اختلفت الدراسات النفسية حول أسباب انتشار السلوك العنيف وارتفاع معدلات الجريمة فى المجتمع.. وبرغم أن تلك الدراسات لم تتفق على سببية العلاقة بين مشاهدة أفلام العنف والجريمة وعلاقتها بانتشار الجريمة على أرض الواقع.. إلا أنها اتفقت جميعها بشكل أو بآخر على تأثير المواد الإعلامية فى زيادة نسبة العنف فى ارتكاب الجرائم كما وبشاعة.. إذ إن الدراسات التى استبعدت أن يكون المنتج الإعلامى هو السبب الرئيسى فى ارتكاب السلوك العنيف، مؤكدة أن المجرم يولد باستعداد جينى وبىء لارتكاب الجريمة - حسب رأيها- إلا أنها لم تتمكن من نفى تأثير أفلام العنف والجريمة -كمحفز - لسلوكيات العنف لمن لديهم الاستعداد لارتكاب الجريمة..... ومن أسوأ ماتوصلت إليه كثير من الدراسات حول أفلام ومسلسلات تليفزيونية تبرز العنف وتشجع عليه، تأتى صورة المجرم الموحية بكثير من الطيبة فى جانبها الإنسانى، أو تصويره على أنه الشاب الأنيق المحبوب من فتيات بسيطات يتسمن بالاعتدال النفسى والمثالية، أو أنه رغم عنفه يقف مع الضعيف ضد القوى.... لتصبح هذه الصورة مبررًا ومحفزًا لكثير من الصبية على ارتكاب الجريمة أو المبالغة فيها بمظهر استعراضى حتى ينال ما يناله بطل الفيلم أو بطل المسلسل التليفزيونى من إعجاب ومدح. أقول كل ذلك بمناسبة الإعلانات، التى بدأت تتقاطر علينا عن مسلسلات شهر رمضان.. وتأتينا مشبعة بكثير من مشاهد العنف الجسدى واللفظى وكثير من الدماء على الأرض وعلى وجوه أبطالها..... مع وضع العنف كحل بديل ووحيد للحصول على الحقوق أو استرداد ما سلب..... كل ذلك يأتى فى إطار من التنميط لشخصية حاضرة دائمًا فى مشاهد العنف لتبرير اللجوء إليه، وهى شخصية رجل الأمن الفاسد الذى لا يعرف سوى القمع واللجوء للعنف، وإظهاره فى الغالب على أنه البادئ به، رافضًا أى صيغة للتعامل بالقانون، بل ومستهزئا بمن يطالبونه باعتماد القانون حكما فى الحياة اليومية.. وهذا مما يعد ضغطا على زر التعاطف بين المجرم والمشاهد الذى يخرج من مشاهدته للفيلم بيقين أن السبب فى العنف هو رجل الشرطة وليس رد الفعل غير السوى للمجرم مما يبرر للكثيرين استخدام العنف كمبدأ لفرض السطوة دون احتياج مبرر لذلك.. فيصبح العنف فعلا يظهر فى السلوكيات العامة والبسيطة بين الناس فى مجالات لا تحتمل العنف مثل أولويات المرور أو الانتظام فى طوابير للحصول على خدمة أو شراء سلعة..... وهنا يتقمص المشاهد دور المجرم فى نظراته والضغط على الحروف فى حديثه أو حتى اللامبالاه المتمثلة فى عدم الرد على ضحية العنف حين إعلان احتجاجه ورفضه للسلوك العنيف..... وهنا يتحول العنف من رد فعل لدفع ظلم على الشاشة، إلى فعل لفرض ظلم على الأرض إما إعجابًا بشخصية المجرم على الشاشة أو تحسبًا لأى عنف قد يمارس ضده على الأرض. وفى هذا المقام لا نطالب صانعى الأفلام برسم شخصيات ملائكية فى أفلامهم تشبه الصورة النمطية للمؤمن فى الأفلام الدينية مقابل شخصية الكافر القبيح الوجه، غليظ الصوت، كث اللحية..... وإنما هنا نطالب بالكثير من الحذر فى عرض صورة المجرم الذى يبالغ فى سفك الدماء فى مظهر الأنيق، الفارس، محبوب النساء، ناصر الفقراء..... وإنما يجب وضع الأمور فى نصابها من الواقع بغير اعتماد على فكرة التطهر، التى تقوم على أن رؤية الشخصية العنيفة على الشاشة يكون متنفسًا للمشاهد من طاقة العنف داخله، فلا يمارس العنف لأن بطل العمل قد أفرغ مابداخل المشاهد من طاقة سلبية....... كذلك لابد من الانتباه إلى أن الكثير من العنف على الشاشة يعكس صورة سلبية للمجتمع فى ذهنية المتلقى الأجنبى...... وهنا لا نلجأ إلى الحديث المبتذل عن سمعة مصر وتشويه صورتها، وإنما نتحدث عن صورة مشوشة لمجتمع على الشاشة، تؤدى إلى ردود فعل خاطئة من جانب المشاهد الأجنبى ضد المواطن الحقيقى على الأرض باعتبار أن هذا هو نمط السلوك السائد فى تلك البلاد....... إن صانعى الأفلام والمواد التليفزيونية يحتاجون إلى الكثير من مراجعة النفس فيما أصبح نمطًا للشخصية المصرية على الشاشة حتى ولو كان بدافع إنتاجى وتمويلى لتحفيز بيع المنتج ولو على حساب السلوكيات الإجتماعية فى بلادهم..... ولكم فيما تقدمه صناعة المسلسلات فى تركيا أسوة حسنة، فقد احتلت، وبجدارة، المكان الذى كانت تحتله المسلسلات المصرية فى الوطن العربى، فقط، لأنها لم تندفع نحو طوفان العنف والدماء الذى يملأ شاشات مصر.