البعض يموت وتودعه اسرته واحبابه.. والبعض الآخر يرحل وسط دموع وطن.. ولكن قليلون هؤلاء الذين تبكيهم الإنسانية كلها وكان مانديلا واحدا من هؤلاء، بل إنه كان نسخة فريدة لم تتكرر كثيرا في تاريخ البشر. شخص واحد جمع كل هذه الملايين على حبه وتقدير دوره وتنصيبه زعيما للثوار في كل زمان وفي كل وطن.. رحل مانديلا اشهر سجناء العصر الحديث فلا يوجد مكان في العالم الا وقرأ شيئا من سيرته ولا توجد لغة في الدنيا الا وسطرت حكايته وبعد ان انتهت الرحلة أسلم مانديلا الروح وهو ينظر الى شعبه من بعيد بعد ان هدأت كل الأشياء ليري امة ممزقة جمعها وداوي جراحها.. ويرى شعبا غرق سنوات طويلة في بحار الدم لتمتد له اليد التي حررته وانطلقت به بكل العناد والإصرار والكبرياء الى آفاق المستقبل والحياة الكريمة.. اختلف الناس كثيرا في تحديد مفهوم الثائر البعض رآه انسانا حالما يسعى لتغيير الواقع نحو غد افضل.. والبعض الآخر رآه انسانا متمردا على الظلم بكل الوانه، وهناك من رأه انسانا يسير ضد حركة الأشياء والزمن ليخلق زمانا جديدا إلا ان مانديلا كان كل هؤلاء.. في شبابه عاش حالما بوطن اكثر انسانية يعيش فيه البشر كل البشر بحقوق متساوية.. وفي سجنه ظل متمردا على واقع بغيض استباح ارادة شعبه وفي سنوات كفاحه ضد العنصرية، كان يؤمن انه قادر على ان يسير ضد حركة الأشياء ليخلق مجتمعا جديدا وزمانا جديدا يعيش فيه البشر من ابناء وطنه في ظل مجتمع يحفظ كرامة كل ابنائه السود والبيض معا وقد استخدم كل اساليب الثوار في رحلته لإنقاذ وطنه، استخدم الكلمة واستخدم الحشود حتى وصل الى الصراع المسلح ضد الاستبداد والعنصرية. إن اسطورة مانديلا لم تأت خارج سياق وطنه وحياته ودوره فهو الطفل الصغير الذي ولد على رأس قبيلة ورأى والده فيها ملكا على الجميع، وحين رحل والده كان ينبغي ان يحتل سلطان ابيه ويصبح الوريث لهذا الملك ولكن امراض الوطن الذي عاش فيه واللون الذي حمله والواقع المرير الذي فرض عليه كل هذه الأشياء حالت بينه وبين احلامه الصغيرة في هذا العمر.. انتقل بين المؤسسات التعليمية طفلا وشابا ورجلا.. وتلقى دروسه في اكثر من مدرسة واكثر من جامعة حتى اصبح محاميا وربما كان اول شاب اسود يحمل هذه الصفة في ارجاء هذا الوطن الفسيح.. وحين مارس المحاماة وقرأ القضايا والمرافعات والأحكام ازداد إحساس المرارة لديه امام الوان الظلم والقهر والاستبداد التي تعرض لها السود في جنوب افريقيا امام التمييز العنصري البغيض.. وكان هذا كافيا لأن تكبر في اعماقه اشجار التمرد والثورة على هذا الواقع الكريه.. انضم الى حزب المجلس الوطني واصبح مسئولا عن اهم الفصائل فيه وهي المقاومة المسلحة.. ولنا ان نتصور الشاب الحالم والمحامي الذي يدافع عن حقوق الناس وهو يحمل السلاح ليقاوم الظلم الذي يتعرض له ابناء وطنه من السود ولم يتردد في ان يحمل حقائبه وينضم الى صفوف المقاتلين في الجزائر ضد الإحتلال الفرنسي ليتعلم المقاومة ويأخذ دروسا في النضال.. وحين عاد الى وطنه في عام 1962 وقد أخذ دروسا كثيرة مع ثوار الجزائر وجد حكما جاهزا لاستقباله لتبدأ اطول رحلة في السجون قضاها مانديلا في سجن جزيرة روبن وقد تحول السجن الآن الى مزار سياحي لكل عشاق الحرية في العالم. في سنوات سجنه التي تجاوزت ربع قرن من الزمان كان حريصا ان يبقى مدافعا عن حرية شعب وليس حرية مواطن ورغم العروض التي تلقاها من السلطات المستبدة للإفراج عنه مقابل ان يدين المقاومة المسلحة