بينما كان العالم يحتفي بتتويج أحمد شوقي "أميرا للشعراء" في باحة قصر كرمة ابن هانئ، حاول بعض المثقفين اللبنانيين استنساخ التجربة بدفع أحدهم للمطالبة بلقب مماثل، لكنه حين وطأت قدماه أرض مصر، لم يتوقف عند موهبة شوقي الفذة فحسب، بل تأمل في "السياق" الذي أنتج هذه الموهبة، فصاغ بيته الشهير: "ولو أني أقمت مقام شوقي.. لفاض الشعر من تحتي وفوقي". لم يكن هذا البيت مجرد إقرار بتفوق شوقي، بل كان اعترافا عبقريا بمركزية "البيئة الثقافية" والمجتمع الذي يحتضن الإبداع ويمنحه أسباب السيادة، وهو ما يفتح الباب لفهم أعمق لما نطلق عليه اليوم القوى الناعمة. الواقع إن هناك خلطا شائعا يختزل القوى الناعمة المصرية في الفن والأدب والسينما فقط، والأخطر هو الاعتقاد بأن فاعلية هذه العناصر تنحصر في حدود الاستهلاك المحلي أو الترفيه المجتمعي، والحقيقة إن هذه المكونات ليست سوى أجزاء من منظومة أوسع، فالقوى الناعمة بمفهومها الذي صاغه "جوزيف ناي" تعني القدرة على الجذب والإقناع دون إكراه، وهي تعتمد على ثلاثة موارد رئيسية: ثقافة المجتمع في الأماكن التي تجذب الآخرين، وقيمه السياسية عندما يطبقها بإخلاص، وسياسته الخارجية عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة أخلاقية. لذا، فإن قياس أثر القوى الناعمة لا يتم بقياس مدى رواج المنتج الإبداعي داخل حدوده، بل بمدى التغيير الذي يحدثه هذا المنتج في سلوك ورؤية المجتمعات الأخرى تجاه الدولة المصدرة له. لقد كانت مصر لعقود طويلة هي "القاطرة" الثقافية للمنطقة العربية، ليس لأنها تمتلك مبدعين فقط، بل لأنها امتلكت "سياقا" سمح لهؤلاء المبدعين بأن يكونوا المرجعية الأولى للذوق واللغة ونمط الحياة، وبقاء مصر في هذه المكانة يظل مرهونا بإرادة المصريين، وبالأخص القائمين على إدارة الملفات الثقافية والسياسية، في إدراك أن الثقافة ليست "هامشا" أو رفاهية يمكن الاستغناء عنها في أوقات الأزمات، بل هي الأساس الذي تبنى عليه رؤية المجتمع لنفسه وقدرته على تطوير مستقبله. إن التعامل مع الإبداع بمنطق "الوفرة التاريخية" الذي يجعلنا نطمئن إلى رصيد الماضي دون الاستثمار في الحاضر، هو ما سمح بظهور "فراغات" في المحيط الإقليمي تحاول قوى أخرى ملأها الآن. كما أن استعادة الزخم للقوى الناعمة المصرية تتطلب الانتقال من مرحلة "التباهي بالمنتج" إلى مرحلة "إدارة الأثر"، فالإبداع هو الحجر الأهم في بناء المستقبل، وإذا استمر التعامل معه بوصفه قطاعا خدميا ثانويا، فإننا نفقد أهم أدواتنا في التأثير الخارجي، حيث يظل الاعتراف بالثقافة كقوة استراتيجية هو البداية الحقيقية لسد الفراغات التي نشأت في محيطنا العربي، وهو السبيل الوحيد لضمان ألا تتحول القوى الناعمة إلى مجرد ذكرى تاريخية، بل تظل أداة فاعلة لصياغة واقعنا ومكانتنا الدولية، بل تصبح فوق كل ذلك استثمارا لابد منه للتاريخ، وحفاظا ضروريا على مكتسبات الحاضر بشرط أن نعي معناها ونستشرف آفاق هذا الوعي لنعرف ما يمكن لنا فعله وكيف نواجه ما يوجه إلينا من محاولات لإضعاف هذه القوى وتأثيرها.