سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قمة شرم الشيخ.. من وقف النار إلى بعث القضية.. مصر تقلب المعادلة الدولية وتسقط سيناريو التصفية.. أعادت البوصلة إلى "مدريد وأوسلو".. وتعلنها صراحة: زمن إدارة الإقليم من الخارج انتهى إلى الأبد
في الوقت الذي تزيح فيه قمة شرم الشيخ للسلام، غمة الحرب والدمار، الذي لاحق قطاع غزة، منذ عامين كاملين، عبر وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، إلا أنها تتجاوز في واقع الأمر هذا الهدف الضيق، نحو آفاق أرحب وأوسع، ترتبط في الأساس بالقضية الفلسطينية، وتعزيز ثوابت الشرعية الدولية، والقائمة أساسا على حل الدولتين، وهو ما يختلف تماما عما سبق ذلك من اتفاقات أجرتها إسرائيل مع الفصائل، خلال عقدين، وللمفارقة أنها كلها تمت بوساطة مصرية، فالقمة تمثل انتقالا من حالة الاستقرار الهش المؤقت، نحو الاستدامة، والتي لن تتحقق بأي حال من الأحوال، إلا بإنهاء حالة الاحتلال وتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة، على اعتبار أن ذلك هو الوسيلة لتحقيق العدالة وتدشين صفحة جديدة في تاريخ الإقليم. قمة شرم الشيخ تجاوزت الاتفاقات التقليدية، التي تمحورت حول وقف إطلاق النار بين الاحتلال والفصائل، سواء شكلا، في ظل الحضور الطاغي لقادة وزعماء العالم، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي سيترأس القمة جنبا إلى جنب مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، أو مضمونا، في ضوء كونها تضع حدا فاصلا، تتلاشى أمامه دعوات مشبوهة طالما تبنتها الدولة العبرية، بهدف تصفية القضية، وعلى رأسها تهجير الفلسطينيين، والفصل الجغرافي بين غزة والقطاع، ناهيك عن كونها تمثل فرصة غير تقليدية أمام كلا من السلطة الفلسطينية، لتعزيز شرعيتها عبر خطوات إصلاحية يمكن من خلالها فرض سيطرتها على كامل أراضي الدولة المنشودة، وكذلك أمام الدول العربية، في إطار ضرورة توحيد مواقفهم، في مواجهة ما يطرأ من تحديات كبيرة في المستقبل. ولعل الحديث عن قمة السلام التي تحتضنها عاصمة السلام، يعيد إلى الأذهان العديد من الأحداث العالمية، التي ارتبطت بالقضية، وعلى رأسها مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو، والتي اعتمدت حل الدولتين، وهو ما تؤكد عليه قمة شرم الشيخ، في ظل مشاركة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بالإضافة إلى كونه الحل الذي يحظى بإجماع الحضور، وبالتالي فإنها تمثل امتدادا لمسارات السلام، ناهيك عن كونه تحول في طبيعة دور القوى الإقليمية، وعلى رأسها مصر، والتي تحولت خلال مراحل الأزمة، منذ اندلاعها، من مجرد وسيط تهدئة، يتصاعد دوره مع كل اشتباك، إلى راع للقضية، بالشراكة مع الولاياتالمتحدة، يمكنه الضغط لاستكمال الخطوات التي من شأنها الوصول إلى مرحلة التفاوض النهائي، وصولا إلى قيام دولة فلسطين. وبالنظر إلى مسألة قيام دولة فلسطين، نجد أن ثمة مستجدات، خرجت من رحم الدمار والقصف والجوع الذي لاحق سكان غزة، طيلة عامين، ساهمت بصورة كبيرة في تهيئة البيئة الدولية، لتحقيق هذا الهدف البعيد المنال، أهمها سلسلة الاعترافات المتواترة بالدولة الفلسطينية، من قلب المعسكر الداعم للاحتلال، وهي