لا أحد يستطيع أن ينكر أن شبكات التواصل الاجتماعى باتت شيئًا مهمًّا ولاعبًا بارزًا فى الحياة السياسية الآن فى مصر، خصوصًا بعد ثورة 25 يناير، لدرجة أن الثورة المصرية فى بدايتها أطلق عليها "ثورة الفيس بوك".. وبعدما كان كبار السن من جيل والدى إن أرادوا أن يصفوا شابًّا بأنه تافه وغير قادر على تحمل المسئولية يصفونه بأنه "عيل من بتوع الفيس بوك".. لكن الوضع تغير تمامًا الآن.. فجمهورية الفيس بوك أصبحت تضم بين صفحاتها الكبير والصغير.. الغنى والفقير.. المتعلم والجاهل.. ولم يعد أحد من المشاهير من سياسيين وفنانين ورياضيين وحتى رؤساء الدول إلا وله صفحة "فيسبوكية" يخاطب من خلالها جمهوره بشكل مباشر بلا موانع أو قيود. لكن قبل شهر رمضان المبارك أُصبت بحالة من الملل الرهيب من الفيس بوك بصفة خاصة، ومن الإنترنت بشكل عام.. ولعظمة هذا الشهر قررت أن أقاطع الفيس بوك خلال شهر رمضان بأكمله، إلا دقائق قليلة يوميًّا.. وبعد مضى شهر تقريبًا من الانعزال شبه التام كنت فى شوق كبير ولهفة شديدة لهذا العالم الافتراضى الذى كان فى يوم من الأيام أحد الأسباب التى وحدت المصريين وانطلقت منه الشرارة الأولى لثورة أبهرت جميع الخلق على وجه البسيطة. وقد قررت أن أقوم بما يسمى "إعادة فرز" لمعظم الصفحات ذات الشعبية والانتشار، ومحاولة معرفة سياساتها وتوجهاتها ومصداقياتها ومدى تأثيرها على عقول الشباب.. ولكن للأسف وجدت الحال أسوأ مما كنت أتخيله.. وجدت أن المصريين يستخدمون الحرية التى اكتسبوها على أسوأ نحوٍ ممكن.. فلغة التخوين والتجريح والسباب هى اللغة السائدة بين أوساط المجتمع المصرى.. وأصبح أنصار أى فكرة أو منهج أو شخص يدافعون عنه فى الحق والباطل، والتعصب أصبح أعمى.. فإذا تابعت مثلاً إحدى الصفحات الإسلامية فستجدهم فيها يدافعون عن منهجهم وعن الأشخاص الذين يتبنون هذا المنهج، مثل الشيخ حازم أبو إسماعيل، بكل قوة وهذا حقهم لا شك لكن غير المقبول هو كمية الهجوم غير الطبيعى على كل من يختلف معهم فى الرأى مثل الدكتور محمد البرادعى، على سبيل المثال.. فلم تخلُ صفحة إسلامية من مصطلحات مثل: البرادعى عميل، البرادعى خائن، ماذا قدم لمصر؟ هو سبب احتلال العراق، رجل أمريكا الأول فى المنطقة، مصر أهم ولاَّ أنجلينا جولى يا برادعى؟ البرادعى هيقَلَّع أمك الحجاب.. إلى آخر ذلك من مفردات هدفها تشويه رمز وطنى كان أول من قال كلمة حق فى وجه سلطان جائر، مهما اختلفنا معه فى الآراء. أما فى الجانب الآخر فحدث ولا حرج.. فالأمور أشد تعصبًا، والرؤية أكثر إظلامًا.. فإذا تابعت إحدى الصفحات الليبرالية التى يركبها العفريت من كل ما يطلق عليه "إسلامى" فستجد الهجوم متواصلاً ليلَ نهارَ بلا انقطاع على الإسلاميين.. أما عن البرادعى أو البوب كما يحبون أن يسموه فإنه من وجهة نظرهم رئيس الجمهورية الذى خسره المصريون، وبإمكانه من خلال تغريداته على تويتر أن يبنى دولة عظمى، وأن "التويتة" الواحدة يمكنها أن تهدم أسوارًا من الجهل والظلام.. وستقع عيناك أيضًا على مصطلحات مثل: البرادعى أُمَّةٌ فى هيئة رجل، البوب خسارة فى شعب مصر، البرادعى أسطورة تمشى على قدمين.. إلى آخر ذلك من أفكار تجعل من يقرؤها يشعر بأن الدكتور البرادعى هو المهدى المنتظر الذى أرسله الله ليفرق بين الحق والباطل. ليس المقصود هنا هو الدفاع عن الدكتور محمد البرادعى أو مهاجمته.. فهو رمز وطنى شريف، وقيمة علمية ووطنية، يتشرف به أى مصرى فى أى مكان فى العالم، وهو حاصل على جائزة نوبل فى السلام، ويعشق تراب بلده.. لكن فى الوقت نفسه هو ليس نبيًّا مرسلاً معصومًا من الأخطاء.. فهو يصيب ويخطئ مثل كل البشر، ومن أبرز نقاطه السلبية عدم نزوله الميدان فى بعض الظروف الصعبة سوى مرات تُعد على أصابع اليد، وأن ثوريته فى بعض المواقف كانت فقط من خلال تويتر. لكن الذى أود أن أقوله هو أن الشعب المصرى بالفعل يستحق جائزة نوبل فى كيفية صنع الطواغيت من خلال رفع الأشخاص إلى السماء.. و"نوبل" أخرى فى كيفية تشويه الرموز عن طريق دفنهم تحت سابع أرض.. فلم يعد هناك حل وسط.. إما أنت معى وإما ضدى.. لذا يجب على كل فرد فى الشارع، أو حتى فى الفيس بوك، أن يوجه تعصبه لوطنه وأن يكون انتماؤه للفكرة وليس للأشخاص. كان الشعب المصرى قبل الثورة منقسمًا إلى أهلاوى وزملكاوى فقط.. لكن الآن أصبح منَّا الليبرالى والعلمانى والإسلامى والإخوانى والسلفى والفلولى والحازمون والفاتحون والمرسيون والصبَّاحيون والبرادعيون.. وهلم جرًّا.. فهل نعود مرة أخرى إلى ما كنا عليه منذ 19 شهرًا "مصريين"؟ لأن - والله العظيم (ثلاثًا) مساحة الاتفاق بيننا أوسع كثيرًا من مساحة الاختلاف.