تمثل السينما المصرية في الفترة الراهنة، وتحديدا ما بين عامي 2024 و2025، نقطة تحول واضحة. نحن لا نشهد مجرد انتعاش في الإنتاج، بل ولادة موجة جديدة يقودها جيل من المخرجين والمخرجات الشباب الذين يمتلكون حساسية فنية عميقة ورؤية بصرية وفكرية تتجاوز الاستهلاك السريع، وفي الوقت نفسه، يدركون بذكاء متطلبات السوق التجاري. إن هذا التوازن الدقيق بين الرؤية الفنية البحتة والجدوى الاقتصادية هو الضمان الحقيقي لاستدامة هذه النهضة، مما يبعث على تفاؤل مشروع حول مستقبل الصناعة. شهدت الصناعة السينمائية انتعاشا ماليا ملحوظا، حيث تجاوزت العائدات الإجمالية للأفلام حاجز المليار جنيه مصري، مما يوفر بيئة أكثر مرونة للتجارب السينمائية الجديدة. لم يعد النجاح حكرا على أفلام الأكشن أو الكوميديا الصارخة، بل بدأت تظهر نوعية جديدة من الأفلام التي تميل إلى المغامرة النوعية، وهذا مؤشر على أن السينما المصرية تستعيد هامش المغامرة الإبداعية. إن هذه الظواهر كلها تشير إلى بشائر سينما القرن الجديد، التي ترفض الخضوع للتصنيفات الجامدة. من أبرز ما يميز هذه الموجة هو العودة القوية لمفهوم "المخرج المؤلف". لقد تزايد عدد الأفلام الروائية الطويلة التي يسيطر فيها المخرج على عملية التأليف والإخراج معًا. هذا التزايد يعكس إصرار الجيل الجديد على تحقيق سيطرة فنية كاملة، من الفكرة الأولية إلى التفاصيل النهائية للصورة. إنهم يؤمنون بأن السينما يجب أن تكون هي "السجل البصري للهوية الوطنية والسياسية المتغيرة"، وهذا التمكين الفكري يغذي الحس الجمالي الفني لهذه الموجة، ويضمن أن الأعمال تحمل عمقا فكريا يبعدها عن مجرد كونها منتجا تجاريا عابرا. يُعد كريم الشناوي نموذجًا للمخرج الذي يستطيع أن يدمج ببراعة الموضوعات الإنسانية المعقدة بلمسة بصرية أخاذة واستراتيجية إنتاج ذكية. في فيلمه "ضي" (سيرة أهل الضي)، قدم الشناوي تجربة تمس قضايا الهوية والتمكين من خلال قصة فتى نوبي مصاب بالألبينو، يحمل صوتا ذهبيا ويتعرض للتنمر، لكنه يتمسك بحلمه. إن المعالجة الإخراجية للشناوي لم تحصر الفيلم في دائرة مرض بعينه، بل حلق بالقصة إلى فضاء إنساني أرحب. عند مشاهدة الفيلم، نشعر بأن الحكاية تحلق في ما هو ابعد وأعمق من ذلك، متحولة إلى رحلة إحساس بالآخر وقهر للخوف. هذه المعالجة البصرية الشاعرية ليست مجرد تجميل، بل هي جوهر الحس الجمالي الذي يرفع من قيمة العمل. ولم يكن نجاح الشناوي مرهوناً بالرؤية الفنية فقط، بل أيضًا بذكائه التجاري. لقد اعتمد على استراتيجية الإنتاج الذي يضع عينه على السوق من خلال جذب عدد كبير من النجوم كضيوف شرف، وعلى رأسهم عودة الكينج محمد منير. كان هذا تكتيكا واعيا لضمان حصول الفيلم النوعي على جماهيرية، محققاً التوازن الصعب بين العمق الفني والجدوى التجارية. وفي فيلمه "السادة الأفاضل"، الذي لا يصنف ككوميديا فقط، بل يصفه بأنه مزيج من الجونرات. هذا الرفض للتصنيف الدقيق يؤكد تبني الجيل الجديد ل السينما عبر النوعية التي تعتمد على كوميديا الموقف والشخصيات المعقدة، مما يسمح بتقديم أفكار عميقة ضمن إطار جماهيري جاذب. في خط مواز، يبرز المخرج عمر رشدي حامد بتقديم دراما واقعية، مغامرا بالابتعاد عن صخب شباك التذاكر المعتاد. ففي فيلم "فيها إيه يعني" (2025)، يقدم حكاية عن قصة حب قديمة تبعث من جديد بين محاسب متقاعد وربة منزل، وهما في مرحلة عمرية متقدمة. إن هذا الاختيار الإخراجي يمثل جرأة فنية حقيقية في سوق غالبا ما يركز على قصص الشباب. لقد اختار حامد أن يقدم سينما ناضجة، تستهدف شريحة عمرية ناضجة وقصصها المعقدة. هذا التخصص يمثل إثراء للتنوع الإنتاجي للموجة الجديدة. هذا العمل، الذي نجح في أن يكون منعشا، يمثل فتحا كبيرا ل السينما المصرية، ويؤكد قدرة الجيل الجديد على إتقان سينما العلاقات المعقدة التي تعتمد على قوة الأداء ومتانة السيناريو، لتترسخ بذلك البعد الإنساني كقيمة جمالية عليا. إن هذه الموجة ليست قاصرة على المخرجين، بل تشمل مخرجات شابات أثبتن حضورهن بقوة، ليس فقط في السينما الروائية (مثل أيتن أمين ونهى عادل)، بل كذلك في تحقيق انتصارات عالمية. شهد عام 2024 حدثا استثنائيا تمثل في فوز الفيلم التسجيلي "رفعت عيني للسما" للمخرجة ندى رياض وشريكها أيمن الأمير بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم تسجيلي في مهرجان كان السينمائي. هذا الفوز التاريخي يؤكد قدرة السينما المصرية على المنافسة على أعلى المستويات الفنية العالمية. يتناول الفيلم قضايا اجتماعية شائكة وضرورية، مثل الزواج المبكر والعنف الأسري وتعليم الفتيات، من خلال قصة فرقة مسرحية نسائية في صعيد مصر. إن التركيز على القضايا الأصيلة في الصعيد والتعامل معها بلغة سينمائية ناضجة وذات أفق روائي يبرهن على أن العمق الفكري والصدق في التناول الموضوعي هو ما جذب الإشادة العالمية. هذا العمل يجسد فهم هذا الجيل، رجالا ونساء، لدور السينما كأداة للتغيير وتوثيق الهوية، وليس مجرد وسيلة ترفيه. لقد أثبتت الموجة السينمائية المصرية الجديدة، بقيادة أسماء مثل كريم الشناوي وعمر رشدي حامد والمخرجات ندى رياض وأيتن أمين، قدرتها على تحقيق التفاهم النقدي والجماهيري. هذا الجيل لا يقلد الأنماط السائدة، بل يدمج استراتيجيات الإنتاج الذكية مع العمق الفكري والأسلوب الإخراجي الفردي. إن التفاؤل بمستقبل السينما المصرية ليس مجرد أمنيات، بل هو مستند إلى واقع منجزاتهم الواضحة بصريا وفكريا، مما يبشر بعودة حقيقية للريادة الإبداعية في المنطقة.