استعدادات مكثفة بالجيزة لانطلاق انتخابات مجلس النواب غدًا    موفدو الأوقاف بالخارج يبادرون لأداء واجبهم الوطني في انتخابات مجلس النواب    حزب السادات: مشهد المصريين بالخارج في الانتخابات ملحمة وطنية تؤكد وحدة الصف    رسميًا.. بدء إجراء المقابلات الشخصية للمتقدمين للعمل بمساجد النذور ل«أوقاف الإسكندرية»    وزير التموين يتابع توافر السلع بالأسواق استعداداً لشهر رمضان    شريف عامر: لا بد من التطور والتكيف ولكن بطريقه احترافية    رئيس الوزراء يتابع مستجدات الموقف التنفيذي لمشروع مدينة «رأس الحكمة»    تفاصيل المشهد المعقد.. فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان الأسبق يكشف أسرارا جديدة في "الجلسة سرية"    افتتاح قمة الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية وسط قلق بسبب التحركات العسكرية الأمريكية    وزير الصناعة والنقل يترأس الدورة (74) لاجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء النقل العرب    الزمالك يجري 3 تبديلات دفعة واحدة بين شوطي المباراة    ننشر أسماء ضحايا حادث تصادم القناطر.. سيارة تشتعل وأخرى تسقط بالمصرف| صور    غريق مجهول الهوية بمسطرد.. تفاصيل حادث صادم بجوار معدية البترول| صور    استعدادات أمنية مكثفة لتأمين انتخابات مجلس النواب 2025    تصريحات دينا الشربيني عن «مفيش واحدة بتسرق راجل» تعود للمشهد بعد شائعات ارتباطها ب كريم محمود عبدالعزيز    دينا فؤاد تصل عزاء والد محمد رمضان بمسجد الشرطة    رئيس قطاع الأخبار بالمتحدة: مهمتنا تلبية احتياجات الجمهور وتقديم أفضل محتوى    بيحبوا يثيروا الجدل.. 4 أبراج جريئة بطبعها    «عبدالغفار» يبحث مع ممثلي منظمة الصحة العالمية تعزيز جهود مواجهة الكوارث    
نائب وزير الصحة يتفقد مستشفى شبرا العام ويوجه بسرعة إصلاح الأجهزة المعطلة    أخبار السعودية اليوم.. إعدام مواطنين لانضمامهما إلى جماعة إرهابية    هل أصدر الرئيس الروسي تعليمات بالتحضير لتجارب نووية؟.. الكرملين يجيب    الشروط الجديدة لحذف غير المستحقين من بطاقات التموين 2025 وتحديث البيانات    توقيع مذكرة تفاهم لدمج مستشفى «شفاء الأورمان» بالأقصر ضمن منظومة المستشفيات الجامعية    محافظ مطروح يتفقد مركز التدريب المدني.. ويؤكد الإعلان عن دورات تدريبية قريبا    ماذا قال ياسر جلال بعد كلمته بمهرجان وهران في الجزائر؟    الشيخ خالد الجندي: ربنا بيوريك نتيجة استخارتك في تيسير الطريق أو توقفه    الخزانة الأمريكية ترفع العقوبات عن الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب    ضبط صانعة محتوى في الجيزة لنشر فيديوهات خادشة للحياء على مواقع التواصل    قومي المرأة يدعو سيدات مصر للمشاركة بقوة في انتخابات النواب    سمير عمر رئيس قطاع الأخبار بالشركة المتحدة يشارك في ندوات منتدى مصر للإعلام    من يحضر تنفيذ العقوبة؟.. بعد حكم إعدام قاتلة زوجها وأبنائه ال6.. إنفوجراف    المشاط: ألمانيا من أبرز شركاء التنمية الدوليين لمصر.. وتربط