دعني أهديها لك أولًا حتى تقرأ وأنت معفي من مجهود التحليل والتفسير والاتهام.. نعم أنا ضمن من هللوا لعملية طوفان الأقصى، ثم ما لبثت أن انتقدتها وقدمت مراجعات فكرية، بعدما أعدت قراءة الأحداث، وفقًا لحسابات الأرباح والخسائر، وتطورات الأوضاع على الأرض، أو دعني أحدد لك بالضبط موعد رجوعي، حين دخل الصهاينة غرف أهلنا سيرًا على الأقدام، وقتها شعرت بالإهانة الإنسانية قبل حتى الخسائر البشرية والمادية، فكان مني أن تُبت عن التأييد دون تحليل دقيق للتبعات، وعليه قأنت الآن تقرأ لشخص لا يرى في عملية 7 أكتوبر شيئًا إيجابيًا مما تصفون، ولك أن تكمل معي على هذا الأساس، أو تنسحب وانت تنعتني بمجموعة الاتهامات التي لن تغير من الواقع ولا من موقفي، ولا من أي شيء، لكنها ربما تريحك.. فهذا شأنك. بعد أن منحتك حق تصنيفي، وأرحتك من عناء التحليل والتفسير، دعني أخبرك صراحة أني لست ذلك الشخص الذي يكره فكرة المقاومة، بل ليست لديّ فوبيا أي شيء من حيث المبدأ، لكني هذا الذي يكره الحماقة، وبنفس الدرجة والجدارة أقدِس المسؤولية، ولا تعجبني وجاهة ولا نبل الفكرة، قبل انتظار دقة التنفيذ وتبعاته، ولديّ يقين أن للمقاومة أشكالًا عدة غير تلك التي يدفع فيها الأطفال والنساء الثمن بهذه الفداحة، وعليه فلنغلق المزاد على هذه البضاعة، ونعتبرها نقطة التقاء من حيث المبدأ، ونتحدث حديث العقل والأرقام والمسؤولية، وكن مستعدًا للخلاف. حين كنت أتابع بشكل لحظي، وبدقة مآلات الأمور بعد العملية، كنت أنتظر شيئًا شديد الأهمية بالنسبة لي، وهو سيناريو حماية المدنيين، خاصة الكبار والنساء والأطفال، ولم يكن يخطر ببالي أنه لا خطة لتجنيب هؤلاء ويلات المواجهة المباشرة مع عدو، يعرف هو، ونعرف نحن، ويعرف من خطط وقرر أنه لن يتوانى عن الانتقام بكل خسة، وعليه كرهت رؤية معاناة هؤلاء، وتمنيت ألا تحدث، وللأسف شاهدت ما لا يسرني ولا يسر أحدًا على وجه الأرض في قلبه شيء من رحمة، إذ دفع المستضعفون الثمن أولًا، وشاهد العالم وعلى مدى عامين وأيام، كيف دنّست أحذية الصهاينة كل مقدس، يتعلق بالدين، وكل مقدس يتعلق بالشرف وخصوصية الناس ومنازلهم، وقتها قلت إننا نسير في الطريق الخطأ، وانتقدت بشدة عدم وجود خطط لحماية هؤلاء الناس، وبدأت أرفع شعارًا يقول إن البطل هو من يوقف هذه الحرب، وليس من ينفخ في نيرانها، طالما فشلنا في حماية نسائنا وأطفالنا وكبارنا.. فهل يرى مندوبو توزيع صكوك القومية وحراس القضية عيبًا في هذا الطلب، أم لا يرون أن الحرمات قد انتهكت، وأن ما قيل في هذا الشأن محض افتراء؟ هالني ما رأيت من عذاب الناس، وما تابعت من آلامهم، وبنفس القدر من الأسى صدمني أن أسمع أحد المسؤولين عن هذه الأرواح يقول صراحة إن حمايتهم مسؤولية الأممالمتحدة، وليست مسؤولية المقاومة، ودون التطرق لمزيد من تفاصيل يعرفها الجميع، فإن شيئًا من العقل يدعونا لطرح السؤال الأول.. كيف تطرح عليّ نفسك لتحكمني، وتتولى هذا الأمر بالفعل، ثم تتنصل من مهمة حمايتي؟.. والسؤال الثاني، هل يعني هذا الكلام أنك كنت تعلم أنني سوف أتعرض لهذه الإبادة، ومع ذلك قررت المضي قدمًا في فكرتك؟.. ثم دعني أذكر لك بعضًا من التفسيرات المنطقية في السؤال الثاني، وأقول إنك إذن شريك في القتل، بنفس الدرجة والوزر، وربما أكثر من العدو. ثمة قتلى لو بكيناهم عمرًا ما أعطيناهم حقهم، وأيضًا ثمة جرحى لا يرجى شفاؤهم يستحقون البكاء المستمر، وقد تحققت هاتين المأساتين في قطاع غزة، إذ رأينا قتيلًا ببشاعة تحت أنظار أطفاله، يخلف وراءه همومًا أكبر من القدرة على حملها، وجريحًا طفلًا، لا يرجى شفاؤه، سيظل عاجزًا مدى الحياة.. هؤلاء لم يكونوا بضعًا في الأرقام، ولم يقدروا بالعشرات ولا المئات، بل ولا الآلاف، إن عددهم يقرأ ويُكتب ويحصى بعشرات الآلاف، أصفار كثيرة على يمين الرقم الصحيح، لا ترفع عدد خسائر مادية، بل هي عدد خسائر في الأرواح.. أهؤلاء أرقامًا فقط؟.. أم أن أحدًا منهم طلب الموت؟.. وهل من ساهم في موتهم حصل على موافقتهم على فكرة الموت؟.. سوف أدعك تجيب على ما سبق، وبعدها تجيب على ما هو أهم.. بأي ذنب قتلو؟.. وبأي