احتشد سكان الإسماعيلية فوق الأماكن العالية على طول حواف قناة السويس ينتظرون فى قلق قدوم السفن التى تحمل الملوك والأمراء، الذين دعاهم الوالى إسماعيل باشا لحضور الحفل الذى يدشن افتتاح القناة فى 17 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1869، وفقا لما يذكره «روبير سوليه» فى كتابه «مصر ولع فرنسى» ترجمة «لطيف فرج»، مضيفا: «فى نحو الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر تراءى من فوق التلال الرملية دخان خفيف وطرف صارى السفينة. إنها السفينة الملكية «الإيجل» التى تقل إمبراطورة فرنسا «أوجينى»، وأطلقت جميع بطاريات المدافع طلقات التحية، وصفقت الجماهير الغفيرة». كانت «أوجينى» نجمة الحدث كله، ويذكر «سوليه» أنها وقفت فوق مؤخرة سفينتها تلوح بمنديلها، و«ديلسيبس» إلى جوارها، وطارت القبعات فى الهواء، وبكى مهندسون ووزراء كالأطفال، ويذكر نوبار باشا وزير إسماعيل باشا ومستشاره فى مذكراته: «ألقى قسيس كان ضمن حاشية «أوجينى» كلمة، ثم نهض شيخ الأزهر وبارك باسم الله عمل هؤلاء الرجال، الذى ترجم إلى مشروع كبير مفيد للإنسانية». أراد إسماعيل باشا لهذه المناسبة أن تكون حديث الدنيا، ويؤكد «نوبار»: «كانت تجهيزات الحفل تشغله، كان من اختصاصه أن يشرف على كل شىء، يتدخل فى أقل التفاصيل، ينظم كل شىء»، ويذكر «إلياس الأيوبى» فى كتابه «تاريخ مصر فى عهد إسماعيل باشا»: «أرسل يستحضر خمسمائة طاه، وألف خادم من فرنسا وإيطاليا زيادة على طهاته وخدمه المصريين، وبعث يرجو «ديلسيبس» بأخذ الاستعدادات اللازمة لضيوفه ستة آلاف مدعو». يؤكد «الأيوبى» أن من عواهل أوروبا الذين لبوا دعوته، الإمبراطورة «أوجينى»، و«فرنتر يوسف» إمبراطور النمسا، وملك المجر، و«فرديرك فلهلم» ولى عهد التاج البروسيانى وقرينته ابنة الملكة فكتوريا، و«هنرى» أمير هولندا والأميرة قرينته، و«لويس» أمير الهس، كما دعا جمهورا غفيرا من رجال الأدب والعلم والفنون والتجارة الكبرى ومراسلى الجرائد الغربية المهمة، على أن كثيرين ممن لم تكن لهم حيثية على الإطلاق، تمكنوا من الحصول على أوراق دعوة بأسمائهم وحضروا بها، ويقال إن عدد هؤلاء المتطفلين زاد على ثلاثة آلاف. يضيف «الأيوبى» أنه فى صباح 17 نوفمبر كان شاطئ بحيرة التمساح غاص بالأمم والجماهير والقبائل القادمة إلى مشاهدة الحفلات، أو المرسلة هناك بأمر من إسماعيل، حيث أراد أن يرى ضيوفه نماذج من الأمم الخاضعة لصولجانه وصورة صغيرة من عاداتها، فأمر جميع مشايخ العربان ومشايخ البلدان من الإسكندرية إلى أقاصى السودان بإرسال وفود من قبائلهم وسكان نواحيهم إلى الإسماعيلية فى مظاهر حياتهم اليومية، فازدحمت ضفاف البحيرة بخيم العربان و«عشش» الفلاحين، وأكواخ الأمم السودانية التى كانت تأوى ألوف من البشر والأشخاص مختلفى الألوان، والشكل والملبس والنوم بأولادهم ونسائهم، وكانت تلك الأقوام كلها وهى محجوزة عن ضفاف الترعة بصف ممتد على طولها، تنتظر بفارغ الصبر ظهور البواخر المقلة للإمبراطورة والملوك. يذكر «سوليه» نقلا عن الكاتب والرسام الفرنسى «أوجين فرومانتان» الذى حضر الحدث: «فى المساء، الإضاءة الزينية فى كل مكان، إطلاق الألعاب النارية أمام قصر إسماعيل، الموائد مفتوحة فى كل مكان، خيمة كبيرة لإطعام خمسمائة شخص، وخيمة أخرى لمائتين أو ثلاثمائة شخص، مائدة قصر الحاكم هى أفضل الموائد جميعا، وأكثرها طرافة، الطعام باذخ، نبيذ فاخر، وسمك شهى، وحجال، وبط برى، إطعام سبعة أو ثمانية آلاف شخص فى الصحراء، مزيج غريب بين بذخ شديد وفخامة غير مألوفة وبين فاقة لا تصدق». يؤكد «الأيوبى»: أكل الجمع المحتشد من الطعام الفاخر أكلا هنيئا، وشرب شرابا فاخرا، وتجاوز بعضهم فى ذلك الحد»، ويضرب مثلا على ذلك، قائلا: «أحد الفرنسيين نهض عن المائدة بعد أن التهم ما عليها من طعام، ومر بيديه على بطنه مملسا صديريه الفسيح، وقال مبتسما لصديق له يجلس على نفس المائدة: «إنى أكلت ثروة ثلاثة فلاحين مصريين. يضيف «الأيوبى»: «بعد الفراغ من تناول طعام العشاء، أقام الخديو مرقصا لعموم مدعويه، تحت رئاسة «أوجينى»، بذل فيه ما لا يستطيع قلم وصفه من البذخ وصنوف اللذات ودواعى السرور، ورتب فيه مقصفا حوى ألذ ما طاب من صنوف المآكل والمشروبات، واشترك فى الرقص أصحاب التيجان أنفسهم»، ويضيف «الأيوبى»، أن أوجينى الإمبراطورة العظيمة، وباقى الأمراء والأميرات والخديو نفسه، الرجل الوقور، كانوا يرقصون ويمرحون كباقى المدعوين وأكثر، ولم يمنع تقدم السن ديلسيبس من أخذ نصيبه من الرقص والملاهى الأخرى، ويؤكد الأيوبى: «كان الأمير عبدالقادر الجزائرى حاضرا لكنه لم يرقص ولم يقصف، وبقى متفرجا فقط ملتحفا هيبته وجلاله». يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من كتابه «عصر إسماعيل»، أن إسماعيل أقام لمناسبة افتتاح القناة حفلات فخمة لم يعرف التاريخ احتفالا يدانيها فى الإسراف والتبذير، ويضيف: «يكفى دليلا على ذلك الإسراف أن نعرف أن نفقات الحفلات بلغت على أصح تقدير مليونا و400 ألف جنيه».