ضد البيض فإنه رفضها جميعا مؤكدا انه يطالب بحرية شعبه وليس الإفراج عنه.. سنوات طويلة عبرت على مانديلا في السجن مات ابنه في حادث سيارة عام 1969 ورفضت السلطات ان تسمح له بوداع ابنه والمشاركة في جنازته.. ثم مات ابنه الثاني بمرض الإيدز وارتبطت زوجته اويني مانديلا بقصص حب عابرة في سنوات سجنه.. رغم كل هذه الكوارث لم تتغير قناعاته وثوابته ودفاعه عن حق شعبه في الحرية والديمقراطية والحياة الكريمة.. تجاوزت احلام مانديلا كل مطالب الأشخاص العاديين في الأسرة والزوجة والأبناء.. إنه راهب وهب حياته لقضية واحدة هي الحرية واعطى عمره بكل السخاء لشعبه الأسود وحقه في الوطن والكرامة.. طالت ليالي السجن على مانديلا والعالم كل العالم يصرخ من بعيد مطالبا بالإفراج عنه، خرج طلاب الجامعات والمدارس في اوروبا وامريكا يطالبون بالحرية لمانديلا.. وزينت صورته وملامحه السوداء وابتسامته البريئة ملايين الجدران في البيوت والشوارع في كل دول العالم.. وتحول مانديلا من انسان الى رمز وتحول الرمز الى قضية وتحولت القضية الى صرخات يطلقها المظلومون في كل بلاد الدنيا ولم يقتصر الأمر على نزلاء السجون ولكنه جمع سجناء الأوطان في كل ارجاء الكون.. وجد العالم نفسه امام اسطورة مانديلا الثائر والمقاتل والباحث عن الحرية وشهيد الإنسانية في كل زمان ومكان. كان مانديلا حريصا في سجنه على ان يؤكد للبيض والسود معا معنى المواطنة اننا جميعا شركاء وطن مهما اختلفت الواننا وعقائدنا وافكارنا، وان اول مبادئ المواطنة ان الحرية حق للجميع.. دروس صاغها الرجل بسنوات عمره وهو يزحف نحو الشيخوخة وتتسرب من بين يديه سنوات العمر ما بين احلام تنزوي ووطن جريح ودماء تغرق وجه الحياة. كان من المستحيل امام صرخات العالم ان يبقى السجين خلف القضبان وكان من الصعب ان تصر سلطات الطغيان في جنوب افريقيا وبعد 27 عاما على بقاء مانديلا سجينا. وهنا كان قرار الإفراج عنه يوم الأحد 11 فبراير عام 1990 وحين خرج مانديلا حرا طليقا من السجن وقف امام شعبه مطالبا بوقف الصراع المسلح والمضي نحو مجتمع حر جديد.. وعارضت بعض فئات شعبه هذا التوجه فقال لهم مقولته الشهيرة ابحثوا عن زعيم آخر إذا كان رأي مانديلا لا يرضيكم.. هنا بدأت رحلة المواطنة الحقيقية التي منحها الرجل عمره سجينا ومقاتلا وصاحب فكر ثم صاحب قرار. في عام 1993 صدر دستور جنوب افريقيا الجديد مقررا حكم الأغلبية وفاز اشهر سجناء العالم بالرئاسة في عام 1994 ليقف امامه مئات القادة والسياسيين البيض الذين سجنوه واهدروا حقوق شعبه وهو يهتف بين الجميع لا وقت إلا للبناء لأن الأحقاد لا تبني اوطانا والكراهية لا تصنع شعوبا.. في سنوات قليلة استطاع مانديلا ان يوحد شعبه ويجمعه على كلمة واحدة وتحولت جنوب افريقيا الى شيء آخر ووطن آخر وزمان آخر والسجين الأسود المقهور يجلس على قمة السلطة لقد اغلق كل ابواب الانتقام واسدل الستار على جرائم الماضي وادار حملة ناجحة لمحاربة مرض الإيدز الذي التهم خمسة ملايين مواطن من ابناء بلده وكان ابنه احد ضحاياه.. جمع العالم كله حول مائدة الرياضة دار التسامح والمحبة في كأس العالم.. سامح زوجته ورفيقة كفاحه اويني مانديلا قائلا لقد تزوجتها وهي فتاة صغيرة وكنت امضي نحو الأربعين وقضيت سنوات عمري سجينا وكان من حقها ان تعيش حياتها كما ارادت.. وطلقها.. ولم ينس رحلته مع الشيخوخة فتزوج وهو في آخر محطات الخريف جراسا ماشيل ارملة رئيس موزمبيق ليقضي معها آخر سنوات