مكتسب قتلوا؟.. وماذا جنينا بعد قتلهم؟.. وهل كنت تنتظر من الصهاينة حفظ أرواح أهلك؟.. أم كنت تعلم علم اليقين أن هذا سيحدث؟.. إن كنت تعلم وتركتهم لمصيرهم فتلك مصيبة.. وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم! لا أمل لأمة لا تحسب قبل أن تنفذ، ولا مستقبل لأي مجموعة بشرية على الأرض، لا تسأل قبل أن تفعل، ولا تجلس تحسب المكاسب والخسائر بعد أن تفعل، ولا تراجع مواقفها ولا تتعلم من دروس الماضي، بل إن الضمانات الأساسية لبقاء الأمم على قيد الحياة وفي ذاكرة التاريخ البشري تتعلق كلها بالحسابات الدقيقة والمنطقية، والبعد عن العشوائية والاندفاع، وعكس ذلك تكون النتائج كارثية، ذلك أن فضيلة المراجعة تجنب الإنسان شر الوقوع مرتين في الخطاً الواحد، وتكرار الخطوات ذات النتائج السلبية. أتصور أن جميعنًا يسمع عن فقه الأولويات، وعلى رأسنا من قرر الطوفان، وأيضًا جميعنا يعرف بالفطرة أن حماية الأعراض مقدمة على جلب أي منافع، فهل في دهس أقدام الصهاينة غرف النوم تحقق هذا الفقه بأي درجة؟.. وهل في هذه المشاهد شرف ما نعزي به أنفسنا؟.. إني شعرت بالوهن والضعف والإهانة والعار مع كل فيديو لصهيوني داخل منازل أهالينا، وكانت تلك ضمن الأسباب القوية والأولى لمراجعتي عن تأييد الطوفان، إذ أنه لا معنى لقدرتي على حماية من اختطفتهم للمساومة بهم، وتركي لأهلي يعانون الذل، والحقيقة لا يمكن لعاقل ادعاء أي شرف في هذه المشاهد، كما لا يمكن وبنفس الجدارة غض الطرف عن هذا العار، تحت أي تبرير أو تجميل للصورة. خلال الحرب، كتبت على استحياء منزعجًا من عدم وجود تصور لحماية الناس، وقلت إن للمقاومة أشكالًا عدة غير تلك المهينة شديدة البشاعة والخسائر، وكان البغض يسموننا المرجفون في المدينة، رغم أنهم كانوا يرون مثلنا أن المدينة لم تعد على قيد الحياة، بشر وحجر وشجر، حتى نرجف فيها، وما كنا نكتب إلا لإنقاذ الناس، ووقف القتال بهذا الشكل البشع وهذه الكثافة في الأعداد، والعجيب أن من يجلسون مثلنا في مقاعد المتفرجين، كانوا يزايدون على الجميع وعلى من يعاني الموت والدمار والنار، ويكتبون نفخًا في النار، التي هم بعيدين عنها، وفي مأمن من لهيبها.. فأي منطق وأي مروءة وأي ثمن يدفعه أولئك المشاهدون تجعل منهم مالكًا لصكوك القومية وموزعًا لها؟.. عاينت كل الردود التي واصلت الدفاع عن قرار الطوفان، ووجدتها تتمحور جميعها حول مكتسب واحد، يقول إننا ربحنا عودة القضية من طي النسيان، واهتمام المجتمع الدولي بها، ولهم أقول، أكل هذه الخسائر ثمنًا مكافئًا لهذا المكتسب؟.. أيفرح أهلي بقتلي لمجرد إظهارنا مظلومين أمام العالم، وتبني سرديتنا؟.. أم أن قتلي ثمنه أرض وتحرير ودمي مقابله دم؟.. أما كان لنا أن نجد صياغة أقل في الخسائر نحصد بها هذا المكتسب المعنوي الذي سينتهي بانتهاء الحرب؟.. ثم ماذا سنجني على أرض الواقع من إعادة القضية لحظيًا لذاكرة العالم؟.. إن سرديتنا لم تكن هي سبب تعاطف العالم ولا عمليتنا في السابع من أكتوبر ولا طرحنا بعده، بل أن الدماء الغزيرة التي سالت هي من أيقظت ضمير البعض.. والمجاعة والمشاهد غير الآدمية التي ملأت الصورة، ثم فيما فخرك أصلًا بتعريض أهلك للهلاك والعار كي يراهم العالم مظلومين ؟.. حتى تبييض السجون لم يحدث، وباليقين لا تحرير فيما حدث، بل كان تكريسًا وتعزيزًا للاحتلال! والآن، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، ولن يكون كلامنا إرجافًا، ولا كسرًا للهمم والعزائم، لكن على الحر منا أن يسأل الآخر.. ماذا ربحنا؟.. وماذا خسرنا؟.. ونقول إن الشاهد في الأمر، وربما الداعي للكتابة بالأساس هو المراجعة، فتاريخ هذه الأمة به الكثير من الخطوات غير المحسوبة، وربما لأننا لم نقف بعد كل واحدة ونحاسب أنفسنا، تتكرر الخطوات على الطريق ذاته، وبنفس السيناريوهات السابقة، فهل لنا أن نقف هذه المرة، ونتعلم كيف نحسب، وكيف نخطط، بل نتعلم أن الحديث الذي يوافق هوانا هو الجدير بإعادة التفكير فيه، وتحليله، وإخضاعه للحسابات المنطقية، وقد كان 7 أكتوبر حدثًا وحديثًا وافق هوانا كلنا، وآن أوان تقديم الهوى للمحاسبة والمحاكمة.