أو ماتوا من أجل الوطن أو مجانين الحياة أو أسماء يحبها كلها ماتت وليس علي قيد الحياة من بينها سوي أبيه) أصحاب الخطأ الرومانسي أنه لا شيء هناك والكل قبض الريح، فهل بذلك يسخر من رومانسيتهم أم يبكيهم ويسخر ممن أو مما ماتوا من أجله؟ أليس الإهداء في حد ذاته شكلًا من أشكال الرومانسية؟ أليس هذا الإهداء نفسه رومانسيًا وكل النماذج المهدي إليها نماذج رومانسية؟... ربما!! "وهذا يعني عدم إمكانية حدوثه إلا في رأس واحد مثلي يشعر بالسخرية تجاه الآخرين الذين يحبهم ويشفق عليهم". تابع ياسر شعبان وهو يقف لينبهنا " أيها السادة كفانا ادعاء، كفانا كلاما عن الحقيقة يا سادة..". سترفع كل التوصيلات عن أدمغتنا وننفصل عن جهاز الكمبيوتر الذي يجعلنا ماتريكس فتكتشف أن كل ما زعمناه وتشنجنا وتشاجرنا ومتنا من أجله لا شيء ( هو لا يقصد أنه عبثي ولا معني له ولكنه يقصد أن نعيش الحياة كما نحب وببساطة لأن ما عدا ذلك هو العبث. فهو يري أن الحياة تلعب ولذا ينبغي (أو زي ما نحب) علينا أيضًا أن نلعب. الحياة تلاعبنا وعلينا أن نلاعبها). " فعندما تقترب الكاميرا منه تتوقعون وجهًا بدأت تزحف عليه زرقة الموت واخضرار العفن". فهو نفسه يلعب ويتلاعب بالحياة والعالم والكتابة وبنا علي نحو ساخر مستخدمًا في ذلك بعض التقنيات كالبازل والكولاج والباستيج والمحاكاة الافتراضية. وهنا يظهر السؤال التالي: كيف عرفت ما كان يقصد؟ وكل ما أقول ليس سوي نتاج ذاتي أنا ووعي أنا، إنها رؤيتي لما تقوله كلماته وجمله والمشهد الكلي لروايته. "خيبة ما تصيب الواحد لما يعتقد أنه الوحيد الذي يفهم، الوحيد الذي يسمع، الوحيد الذي يري.. حتي الوحيد الذي يعرف". آه، نسيت، أليست كلمة " الرومانسي" لها مدلول رومانتيكي؛ فياسر كمترجم يعرف أن الرومانسية هي الروائية؛ لكنه اختار( هكذا أظن) كلمة رومانسي وليست كلمة رومانتيكي لأن الأولي صارت شائعة بين أو عن الرومانتيكيين. يبدو أنني أحاول إجلاس رواية ياسر شعبان علي الشيزلونج، آه فكلما قرأت ياسر شعبان أتساءل عما استفاده من الطب النفسي ويأتي في مخيلتي صورة الطبيب الجالس بجانب مريضه المسترخي علي شيزلونج طارحًا عليه مجموعة من الأسئلة حتي يتسني له فك عقدته أو مشكلته النفسية. الغريب أن ياسر شعبان - كما أتوهم- لا يشغل باله بالأسئلة فلا يفعل ذلك بل يكتب تقريره، نصه، روايته - علي الرغم من أن روايته في شكلها لا تبدو رواية، إلا أنه يكتب رواية -أعتقد لوعيه. إن الرواية جنس أدبي واسع الوعاء يستوعب الكثير من الكتابات التي نطلق عليها أشكالًا روائية لا نصوصًا فقط - بعد محاولة جادة من ياسر شعبان لقراءة ملف المريض في حالة من مراجعة إجاباته وقراءة الهوامش والتعليقات المندرجة علي الهامش(ربما توجد الذات في الهامش). فكثيرًا ما تكون الحقيقة ( إن كانت ثمة حقيقة واحدة) في الهامش لا المتن. كما أنه ينظر لكل ذلك من أوجه مختلفة ومن مواضع رؤية غريبة وغير معتادة. إذن - علي ما أعتقد - الأسئلة كثيرة والإجابات كثيرة، لكن كم من المرات راجعنا هذه الإجابات. وياسر شعبان لا يراجع هذه الإجابات كما راجعها فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر - ليطرح إجابة أخري يرتضيها العقل والمنطق، فكما كان القرن الثامن عشر عصر التنوير كان أيضًا عصر العقلانية - ولكنه يفتح العالم علي نظرية النسبية والاحتمالات، تلك النظرية التي تجعل من العالم عالمًا مفخخًا؛ فهو كما يستشهد في أحد تصديراته لروايته المصائر، صدرت عام 2011 عن جمعية نوافذ للترجمة، " لا يوجد فرق ملموس بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، ولا بين ما هو صادق وما هو زائف، إذن ليس ضروريًا أن يكون الشيء إما صادقًا أو زائفًا، بل يمكن أن يكون صادقًا وزائفًا في الوقت نفسه". هل كل ما نعيشه مجرد هلاوس أم هواجس؟ اللعنة علي دوستويفسكي وفرويد وعتيق رحيمي. يبدو أننا ندفع أثمانًا غالية نظير لا شيء ونظير فقد متعة ولذة الحياة ومعناها. "وقال لها: الناس يعتقدون في أهمية كلماتهم، أهمية أسئلتهم، أهمية وجودهم.. لكن قليلين من يتساءلون عن أهمية أدوارهم، وأقل من يدركون سخف هذا الدور رغم استمرارهم في أدائه أليس مخزيًا بذمتك أن يكتشف الواحد في لحظة ما أنه مثل ممثل مسرحي يمكن وصفه بالرديء، يعتقد أنه لما يتفاني (ماذا تعني؟!) في أداء وإتقان دوره سيكون بذلك يؤدي دورًا مهمًا لمن؟! .. هذا هو سر الوجود". لا تراهنوا سوي علي الحياة والحب والمرأة و كل شيء جميل كما ترونه. "وكل هذا من الممكن التشكك في جدواه ووجوده".. معقولة يهد كل المشاهد واللوحات الأيروتيكية الرومانتيكية ( لماذا تذكرني لوحاته بمحمود سعيد وبنسائه السمراوات؟). وهذا المقطع من رواية أبناء الخطأ الرومانسي يدلل علي هذه الرؤية "ولما يسألونه عن الذي أمال رأسه.. ربما يقول: "توقعت أن يميل رأسه في هذه اللحظة.. هذه قوة إيحاء عبقرية يجب توافرها في القناص.. أو يندهش ويقول: لم أنتبه لوجود مثل هذا الرجل، أو هذا قدره فلو أصابت الرصاصة رأسه لاخترقته لتستقر برأس الآخر وهذا احتمال وارد.. لا أستبعده". وتتجلي المفارقة في السؤال الذي أفلت للذي أصبح جثة: " من أين اشتريت هذا القميص الجميل ببقع الدم الداكنة عليه؟ ولا أقصد أية سخرية هنا، لكنني منزعج بشكل ما لتشابهها علي قميصك وقميصي". هل مات بالفعل؟ هل هناك شخصان أم شخص وانعكاسه في المرآة؟ أم الأمر كله ليس سوي تمثيلية؟ نعم، تمثيلية أو فيلم سينمائي يقوم علي التواطؤ "هذا التواطؤ الموجود غالبًا بين الذي يحكي ومستمعيه، وبين الممثل ومشاهديه، وبين الكاتب وقرائه، وأيضًا بين العارف والذين ينقلون المعرفة عنه". هذه هي الكتابة التي يتبناها ياسر شعبان؛ إنها الحكاية التي يحكيها لنا في الكهف المغلق علينا كما يقول موراكامي، لكنه كما يقول موراكامي أيضًا يستخدم تقنياته بوصف ياسر شعبان الكاتب/ الروائي/الحكاء. فحكاية/ حكايات ياسر شعبان تبدو فضفضة لحواديت وهلاوس سمعية وبصرية وحسية ووعيوية وهواجس ويوميات ومذكرات مراهقين، إلا إنه يستخدم هذه الأدوات كتقنيات ومرتكزات سردية حتي يصل لما يريده هو وأبطاله. يختبر ياسر شعبان، كما فعل من قبل العظيم دوستويفسكي ومن بعده كونديرا، مفاهيم الحياة التي تبدو راسخة والتي يبدو أنه ليس هناك داع لمراجعتها؛ لكنه يجعلك تتأكد ( إن كان هنا