لا أبالغ إن قلت إن مصر كلها والجماهير الإنجليزية ومحبى كرة القدم فى العالم يتابعون أزمة اللاعب العالمى محمد صلاح مع فريقه نادى ليفربول الإنجليزي، وقد لاحظت أن ردود الفعل اختلفت حول تصريحات النجم المصرى الأخيرة، بين أمرين، فهناك من رأى أنها مناسبة وفى وقتها، وهناك من رأى أنه كان عليه أن ينتظر بعض الوقت، عند ذلك وجدتنى مدفوعًا لفهم خطاب محمد صلاح وتحليل هذه التصريحات حسب بعض الاستراتيجيات المتاحة، وذلك فى محاولة كى أفهم ما قيل بالضبط. قال محمد صلاح في تصريحاته "لا أصدق ذلك، أشعر بخيبة أمل شديدة. لقد قدمت الكثير لهذا النادي، والجميع يرى ذلك على مر السنين، وخاصةً الموسم الماضي، لا أعرف لماذا أجلس على مقاعد البدلاء، أشعر وكأن النادي يتجاهلني. هذا ما أشعر به، قلت عدة مرات من قبل أن علاقتي بالمدير جيدة، وفجأة لم تعد لدينا علاقة، ولا أعرف السبب بصراحة، هذا غير مقبول بالنسبة لي، لا أعرف لماذا يحدث لي هذا دائمًا. "نرمي مو تحت الحافلة"، لأنه هو المشكلة. لا أعتقد أنني أنا المشكلة". المعروف أن محمد صلاح لا يتحدث كثيرًا خارج الملعب، وسنواته مع ليفربول كانت قائمة على معادلة بسيطة هى أن الأهداف تتكلم، وأن صلاح يكتفى بابتسامة مقتضبة وتصريحات دبلوماسية، لذلك بدا تصريحه الأخير، الذى أبدى فيه غضبه من جلوسه على مقاعد البدلاء وشعوره بأنه "كبش فداء"، لحظة فارقة لا فى مسيرته فقط، بل فى علاقته بالنادى وجمهوره وإدارته. بالتالى فإن السؤال هو: ما الذى يقوله هذا التصريح فعلًا؟ وكيف بنى صلاح خطابه بحيث يخرج غاضبًا، لكن دون أن يتحول إلى لاعب متمرد أو متعجرف فى عين الجماهير؟ لاعب "مستحق" لا "متدلل" أول ما يلفت فى خطاب صلاح أنه لا يتكلم بلسان نجم مدلل يطالب بمعاملة خاصة، بل بلسان لاعب "مستحق" يرى أنه دفع ثمن مكانه كاملًا، لذا يشير إلى السنوات التى قضاها فى ليفربول، وإلى ما قدمه للنادي، وخصوصًا فى الموسم الماضي، ليصنع خلفية كاملة لشكواه الحالية "أنا لا أطلب هدية، بل أطالب بما يناسب ما قدمته". فى الوقت نفسه، يحرص على جملة مفصلية: إنه ليس "أكبر من النادي"، ولا يرى نفسه فوق الكيان أو فوق زملائه، هذه الجملة تعمل كدرع واق فى خطابه، تحصنه مسبقًا ضد الاتهام الأسهل فى كرة القدم بأنه "مغرور"، وهكذا يمزج صلاح بين نبرتين متوترتين: احترام الكيان، والتمسك بحقه الشخصي، فلا يريد أن يكون فوق النادي، لكنه يرفض أن يكون تحته إلى درجة الإهانة. من الملام؟ خطاب صلاح لا يوجه أصابع الاتهام مباشرة إلى شخص واحد فى كل لحظاته، أحيانًا يتحدث عن النادى بصيغة عامة، وأحيانًا عن "إحساس" بأن هناك من قرر أن يجعله المشكلة، الصورة التى يرسمها بسيطة ومكثفة: هناك منظومة تتعامل معه باعتباره عبئًا، وتقدمه للرأى العام على أنه سبب أزمات الفريق. ثم ينتقل الخطاب درجة أبعد، فيلمح بوضوح إلى أن علاقته بالمدرب تدهورت، وأن التواصل بينهما شبه منعدم، هنا تظهر أمامنا ثنائية واضحة "لاعب يشعر بأنه قدم الكثير، ومدرب يهمشه ويتركه على مقاعد البدلاء"، ولا يدخل صلاح فى تفاصيل فنية، بل يصوغ الأزمة بوصفها أزمة ثقة واعتراف، لا مجرد اختلاف فى الرأى حول خطة مباراة. بهذه الطريقة، يتحول صلاح من "لاعب خارج التشكيل" إلى "شخص يتعرض لقرار ظالم"، يستدعى التعاطف لا الإدانة. فى خطاب صلاح حضور واضح لثلاثة أزمنة: الماضي: سنوات من الأهداف والألقاب، ومسيرة جعلته أيقونة فى تاريخ النادي، هذا الماضى يستدعيه محمد صلاح بوصفه حجة: من صنع كل هذا، كيف يتحول فجأة إلى احتياطى دائم؟ الحاضر: لحظة الصدمة، أن تجلس على الدكة طوال تسعين دقيقة، وللمرة الثالثة فى فترة قصيرة، وبشكل لم تعتده طوال مسيرتك، هذا ما يصر صلاح على تسميته صراحة بوصفه وضعًا "غير مقبول"، الحاضر ليس مجرد قرار فنى فى مباراة، بل نقطة انكسار فى قصة طويلة. المستقبل: إيماءات غامضة إلى أن ما يحدث الآن قد يقود إلى النهاية، وإلى أن مباراة مقبلة قد تكون بمثابة وداع للجماهير قبل بطولة كبيرة، مع عدم يقين حول ما سيأتى بعدها، هنا يتحول التصريح إلى ما يشبه "إنذارًا أخيرًا" إمّا أن يتغير شيء جذرى فى طريقة التعامل معه، أو يُكتب فصل جديد فى مكان آخر. هكذا يتحول تصريح رياضى إلى سردية كاملة عن مسار حياة مهنية، من تأسيس المجد إلى لحظة مراجعة الحسابات. خطاب مشحون بالعاطفة.. لكن محسوب معجم الكلمات الذى يحضر فى حديث صلاح يدور حول الإحباط، وعدم الفهم، ورفض تحمل مسئولية أزمة لا يراها من صنعه، هو لا يقول فقط إنه حزين أو مستاء، بل يصوغ إحساسًا بالظلم "هناك من يحمله مسئولية ما يجرى للفريق، بينما يرى هو نفسه خارج دائرة الخطأ". الصورة الأبرز فى هذا الخطاب هى صورة "الرمى تحت الحافلة"، هذه الاستعارة، تختصر موقفًا كاملًا، هناك فريق يجب حمايته، ومن السهل التضحية بلاعب واحد أمام الجماهير لإطفاء غضبها، حين يستخدم صلاح هذه الصورة، فهو لا يتكلم عن تغيير تكتيكى بل عن شعور حاد بالإهانة. فى الوقت نفسه، لا يغلق الباب أمام الجماهير، على العكس، يبدو خطابه موجّهًا إليها، تذكير متكرر بما قدمه لهم، وبما صنعه معهم، وكأنه يقول لهم "أنا واحد من أبطال حكايتكم، فلا تجعلونى وحدى فى هذه المعركة". من خلاف فنى إلى صراع على الاعتراف محتوى التصريح يكشف أن الأزمة تتجاوز الحسابات الفنية، وأن سؤال صلاح الحقيقى ليس: "لماذا لا ألعب؟"، بل: "لماذا أعامل بهذه الطريقة؟" هنا يتحول الخلاف من مسألة من يبدأ مباراة ومن يجلس احتياطيًا إلى قضية أعمق "من يملك حق تعريف المشكلة؟ هل النادى هو من يقرر أن صلاح أصبح عبئًا، أم أن صلاح نفسه له حق فى الدفاع عن صورته ودوره؟ يعرف محمد صلاح أن خروجه إلى الإعلام بهذه النبرة، يجعل من القضية قضية رأي عام، لا تفصيلة داخل غرفة الملابس، فهو يستدعى قوة الرأى العام، ويضع الإدارة والجهاز الفنى تحت الضغط.