البلدين علاقات تعاون ثنائي تمتد لعقود    زلزال قوي يضرب الساحل الشمالي لليابان وتحذير من تسونامي    علاج مجانى ل1382 مواطنا من أبناء مدينة أبو سمبل السياحية    أحمد سعد يتألق على مسرح "يايلا أرينا" في ألمانيا.. صور    رئيس الجامعة الفيوم يستقبل فريق الهيئة القومية لضمان جودة التعليم    ضبط تشكيل عصابي لتهريب المخدرات بقيمة 105 مليون جنيه بأسوان    امتحانات الشهادة الإعدادية للترم الأول وموعد تسجيل استمارة البيانات    استلام 790 شجرة تمهيداً لزراعتها بمختلف مراكز ومدن الشرقية    التنسيقية: إقبال كثيف في دول الخليج العربي على التصويت في النواب    «زي كولر».. شوبير يعلق على أسلوب توروب مع الأهلي قبل قمة الزمالك    «صرف الإسكندرية»: فرق طوارئ ومتابعة ميدانية استعدادًا لانتخابات مجلس النواب    وجبات خفيفة صحية، تمنح الشبع بدون زيادة الوزن    الأوقاف توضح ديانة المصريين القدماء: فيهم أنبياء ومؤمنون وليسوا عبدة أوثان    الأهلي والزمالك.. تعرف على جوائز كأس السوبر المصري    طولان: محمد عبد الله في قائمة منتخب مصر الأولية لكأس العرب    تشييع جنازة مصطفى نصر عصر اليوم من مسجد السلطان بالإسكندرية    «لعبت 3 مباريات».. شوبير يوجه رسالة لناصر ماهر بعد استبعاده من منتخب مصر    مئات المستوطنين يقتحمون باحات المسجد الأقصى والاحتلال يواصل الاعتقالات في الضفة الغربية    أمين الفتوى: الصلاة بملابس البيت صحيحة بشرط ستر الجسد وعدم الشفافية    على خطى النبي.. رحلة روحانية تمتد من مكة إلى المدينة لإحياء معاني الهجرة    قافلة «زاد العزة» ال 68 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة    الزمالك كعبه عالي على بيراميدز وعبدالرؤوف نجح في دعم لاعبيه نفسيًا    مواعيد مباريات الأحد 9 نوفمبر - نهائي السوبر المصري.. ومانشستر سيتي ضد ليفربول    هل يفاجئ توروب الزمالك؟.. تشكيل الأهلي المتوقع في نهائي السوبر المصري    معلومات الوزراء : 70.8% من المصريين تابعوا افتتاح المتحف الكبير عبر التليفزيون    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اغلال وسعير (3)
نشر في اليوم السابع يوم 18 - 09 - 2025

كان ذلك في شهر أغسطس، وهو من أشهر الصيف القائظة شديدة الحرارة، وهو لفحة من جحيم جهنم في قريتنا، وقد أعتدت فيه أن أبلل جسدي بالماء في الطريق، فلفحتني تيارته المحملة بالغبار والصهد، أصابتني بحمى، كادت أن تقتلني، أيام حتى بدأت الحرارة في الهبوط، وبدأت أتعافى.
يفعل الإنسان أشياء، وهو لا يدري لماذا، وكأن الأقدار تريد أن تسوقه لشيء ما، فإن أراد أن يواجهها أو يتقاعس، تجده أنشط ما يكون على غير طبيعته، ثم يكون ما يكون من أشياء، تغير مجرى حياته بالكامل، يقول لو فعلت كذا، ما كان ما أنا فيه الأن، ولكن يبدو أن هناك مواقف، تصنع أقدارنا، تسخرنا دون أن نشعر، وهي تهزأ بنا، وتجعلنا نظن أنها محض إرادتنا، هي التي تصنع وتفعل، كان من الممكن أن أرتاح يوما أخر، فما الضير في ذلك، وكنت تعبا، ولازال أثر المرض يبدو