عمره. ولكي يقدم للعالم درسا من دروس الحكم الرشيد قرر ان يترك السلطة بعد فترة واحدة في الحكم وانسحب في عام 1999 رافضا الإستمرار تاركا قيادة السفينة لأجيال اخرى احق بأن تحكم وان تتعلم وتخطئ وتصيب. كان قادرا على ان يبقي في السلطة سنوات وسنوات ولكنه رأى ان سلطانه الحقيقي هو قلوب الملايين من ابناء وطنه والبلايين في كل بلاد الدنيا التي وجدت فيه القدوة والنموذج ثائرا وسجينا ومقاتلا وصاحب قرار وقبل هذا كله عاشق من عشاق الحرية الكبار، سوف يتوقف التاريخ طويلا عند اسطورة مانديلا التي تحولت الى اغنية المناضلين في العالم من اجل الحرية والكرامة الإنسانية. وبعد غد يتوارى جسد مانديلا في جنوب افريقيا وسوف تنبت حول قبره اشجار كثيرة تتغنى بالحرية وتحلق طيور كثيرة مختلفة الألوان والأطياف والرؤى وتهبط امطار غزيرة كأنها دموع السماء تدعو للتسامح وتؤكد المعنى الحقيقي للمواطنة في تاريخ البشر، إننا ابناء وطن واحد يجمعنا الحب وتوحدنا الأحلام في غد اكثر تسامحا وعدالة.. فإذا فرقتنا الأفكار والرؤى وإذا فرقتنا الحروب والصراعات والمعارك، ففي ذكرى مانديلا شيء واحد يجمعنا هو الإنسانية واحة كل البشر وغاية كل عشاق الحياة. .. ويبقى الشعر يا أيها الجلاد.. ارحل عن ربوع مدينتي دع أغنيات النورس المقهور.. تشرق فوق وجه سفينتي دع فرحة الفجر الذي سجنوه في وطني تعانق فرحتي كل الملامح هاجرت كالحلم دعني كي أري وجهي وأرحل في عيون حبيبتي فمتي أعود إلي بلادي ؟ إنني سافرت من وطني إلي وطني.. وطالت غربتي دعني ألملم في بقايا العمر.. ما أقساه موت كرامتي إني سأقتل كل فئران الحديقة.. واللصوص.. ومن أضاعوا هيبتي من نصبوا الطغيان سلطانا فداسوا ضوء عيني.. واستباحوا أمتي يا أيها الجلاد سيفك لم يعد أبدا يهز سكينتي إني سأطلق من قبورك غضبتي حطمت أصنام المعابد كلها وعرفت في زمن النخاسة أين تاهت قبلتي حريتي.. يا قبلتي.. يا دمي المهزوم في صدري ويا حلمي الذي صلبوه جهرا.. في سماء مدينتي يا صوتي المخنوق في زمن الموالي.. يا نزيف براءتي يا أيها الوطن الذي قتلوه في عيني وراحوا يسكرون علي بقايا مهجتي حريتي.. يا قبلتي يا موطني.. مهما تغربنا وضاعت في الدروب هويتي ميعادنا آت.. فضوء الصبح.. يرفع كل يوم جبهتي.. قد كنت أدمنت الظلام.. وداست الأقدام عمرا.. قامتي يا أيها الجلاد قد دارت بنا الأيام لا تنظر لرأسي.. إن رأسك غايتي يا أيها الجلاد.. لا تطلق خيولك في دمي نيشانك المهزوم تاجر.. من سنين في بقايا أعظمي قد بعتني حلما وبعت العمر أطلالا وبعت الأرض إنسانا بأبخس مغنم قد بعت للأصنام توبة مسلم وأقمت عرسك في سرادق مأتمي ودفنت ضوء الصبح.. في سرداب ليل معتم كبلتني بالصمت.. حتي ماتت الكلمات حزنا في فمي قيدتي حتي ظننت بأن هذا القيد يسكن معصمي وقتلتني حتي ظننت بأن قتل النفس.. في الأديان غير محرم فإلي متي.. ستظل تركع للضلال وبين أحضان الخطايا ترتمي ؟ وإلي متي ستظل خلف سجون قهرك تحتمي ؟ اخرج لتلقي ياعدو الله.. حتفك في المصير المؤلم وانظر لقبرك إنه الطوفان.. يلعن كل عهد مظلم لم يبق من كهان هذا العصر غير جماجم القتلي.. وصوت الجوع.. والبطش العمي صارت نياشين الزعامة في عيون الناس.. جلادا.. ونهرا من دم قد خدرونا بالضلال وبالأماني الكاذبات.. وبالزعيم الملهم ماذا تقول الآن يا قلبي ؟.. أجب من كان في عينيك يوما ثائرا الآن أصبح في سجل القهر أكبر.. مجرم من قصيدة أغاني مانديلا سنة 1997 نقلا عن جريدة الأهرام