يقين في شيء) أن عليك أنت الآخر أن تراجع مراجعته هو( شخصيًا) فضلًا عن إنه لم يقع أسيرًا لأي منهما ( ولا لأي كاتب آخر أحبه وأدهشه، ولا مانع من بعض التأثر المشروع)، فياسر شعبان يقرأ النظرية، السائد الموضة، لكنه كما يقول رولان بارت لا يبتزها؛ فالنظرية بمفردها ليست كافية لصناعة وإنتاج فن ولكن ثمة مشروعا وعيوي هو ما ينتج ذلك ( أقصد الوعي علي انفتاحه) ب"هل يحتوي الحلم علي القوة الكافية الكامنة لتحوله إلي واقع، وأعني بهذا هل يدفعنا ما نراه في النشاط المعروف باسم الحلم إلي تحقيقه في النشاط المعروف باسم الواقع ؟ وسأحاول اختبار هذا علي الشخصيات الثلاثة: الذي أصبح قناصًا.. الذي أصبح جثة.. الذي أصبح مفلتا.." "وهكذا فعندما أقول (كان التابوت) تستكملون في سركم: (التابوت الذي يحتوي علي جثة بثقبين علي جانبي الجمجمة وتحته رجل وامرأة يمارسان الجنس). " ،" واحد أطلق النار وواحد اخترقت الرصاصة جمجمته. وواحد أفلت لأنه مال برأسه..". واستشهادات أخري كثيرة تدلل علي أن ياسر شعبان يكتب كما يتكلم أي ينطلق من الشفهية التي يبدو أنها مدخل هام لما بعد الحداثة (كما أظن). أعتقد أن الشفهية تتيح للكاتب الحرية في استخدام بعض التقنيات الما بعدية ( ما بعد الحداثة، الكولونيالية، الوفرة، الصناعي... إلخ) مثل الاستبدال، اللعب، الترتيب الفوضوي، التقطيع، التعدد الشكلي، الاختلاف، المحاكاة، التفكيك والهدم وعملية التحلل... إلخ). كما تسمح بوجود شعرية ما من خلال أن طريقة كتابة الجملة الشفهية مختلفة عن الكتابية، ومن خلال الإيقاع المختلف، والتداعي وحيل أخري كثيرة تسمح بها الشفهية. "وأرغب في استبدال "يتبعون خطته" ب"يقلدونه يفككون أفعاله أو يفعلون ما لا يستطيعه وهو مقيد في تعيينه".. " وهذا التداعي التداعي الغريب يدفع مرة أخري بالقناص إلي حيز الوجود الذي أحاول أن أجعله قابلا للاختراق والتعددية.."، هكذا يري ياسر ويود أن يجعل الوجود قابلًا للاختلاف والتعددية. لكن ألم تلهم بعض كتب المرضي النفسيين وبعض الأعمال الروائية والمذكرات واليوميات بعض علماء النفس المؤسسين لهذا العلم وكباره - فرويد ويونج ولاكان ذ بمشكلات وعقد نفسية وعقلية؟ وعلي ما يبدو يطرح ياسر شعبان كتابته من هذا المنطلق. لكن هل هو بمثابة مريض نفسي؟ الشفهي وهل سيكتشف أحد علماء النفس عقدًا ومشكلات نفسية جديدة لديه، أم أنه يوظف علم النفس في كتابته علي نحو رائع، أم أنه يستغل تشابك وتداخل العلوم ليعرض ما يود عرضه؟ وهل هو يطمح إلي تقديم أي شيء؟ نعم، يطمح في أن يكون نصه كما يقول بارت كتابيًا؛ أي نصا علي غير المألوف فيحتاج إلي تشاركية القارئ، لا نصًا قرائيًا موجها للقارئ كمن يُملي عليه، نصًا محفزًا وليس نصًا ينتج ما أنتج من قبل. "وسأطفئ التليفزيون، وأخلع فيشة التليفون، وأقول، أيها السادة لقد انتهي العرض الذي حاول أن يُقدم محاكاة ساخرة للحياة الإنسانية وللتوحد والتماهي. ولقد ظن أنه سيكتشف ما لم يُكشف، لكنه وقع في نفس الفخاخ ( الحياة.. الجنس.. الموت)، وصنع لنفسه فخاخًا أُخري (الجسد الانفعالات التقمص التوحد ..) والآن يتلاشي مسكين، والآن يتلاشي مساكين.