علي، الإنهاك والتعب، وألما في عظامي، فكك جسمي كله، لم أنتهي من علاجي بعد، وقد أشار الطبيب أن ألزم السرير، أسبوع على الأقل، حتى أبدأ في التعافي، وممارسة نشاطي الطبيعي، فيما أريد، ولكن الفقر فاقة، والشعور بالأخرين ومعانتهم شيء أكثر هما من المرض، فتعب الجسد أهون، أم إذا حملت الروح فوق طاقتها، أنهار كل شيء، تحاملت على نفسي المريضة، قاومت التعب والمرض، ومثلت أني شفيت تماما، وأستطعت أن أغادر فراشي في الصباح الباكر، إن أرق الليل هو ما جعلني استيقظ مبكرا وأتحامل، إن أبي يعمل وحده منذ أيام، وقد بدا مجهدا هذا المساء، هو أيضا يتحامل من أجلي فوق ما يطيق، أنه جاوز الخمسين، وهو في هذا العمل الشاق، كان يجب أن يرتاح، ولكننا نحتاج إلى مايصيب، فأنا وهو نعمل بكل جهد، وبالكاد نتعايش من هذه الجنيهات القليلة، وأتألم من أجله، ولكن لا أستطيع أن أقول له ذلك، هل سيظل يعمل هكذا، حتى يموت من فرط التعب، أنه عمل شاق أن يصعد السقالة العالية، ويتحامل على نفسه من أجل القوت، كان اليوم صحوا، والهواء في الصباح الباكر منعشا، قمت من سريري وخرجت من حجرتي، إن أمي متيقظة منذ الفجر، تصلي وتجلس على مصلاها، يخرج أخي الصغير يحضر لنا الإفطار، تصنع لنا الشاي، ونحن نحيط بها حول المائدة، جلست بجوارها وضعت يدها فوق جبين، أبتسمت حمدت الله على التعافي، ولكني صدمتها بقولي أني سوف أذهب مع أبي إلى العمل، نهرتني بعنف، فأنا لم أزل مريضا، يومين أو ثلاثة وأخرج كما تريد، علا صوتها قليلا،ثم صرخت في وجهي، لأعود إلى الفراش، كان أبي يصلي، سلم ثم قال لي في هدوء. إن العمل اليوم لا يحتاجني، وأنه قليل وبسيط، وأنا أعرف أبي جيدا، فهو غالبا ما ينسى، فقد قال لي هذا مرات، وأنا أعلم أنه يقول ما يقول، حتى يجعلني أستريح، ولكنني صممت على رأي، بأني لا أريد البقاء في السرير، إن الراحة تمرضني أكثر، وأنا أرغب في الخروج، قال أبي أخرج تمشى قليلا، ثم عد إلى البيت، لا يا أبي سوف أذهب معك، أين أذهب والناس جميعا في أعمالهم، سوف أكون معك، ولو شعرت بتعب سأعود إلى البيت، طالما صممت، وأنا أعلم عنك العناد، فتأتي معنا، ولا تمد يدك على شيء، تصنع لنا الشاي وفقط، هذا ما أريد، أعددت لأبي عدته للعمل، وأنطلقنا أنا وهو نتبادل أطراف الحديث عن العمل والأنفار، وتعب الحياة، وأننا بالنسبة لأخرين نحن في زحام من نعم الله علينا، وجد في وجهي بعض الإمتعاض أو النفور، وأني أرى ضيق العيش والتقطير، الذي يصيبنا ونحن أناس لا نعادي أحد، ولا ننابذ أحد، وإن سعادتنا بأن البيت يحب بعضه بعضا، وهذا أثمن من المال الوفير، ماذا لو كنا نحمل المال الوفير، وقلوبنا غارقة في الضغينة والكره والحسد، أثلجت كلمات أبي نفسي، فهو ورغم سنه وتعبه، لم يشكو، كان دخان سجائرنا كأنما يحمل ضيق، ويصعد به فيخفف عنا كثيرا، ويجعلنا أكثر حيوية وأخف حركة، وأكثر إقبالا على العمل، كأن كلمات أبي مهديء يخدر الإعصاب، ويعيد إتزانها إلى وضعها الطبيعي، لم يراني أبي وأنا أضع ملابس العمل في شكارة العدة، التي أحملها فوق كتفي.