الاعترافات التي تمثل شوطا كبيرا، كان مفقودا خلال مرحلة مدريدوأوسلو، والسبب الرئيسي في ذلك تجسد في ارتباط القضية بصورة مباشرة مع طبيعة النظام الدولي. فعندما انعقد مؤتمر مدريد في عام 1991، ووقعت اتفاقية أوسلو في عام 1993، كان العالم على موعد من مرحلة انتقالية، تنهار فيها الثنائية القطبية، بينما كانت حقبة الهيمنة الأحادية تبزغ شمسها، فصار الكوكب تحت قيادة مباشرة للولايات المتحدة، وهي الحليف الرئيسي للدولة العبرية، فكانت هناك مساحة كبيرة للمماطلة، فيما يتعلق بتطبيق ما ارتضى به القادة، في حين كانت دول المعسكر الغربي غير قادرة على الخروج عن المسار الذي رسمته واشنطن، والتي سيطرت بدورها على وتيرة الصراع صعودا وهبوطا بما يحقق مصالحها ويضمن استمرار نفوذها، في الوقت الذي غابت فيه أي منافسة دولية، لأي قوى أخرى يمكنها مزاحمة الدور الأمريكي. بينما الوضع الدولي الراهن، وإن كان مشابها لما كان عليه قبل أكثر من ثلاثة عقود فيما يتعلق بكونه انتقاليا بين نظامين عالميين، إلا أن ثمة اختلافات جوهرية، فأمريكا مازالت تقود، ولكن الزمام لم يعد في قبضتها تماما، حيث صعدت قوى أخرى أصبحت قادرة على منافستها، وتسعى إلى النفوذ، في حين أن الغرب نفسه صار يتوق إلى الاستقلالية، خاصة بعدما توترت علاقته مع واشنطن، وهو ما بدا في الاعترافات المتواترة بالدولة المنشودة، وهو ما ساهم في خلق مساحة مقابلة لصالح الفريق الداعم للقضية، وعلى رأسه مصر، للتحرك نحو تعزيزها على أساس الشرعية الدولية، وبالتالي الانتصار لحق فلسطين في دولتها المستقلة. وأما على مستوى القضية، فقد اعتمدت الحالة الفلسطينية، على النحو سالف الذكر، بطبيعة النظام الدولي، في ضوء الهيمنة التي حظت بها قوى واحدة على العالم، وإنما أصبحت البوصلة الإقليمية أحد أهم محاور الحل، فإنهاء القضية وتحقيق الاستقرار بات مناصفة بين ما هو دولي، وهو ما يبدو في الوجود الأمريكي البارز المتمثل في وجود الرئيس ترامب بشرم الشيخ في قمة السلام وكذلك المشاركة الكبيرة لقادة العالم، بين الغرب والشرق، من جانب، وإقليمي، في ضوء استضافتها على أرض مصر، على عكس ما حدث في الماضي، عبر استضافة الأحداث المرتبطة بالقضية المركزية في إقليم الشرق الأوسط بعواصم أوروبية. وفي قمة شرم الشيخ، لم تعد مصر مجرد وسيط بين أطراف متصارعة، وإنما تحولت لتكون حجر الزاوية، وضامن لتحقيق التوازن، فلو كانت الولاياتالمتحدة قد احتفظت بنفوذها في القضية، طيلة سنوات هيمنتها، في حين تسعى حاليا إلى الاحتفاظ بدورها في ظل منافسة محتدمة مع قوى أخرى، فالدولة المصرية استعادت زخم القضية عبر قدرتها على الاحتفاظ بموقفها المتوازن ومن خلال الانتصار لمبدأ العدالة الدولية. وهنا يمكننا القول بأن قمة شرم الشيخ تعد تتويجا لتحول مزدوج، يبرز في أحد جوانيه في بنية النظام الدولي، من أحادية مهيمنة إلى تعددية تبحث عن توازن، بينما في الجانب الآخر، في بنية الإقليم، حيث تمارس القاهرة ما يمليه عليها موقعها الطبيعي ودورها كضامن للاستقرار، ومهندس للسلام، في حين يتراجع صخب القوة، ليعلو صوت العقل المصري، ليؤكد أن العدالة هي وحدها التي تصنع السلام، وأن الشرق الأوسط لا يمكن أن يدار إلا من داخله.