تعد العبقرية المصرية ثمرة حضارية ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، فمنذ فجر الإنسانية أدركت مصر معنى الدولة، وأسست نظم الحكم والإدارة، وأرست قيم العدالة والكرامة الإنسانية، وشيدت حضارة لا تزال تبهر العالم بعمقها وإبداعها وإنسانيتها، ولقد كان المسار المصري على الدوام نتاج تفاعل مبدع بين الإنسان والأرض، وفي قلب هذا التفاعل يكمن السر الأكبر صمود لا يعرف الانكسار، وإرادة تتجدد وتنهض في كل مرحلة، لتثبت أن مصر وطن يحمل رسالة حضارية متواصلة تلهم الحاضر وتستشرف المستقبل. وتتجلى هذه العبقرية الآن في قدرة مصر على استعادة دورها التاريخي وتحديث بنيتها الوطنية مع الحفاظ على هويتها الأصيلة؛ فمن مشروعات البنية التحتية العملاقة، إلى المبادرات الاجتماعية والصحية، ومن الإصلاحات الاقتصادية إلى تمكين الشباب والمرأة، ويعد هذا امتداد طبيعي لتلك المسيرة الحضارية، ومن ثم تحولت التحديات الكبرى إلى فرص للنهضة، وأصبحت الدولة المصرية نموذجًا للصمود والتجدد والإبداع، وهذا يعود للروح، المتجذّرة في وجدان المصريين، فهي الضمانة الحقيقية لاستمرار عبقرية مصر وتأثيرها، ولأن تبقى درعًا للأمة العربية وحاضنة لقيم العدالة والسلام والكرامة الإنسانية. ولقد كانت الدولة المصرية، على امتداد تاريخها الطويل صانعةً للتاريخ وقوةً عصية على الانكسار رغم ما واجهته من غزوات واحتلالات وأطماع، حيث كانت مصر فاعلًا أصيلًا يصوغ مجريات التاريخ ويعيد تشكيل الوعي الإنساني في محيطه العربي والإفريقي والدولي، فعندما اجتمعت قوى العدوان، تصدت لها مصر بشجاعة، وحين جاءت الأطماع، واجهتها بصمود وصلابة، لكنها لم تكتف بالمقاومة ورد الاعتداء، بل ارتقت إلى مستوى أسمى حين حولت الألم إلى وعي والمعاناة إلى بناء منطلقات نهوض واستنهاض حضاري. ويمثل هذا التحول مسارًا متجذرًا في وجدان المصريين؛ فقد استدعت الأمة من ذاكرتها العريقة مشروعًا مستقبليًا للبقاء والتقدم، يرتكز على روح جمعية تتجدد في كل جيل، وتستلهم من تراثها القيمي العريق قوة الدفع للمستقبل، هكذا أضحت مصر مدرسة في تحويل التحديات إلى فرص، والصدمات إلى طاقات بناءة، وصناعة أمل يعلو فوق الجراح ليكتب فصولًا جديدة من العزة والنهضة، وبذلك ظلت الدولة المصرية وستبقي بأمر الله منارة حضارية تقود وتعلم العالم كيف يمكن لشعب متجذر في تاريخه أن يحول المحن إلى منجزات، وأن يصوغ بالوعي والعمل مستقبلًا يليق بكرامته ودوره التاريخي. وشهدت المنطقة على امتداد العقود الأخيرة تحولات عاصفة هزت أركان دول وأنظمة، غير أن مصر بقيت حائط الصد المنيع، والعقل الرشيد، والضمير الحي للأمة، واستطاعت أن تحافظ على كيانها السياسي، ووحدة ترابها الوطني، ومركزية قرارها السيادي، بفضل حكمة الإرادة السياسية، والوعي الجمعي في وجدان المصريين، فنجحت في صياغة خطاب وطني متجدد يعبر عن وجدان المصريين، ومن هذا المنطلق ظلت مصر قوة ناعمة فاعلة مركز توازن في إقليم يموج بالاستقطابات والانقسامات، بما تمتلكه من إرث حضاري، ووزن تاريخي، وموقع استراتيجي، وأهم من ذلك كله شعب واعٍ صامد، وقيادة سياسية ذات رؤية رشيدة واضحة، ومؤسسات وطنيو راسخة. كما واجهت الدولة المصرية خلال العقد الأخير وما تزال تحديات جسيمة ومتداخلة، شملت مستويات الاقتصاد والسياسة والأمن والمجتمع، وتعرضت لحملات إعلامية ممنهجة وضغوط خارجية غير مسبوقة، إلا أنّها أثبتت مجددًا قدرتها على الصمود والمواجهة، فانتقلت من مرحلة الدفاع إلى مرحلة المبادرة والبناء، وأصبحت أكثر تمسكًا بخياراتها الوطنية، وأشد إصرارًا على بلورة مشروعها الحضاري، في مسار يجمع بين التنمية الشاملة، وتعزيز الأمن القومي، وترسيخ قيم المواطنة والوحدة الوطنية، كما تميز الصمود المصري بالقدرة على استدعاء الحكمة في أوقات الأزمات، وصوغ رؤية مستقبلية متوازنة في لحظات التحول الكبرى، هكذا ظلت مصر تحمي استقرار المنطقة وتدفع عن محيطها مخاطر الفوضى، وتستنهض الطاقات البناءة لشعبها في مواجهة موجات التحدي المتكررة، لتصبح نموذجًا ملهمًا للعالم. وتتجلى العبقرية المصرية كذلك في فن إدارة التوازنات الدقيقة بين ضرورات الأمن الوطني