ذهبت إلى العمل، وصعدت السقالة، وبدأت في العمل، في الساعتين الأولين كان الأمر على ما يرام، أنجزت الكثير وقرب الظهيرة، شعرت بدوار خفيف، ولكني واصلت العمل خشية أن يراني أبي، ويجعلني أكف عن العمل، ساعة أخرى أقاوم، هويت فتفصد كل شيء، كنت أحاول أن أحمل بعض العناء عنهم، فإذا بي أضيف العناءات والألام التي لا تنتهي، والكروب التي تظل تضرب بجذورها في أعمقنا جميعا، هل كانت الأقدار تحمل لنا ما يشقينا؟ ابتلاءات تثقل قلوبنا، تطهرنا، ولكننا لم نجرم في حق أحد؟ لم نسيء؟ إنه طالع غريب ذلك الذي ساقني إلى صعود السقالة، لأترنح عليها بعد ساعة أهوي من فوقها، ليتحول تاريخ حياتي، لتتبدل الأمور، وتجري بي الأحداث إلى وجهة لم تخطر ببيالي، كان ما يجول في خاطري، عندما آوي إلى فراشي بمستقبل خالي من الضربات القاسية، مستقبل لا يعرف المرض والضعف والإنهيار والأطباء والأدوية، كان خيالا جامحا لا تشوبه شائبة، تاريخ الشباب، أيام الفتوة والنشاط، ليالي الأنس، عالم الكثيرين من الناس، كانت الشمس محرقة، أشعتها تنزل على عينين الشبه مغمضتين، وجهي يعلوه التراب، العرق يتصبب، أبي عينيه تذرفان يبكي كطفل، أصوات مفجوعة، لا تحملوه؟ دعوه، بل أحملوه برفق، في مكان ظل، أهات تخرج من فمي، ضلوعي، لا أشعر بجسدي، قدماي تؤلماني، ولا أستطيع تحريكها، أبي يتوجع، صوته يخترق أذني، أريد أن أقول له أني على ما يرام، حتى يكف عن النحيب، ولكني لا أقدر على الكلام، ولا الحركة، يحملوني برفق فوق كومة من رمل، هيأوها لمرقدي، الألم شديد، وصوت أبي مازال يؤلمني هو الأخر، صوت سيارة يقترب مني، حملوني كان الطريق طويل، والألم قاسي، ترفض المستشفى أن تقبلني، تتحرك السيارة مرة أخرى ببطء أشد، وألم أشد، أكاد أموت من فرط ما أشعر به، من ألم يكتسح أعضائي، ما الذي حل بي؟ أتكون النهاية قريبة مني إلى هذا الحد، وأنا لم أدري، ما أضعف الإنسان وما أعظم أماله، التي تتعدى السنوات والقرون، صوت أبي بجواري مازال يتقطع من النحيب والبكاء، ذكرياتي مع أمي، أمي ماذا تقول عندما تعلم، أفكار وألم وأهات، أخواتي سيتألمن لا شك، أني لا أريد أن أسبب لهم ألم، ولكني لم أقصد، الطريق طويل والألم لا يهدأ، وصوت أبي الحزين، أهو طريق نسير فيه لا نهاية لأخره، أمي ستحزن حزنا شديدا، ستؤنبني ألم أقل لك لا تخرج؟ ستصرخ في وجهي حزينة باكية، يستنزفها الألم، ستبكي كثيرين، سيمتلأ قلبها أسى لا ينتهي، ما أطول هذا الطريق؟ ألا نقترب، صوت أبي يأتني، يدعو لي، ويدعو على نفسه، بأن يفتدني، ياريت كنت أنا، صوته يزيد ألمي، حزنه يضاعف ألمي، مازالت السيارة تحفر في الطريق، لتفسح لها ممرا تسلكه، أشعر بالغثيان، أن عظامي تداخلت، ساكون على ما يرام بعد بضعة أيام أخرى، ثم أعود كما كنت، لا تقلق يا أبي، هكذا أجيب أبي في سري، فلساني معقود من شدة الألم، ها قد وصلنا، سرير متحرك، وضعوا جسدي المهترء عليه، حملوني ثانية، صوت أبي يبتعد عني، أنوار، ثياب بيضاء، نظرات أطباء، مقصات فوق المنضضة، جهاز التنفس، أصوات لا أعرفها، كلمات لم أتبينها، خذ نفسا عميقا، أسمع بعضهم، يغمز كتفي برفق، خذ نفسا عميقا، أحاول تتقلص الصور والأشياء، آخذ نفسا أخر، ولا شيء بعد ذلك، تعود الأصوات مرة أخرى، لعله صوت أمي أختي أخي الصغير، صوت أبي يبدو من بعيد، أثر بكاء على العيون، الدعاء لا يتوقف لي بالسلامة والعافية، رأسي ثقيل، لا أتبين الأشياء، أسرة بيضاء متراصة أمامي، على كل منها مريض، يحيط به أهله ومحبوه، الوجوه لا أثر لإبتسامة فوق شفاهها، أنها إبتسامات مصطنعة، يملئها الشفقة، إبتسامات حزينة أسفة، فالعيون يبدو عليها سحابة أسى، تحجب نور العيون، وتألقها بالقرب مني، يتمدد طفل في العاشرة قدمية معلقة، وفي وجهه ختوش، وأثار جروح، لكني أراه يبتسم لأمه، وهي تقدم له الطعام، تدلله بعده رجل جاوز الستين، يبدو عليه الكبر، يلتف حوله أبناءه يناغشهم، في لطف شديد، يلقي نكاته، يد في الجبس وقدمه، ويعانق أحد أحفاده بيديه الأخرى، يعبث بوجه جده، لكن الجد سعيد به، في الجهة الأخر شاب في مثل عمري تقريبا، لكنه ملتحي يبدو عليه التدين، وفي وجهه سماحة وألفة، حين تقع عينيك عليه تستشعر أنك تعرفه منذ زمن بعيد، يبدو أنه تعرض لحادث سيارة، فكسوره متفرقة، ولكنها ليست غائرة أو خطرة، تصفحت الوجوه، أمي تمسح عني العرق، وتهش الذباب عني، أبي في أخر العنبر يصلي، وأختي تفتح الشنطة، لتخرج لي طعام، أحضروه من البيت، أخي الصغير يشير إلي قائل: حمدالله على السلامة، أحاول أن أستعيب، أدقق النظر حولي، أتسأل أين أنا؟ أعود بذاكرتي قليلا، كنت أتالم في السيارة، ثم في حجرة العمليات، ولا أدري ما حدث بعد ذلك، ولكن الألم خف كثيرا، ولكن كم من الوقت مر على ذلك، وكيف جاءوا إلينا بهذه السرعة، لا بد أنني أستغرقت وقتا طويلا في العمليات، فهل كان الأمر صعبا لا بأس فأنا الأن أشعر بتحسن، الحمد لله تمام، قلت لأخي أبتسمت لأمي وأخوتي، أنا على مايرام، ولكن ما كل هذه الأربطة حول رجلي، كيف أستطيع أن أمشي بكل هذا الشاش، أعتدلت وضعوا وسادة خلف ظهري، أقتربت أمي مني، ومدت يدها تطعمني في فمي، بيديها تقطع اللحمة، قطع صغيرة، تضعها في الشربة، وتسقني تلح علي كثيرا في إطعامي، كأني طفل صغيرة، يأتي أبي يجلس قبالتي، يسألني عن حالي الماثلة أمامه، اطمأنه، يتأملني قائلا: شدة وتزول، أيام وترجع زي الفل كما كنت وأحسن إن شاء الله، قلت له، تبادلنا أطراف الحديث في أمور كثيرة، مضت ساعة موعد الزيارة انتهى أمي لم ترد أن تذهب، جلست معي كمرافق، ألححنا عليها كثيرا أن تذهب وتترك لي أخي، لكنها لم توافق أن تتركني ولو ساعة واحدة، وستظل معي حتى نعود للبيت سويا هكذا قالت، ولا تريد أن يفاتحها أحد في أمر إقامتها ثانية، لأنها لن تتركني، ولن تستريح إذا هي تركتني، فلم نفاتحها في الأمر ثانية، ورضينا به رغم التعب والمشقة، وجو المستشفى الخانق، وهي ليست صغيرة على الذهاب والمجيء والخدمة، لكن أمي رأسها صلب إذا ما عزمت على شيء، لن نستطيع أن نثنيها عنه، كانت تنام بجوار سريري على الأرض بجوار الحائط، لم تنم ساعتين متصلتين، تقوم تطمأن ثم تغفل قليلا، أرهقها مرضي كثيرا، لم تكتفي بخدمتي أنا فقط، إنما صارت أما للجميع، تخدمهم وتقضي لهم مطالبهم، وتساعد الممرضات إذا كان هناك شيء يستحق المساعدة، حتى العاملات كان تساعدهم في تنظيف الأسرة، ورفع