الجيوش القوية القادرة تضمن السلام، خاصة فى مواجهة عدو غادر مغرور، لكن الانتصار يحتاج إرادة وليس مجرد مغامرة أو شعار، هكذا صنع جند مصر النصر، وعبروا قناة السويس، وحطموا خط بارليف بعد أن أذابوا الساتر الترابى بخراطيم المياه، هنا العبقرية، فقد خطط المصريون للحرب على الهواء، وتحت أعين المراقبة الدقيقة والتقنية بأحدث الأجهزة الأمريكية، كان الخداع ضروريا، بناء حوائط الصواريخ، التجهيز والتدريب على العبور، وعمل حساب كل شىء، نابالم يشعل الماء، طيران حديث، أجهزة استشعار، وتقنيات حديثة تسمع دبة النملة، هنا فقد كان الخداع ضروريا وفرضا على هؤلاء الذين أمنوا بالوطن، وهو ما أشار إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته بمناسبة انتصار أكتوبر، عن الانتصار واستمرار القوات المسلحة على العهد، سيف ودرع، وأن السلام القائم على الحق والقوة ينجح، بينما لا سلام من دون حق. وقد عالجت خطة الخداع بالتفصيل فى كتابى «شعرة معاوية.. السادات وخصومه»، الصادر عن دار «بتانة»، لكون خطة الخداع أحد أهم إنجازات الانتصار، شاركت فيها أجهزة المخابرات، والاستشعار والإشارة، والرسائل المتناقضة، بل حتى مظاهرات الطلبة التى تتهم السادات بالتقاعس، تم توظيفها لصالح الحرب، ففى 15 يناير 1972، نظم الآلاف من طلاب الجامعات مظاهرات ترفض استمرار حالة اللا سلم واللا حرب، وتطالب بخوض حرب تحرير شاملة لاستعادة الأراضى المحتلة بالقوة، مسيرات إلى بيت الرئيس، والاتحاد الاشتراكى، ومئات الطلاب إلى الكعكة الحجرية فى ميدان التحرير، المظاهرات تشكك فى نية الرئيس للحرب، بينما السادات يستعد للمعركة، بل إن إشاعة الاسترخاء كانت ضمن خطة خداع استراتيجى يهدف طمأنة إسرائيل، فى يوليو 1972 زار الرئيس السادات المخابرات العامة، وبصحبته قائد الجيش ومستشار الأمن القومى ورئيس المخابرات العسكرية، وعقد اجتماعا استغرق أكثر من 5 ساعات، ووجه بوضع خطة خداع استراتيجى تسمح لمصر بالتفوق على التقدم التكنولوجى والتسليح الإسرائيلى ورصد أى تحرك على الجبهة. ضمن الخداع، كانت تصريحات الرئيس السادات المتناقضة والتعامل مع مظاهرات الطلبة، وإظهار ضعف مصر اقتصاديًا وعدم قدرتها على الحرب، وتسريب معلومات بأن أمطار الشتاء غمرت صوامع القمح، وأفسدت ما بها، وتحوّل الأمر لفضيحة إعلامية وبناء عليه استوردت مصر شحنات إضافية، ونشر الإعلام عن تلوث فى مستشفى الدمرداش، وصدر قرار بإخلائها وغيرها من المستشفيات، وكله أمام الجميع وبمعرفة ومشاركة الصحافة والإعلام. فى 22 سبتمبر قبل الحرب بأسبوعين، كانت الصحف المصرية تركز على المناوشات الدبلوماسية والسياسية، والجبهة تستعد للمعركة، وذكر عبد القادر حاتم، رئيس الوزراء وقت الحرب فى كتابه: «استطعنا أن نوصل إلى إسرائيل معلومات عن نوايانا بأننا سنحارب فى شهر مايو ثم فى شهر أغسطس 1973، وتم استخدام أشرف مروان لتسريب مواعيد الحرب أكثر من مرة، بتوجيه السادات، وهو ما دفع إسرائيل للإسراع بإعلان التعبئة العامة واستدعاء الاحتياط أكثر من مرة، وتكلفت التعبئة الواحدة 3 ملايين دولار، استغلت الحكومة توقيت رمضان والمدارس، للإيحاء بأن البلد مستمرة فى روتينها الطبيعى، ودعوات فى الإذاعة لعدم الاستماع للشائعات المغرضة التى قد تؤدى إلى تخزين بعض السلع ونفادها، لأنه لا شىء فى القريب، بينما تمت مضاعفة ما يطرح فى المجمعات. «بدأت الدراسة، وفوجئ الجميع بالحرب، يوم العبور كان كل شىء يسير طبيعيا، ذهبنا للمدرسة ورجعنا اتغدينا ونحن نتابع بيانات أولية عن اشتباكات، حتى كان البيان السابع، الذى يحمل بشرى العبور». الشاهد أن الانتصار تحقق، ويرجع الفضل فيه إلى عمل جماعى عظيم من جيش مصر العظيم، وأجهزة المخابرات الحربية والمخابرات العامة والاستطلاع والإشارة، التى هزمت الفرق التقنى الرهيب بيننا وبين العدو، وبالطبع كان كل هذا بقيادة سياسية للرئيس أنور السادات، الذى قاد البلاد فى أصعب مراحلها، وخاص صراعا وواجه اتهامات، وانتصر على خصومه، بل إنه بعد رحيله بسنوات وربما بعقود استمر يرد على خصومه ممن سعوا للانتقام منه والتقليل من شأن انتصاره، بل وبطولته فى صنع سلام القوة، وترددت أكاذيب حول أنه قدم لأمريكا وإسرائيل أكثر مما توقعوا، بينما ظهرت اعترافات الإسرائيليين بأنه خدعهم حتى آخر لحظة، وأن المفاوضين المصريين كانوا أبطالا على مستوى المقاتل البطل. غير صحيح أن السلام قيد مصر، والدليل أن جيشها المنتصر ما زال قادرا على هزيمة الإرهاب، وردع كل من يتجرأ على التلميح، فالنصر والسلام كانا إنجازا بطوليا، وليس تنازلا كما ردد خصوم السادات، الذى صنع سلاما بلا بديل، وحتى الذين قاطعوا مصر وحاصروها، عادوا ليطلبوا ما هو أقل مما عرض عليهم السادات، ومنها الدولة الفلسطينية، وهذه قصة أخرى تستحق أن تروى.