ومتطلبات الانفتاح على المستقبل، مع التشبث العميق بالهوية الحضارية والخصوصية الثقافية، فمصر لم تفرط في إرثها وقيمها الأصيلة، واختارت طريقًا عقلانيًا رصينًا يمزج بين الثبات والتطور، وبين الأصالة والمعاصرة، لتصوغ نموذجًا فريدًا يمكنها من التقدم دون أن تفقد جذورها، ويمنحها مكانة إقليمية فاعلة واحترامًا دوليًا متناميًا. وستند هذا النهج المتوازن إلى حكمة سياسية رشيدة، واتزان دبلوماسي مشهود، وقدرة على جمع المختلفين على طاولة المصالح المشتركة، بما يجعل من مصر وسيطًا موثوقًا، وصوتًا عاقلًا في محيط يموج بالأزمات، ولقد برهنت التجربة المصرية أن الدولة القوية داخليًا، المتصالحة مع هويتها، والمؤمنة بثوابتها ومصالحها الوطنية، هي وحدها القادرة على أن تكون فاعلًا حقيقيًا في محيطها الإقليمي والدولي، وقاطرةً للاستقرار والبناء. ويكمن في عمق هذا الصمود اللحمة الوطنية باعتبارها جوهر العبقرية المصرية، حيث يحول الشعب تنوعه الديني والثقافي والحضاري إلى مصدر ثراء وقوة، ويجعل من التعدد مدخلًا للتكامل والوحدة، وبهذا الإدراك الجمعي استطاعت مصر أن تحول تنوّعها التاريخي إلى رافعة للتماسك الداخلي، وأن تبرهن للعالم أن الوحدة الوطنية ممارسة حية تحفظ الدولة وتصون هويتها، وتفتح في الوقت نفسه آفاقًا واسعة للتطوير والتنمية المستدامة. وتمتلك مصر قوة ناعمة عميقة الأثر في وجدان المنطقة والعالم؛ قوّة تتجلى في تراثها الثقافي والحضاري الفريد، وريادتها الفنية والإبداعية، وإشعاعها التعليمي والديني الممتد منذ قرون، وهذه القوة الناعمة ليست مجرد مظاهر رمزية، بل هي رصيد استراتيجي يمكّن مصر من مخاطبة الوجدان العربي والأفريقي بلغة التاريخ المشترك والمصير الواحد، ويجعل من ثقافتها وفكرها وموسيقاها ودرامتها وتعليمها جسورًا حية تصل الحاضر بالماضي والمستقبل، وتفتح نوافذ جديدة للتأثير والتعاون والتكامل. وتعد الثقافة والفنون والتعليم والوعي الديني أدوات استراتيجية يمكن أن تتحول إذا استثمرت بشكل ممنهج ضمن رؤية وطنية شاملة إلى طاقة مضاعفة لتعزيز العمق الحضاري المصري وتوسيع دوائر تأثيره الإقليمي والدولي، بما يرسخ مكانتها كحاضنة للهوية العربية والإفريقية، ونموذجٍ للقوة الناعمة التي تحمي المصالح وتدعم الاستقرار وتؤسس للتقارب بين الشعوب على أساس من القيم المشتركة، وتسعى الدولة إلى توظيف إرثها الثقافي والفكري والفني والتعليمي من القوة الناعمة ضمن رؤية متكاملة تعزز بها مكانتها الإقليمية والدولية، لتصبح دعامة رئيسية في بناء مشروع وطني متجدد، يزاوج بين الإنجاز الداخلي والتأثير الخارجي، ويستثمر في الإنسان وقيمه وهويته لينطلق نحو المستقبل بثقة، ويصنع نموذجًا يحتذى به في المبادئ والقدرة على الابتكار والانفتاح. وتتحرك مصر اليوم ضمن أفق أرحب يعيد تعريف دورها في الاقتصاد العالمي، وفي القضايا المصيرية للمناخ والطاقة والأمن الغذائي، ويكتمل هذا الدور من خلال الاستثمار في الإنسان المصري باعتباره الركيزة الأولى للمشروع الوطني ومحور التنمية المستدامة، فبناء الإنسان هو أساس الرؤية المصرية الجديدة، من خلال إصلاح المنظومة التعليمية، وتعزيز قيم الانتماء، وترسيخ الهوية الوطنية، وتوسيع مساحات الإبداع والابتكار، وهكذا يتأكد لنا أن العبقرية المصرية حقيقة نابضة، تتجلى في ملامح الوطن من أقصاه إلى أقصاه؛ في قرية صغيرة تنبض بالحياة، وفي مدينة تبني مستقبلها، وفي مشروع وطني يتحدى المستحيلات، وفي فرد يحفظ النشيد الوطني بقلبه قبل لسانه، وفي أيدٍ مرفوعة إلى السماء تلهج بالدعاء اللهم احفظ مصر. ويأتي عنوان المقال: العبقرية المصرية.. صمود يتخطى المستحيلات؛ ليكون خلاصة لمسيرة شعب صامد أبي، وتجربة دولة ذات قيادة سياسية رشيدة لم تستسلم، ومشروع أمة قررت أن تحفر اسمها في سجل المجد وأن تكتب فصولًا جديدة في كتاب الحضارة الإنسانية، إنها عبقرية مصرية أ تؤكد أن مصر قادرة على القيادة والبناء وصناعة المستقبل، وتمنح العالم نموذجًا متجدد في الجمع بين الثبات على المبادئ والانفتاح على التطوير، وبين الأصالة والابتكار، لتبقى منارة حضارية تلهم الشعوب وتفتح أمامها آفاق الأمل والعمل المشترك.