الملاءات، وكنس العنبر، وتقديم الطعام، كنا نناديها جميعا أمي، صارت أمي أما لنا جميعا، صار لي أخوة في الشقاء والألم، اعتادت عليهم واعتادوا عليها، حتى إذا غابت ساعات عنا أفتقدناها جميعا، وتغير شكل العنبر، أصبح موحش، فقد كانت تنشر فيه الطمأنينة والسكينة، فإذا حضرت أبتهجنا جميعا، واستقبلنها بالتراحاب، كأنها غابت عنا أيام وأسابيع، رحل بعضهم، وجاء أخرون، يحل أناس، ويرحل أخرون، ونحن وأمي الباقيان، الأيام صارت أسابيع، والأسابيع شهور، ماذا بعد، وإلى متى؟ ما بين عنبر المرضى، وغرفة العمليات، كانت رحلاتي من هنا إلى هناك، عمليات ثم إعادتها مرة أخرى،غرف وعمليات وتحاليل وفحوص وأدوية، وتشخيص خطأ، وأخر صائب ولا ندري أنا وأمي شيء وكأننا في دوامة، كان سؤالي الذي لم أجد له إجابة هل أستطيع أن أمشي مرة أخرى،أم سأظل هكذا قعيد الفراش، بعد كل هذه العمليات لم يكن أحد ليجيبني، مللت التسويف، والغد الذي لا يجيء أبدا، بدأ اليأس يدب في نفسي، والأمل يتوارى، والضيق يزداد، والأيام لا تكشف لنا عن جديد، فلا تقدم، وكلما سألت لا إجابة شافية، ترضي الخاطر، إنما كل شيء معلق باهت، غير واضح، لا أشعر بقدمي حتى الأن، ولا أستطيع الوقوف، عظامي يكسوها لحم خفيف، فما الأمر، متى نرحل يا أمي؟ إنهم يقولون: أيام، إن الأيام طالت يا أمي، وقد سئمت الفراش والرقدة التي لا نهاية لها، سأقول لأبي أن يأخذنا إلى البيت، نحن نستطيع أن نفعل ما يفعلون في البيت، لقد أصبحت ماهرة في الغيار، وفي أمر التمريض، لقد أكتسبت خبرة كبيرة يا أمي، ولا داعي لبقائنا هنا، ونوفر التعب على أبي وأخوتي من الذهاب والمجيء كل يوم، عندما يأتي أبوك، ثم نفاتح الأطباء في هذا الأمر، ولا تكدر نفسك فهنا أيضا إهتمام أكثر ورعاية أفضل.
وأدركت أن رحلة العودة، لن تكون، وسوف تظل هكذا ما تبقى من عمرك، صراحة قاتلة مميتة، ولعل الموت أرأف بي، إذا أختارني، وأنا بهذا الوضع المؤلم، بعد أيام قرر الأطباء أنهم فعلوا كل ما يمكنهم فعله في حالتي، فلا مناص من رحيلي وأستكمال علاجي في البيت، أطلقوا حكمهم وقرارتهم، دخلت علي أمي العنبر، وفي عينيها أثر بكاء، لم أطلعها على ما شعرت به من عينيها، وبعد فترة قالت لي أننا سوف نذهب إلى البيت، في الغد، سيأتي أبوك بسيارة مخصوص لينقلنا إلى البيت، وحتى أريحهم من عناء الذهاب والإياب، فأنت الأن أفضل كما يقولون، ولكني لا أستطيع أن أحرك قدمي، يقولون: أنه دور العلاج الطبيعي، فهي مسألة وقت سوف تعود كما كنت، وأحسن مما كنت، في ظرف أشهر، لا بأس وليرتحوا من عناء كل يوم، في عصر اليوم التالي، كنت قد ودعت الجميع، زملاء الحجرة، الممرضات والأطباء، وعامل الشاي، والنافذة التي كنت أطل منها على الشارع، والحوائط ورائحة العقاقير، كان يوما مؤلم يوم خروجنا من المستشفى، قد تآلفت أمي وأنا مع الأخرين كأننا عائلة واحدة، ما اقسى الفراق، عرفت أشخاص لم أكن لأقابلهم لولا الحادث، الذي ألم بي، أعدت أمي عدت الرحيل، ولماذا أنا وهي يمتلكنا الحزن هكذا؟ ألم نكن نرغب في الرحيل؟ ودعنا الأخرين ونحن نبكي، يحملوني يضعوني برفق على كرسي متحرك، وحين خروجي من باب العنبر أوقفت أبي الذي يسير بي، استدرت إليهم لأشير إليهم بالوداع، تسبقني دمعة كبيرة، من يخرج منكم على قدميه يزوروني، أدارني أبي، تلفت إليهم، تذرف عيني دمعا غزيرا، ودعت الجميع، وحملوني بحذر شديد ووضعوني على عربة أشبه بعربة الإسعاف، وضعوني في سيارة، متكأ على ظهري، أمي لم تفارقني قط، منذ أشهر كنت أشعر بعد المسافة، التي أتت بي إلى هنا، ما أسرع الزمن، الأن عاد وأتمنى أن تظل تسير بي إلى النهاية، البيت، ماذا بعد، لا أريد أن أسبق الأحداث، لعل أمرا يتجدد، يخلف ظني، أشياء تحدث تغير مقاييس ما خطر ببالي، نحن لا نعلم ماذا تحمل لنا الأيام، ولا نعلم ما تحمل لنا المقادير، خرجت لأعين أبي، عدت وقد حملتهم فوق ما يطيقون، وحملتهم من الهم أضعاف مضاعفة، أأقول ليتني، وماذا يفيد، إن الندم لا يغير من الواقع في شيء، إنما هو الألم الذي يتضعاف، إنه القدر، الذي يرسم خطانا الضعيفة، فلا داعي للندم، ولا داعي لإعادة ما ساقتنا إليه الأقدار، يجب أن أكون أكثر رضا بما أصابنا الله به، لعل خير ما نراه نحن شرا، ألم تمر أمور كثيرة في حياتنا، وكنا نظن أنه الخير كل الخير، وإذا بالأيام تظهر لنا شرورها، ونبكي بعدها، بعد أن كنا نطير فرحنا بها، فلعل هذا يحمل لنا في باطنه ما هو خير لنا، إنا قد مررنا بالصعب، فلابد أن نتحمل، لن يأتي أسوأ مما تقدم، ها قد وصلنا، ماذا بعد أنزلوني، الناس تلتف حولي، تتمنى لي السلامة والعافية، السلامات في نظراتهم إشفاق، تلك النظرات المؤلمة التي تشعرك بالضعف، أبتسم في وجوهم، أرد عليهم: الحمد لله، كل اللي يجيبه ربنا كويس، قدر الله وما شاء فعل، البيت الذي غادرته خارجا لأعمل أساعد أبي لأعود أخر النهار، أتلهف للراحة والشعور فيه بالدفء والأمان، طالت غيبتي عنه، وعدت إليه محمولا لا كما خرجت على قدمي، فقد خرجت بها، لأعود بدونها، أو أعود بهما معطلان، لا عمل لهم، وإنما هما مصدر تعب، لي ولأمي، في لحظات دخولي إلى البيت، شعرت بقبضة في الصدر، وكأني أدخل زنزانة لحين الحكم بالإعدام، ولا يدري متى ينفذ الحكم، بعد يوم أو أسبوع أوشهر أو عام أو بعد أعوام، أعدوا لي غرفة في نهاية البيت، حتى لا يزعجني أحد، كانت الأيام الأولى، طوائف من الناس تأتي، لتسلم وتطمأن على صحة المريض، كما اعتاد الناس في مثل هذه الظروف، كانت الحجرة الصغيرة تمتلأ عن أخرها كل يوم، قصص وحكايات وحوادث ودعوات، وعشرات الكيلوهات من البرتقال والفاكهة، وشاي وسكر، ولا أدري ما دخل هذه الأشياء بالمرض، وكميات أخرى من نصائح أتبعها، كي ترد لي عافيتي، منها المجرب، ولا يخيب، ومنها المنقول عن الأباء والأجداد، ثم بدأت الأقدام تقل، يوما بعد يوم، حتى صارت الزيارات على فترات متباعدة، ثم شحت، ثم أصبحت نادرة، أنفضت الجموع الحاشدة، أنفضت الأقارب، الأصدقاء، الكل لم يعد، حتى غابت الوجوه تماما، لم يعد غير وجه أمي وأبي وأخوتي.
وأصبح عالمي ثلاثتنا أنا وأمي والألم، نقتسمه كانت جروحي عميقة وغائرة في ساقي، تتولى أمي الغيار عليها كل يوم ساعتين، ترفع الشاش القديم، بما يحمل من أثر الدماء، وتضع المطهرات والمراهم، ثم تضع شاشا مرة أخرى، أصبحت أمي الأن ماهرة في الغيار، في سنتي الأولى عانيت من الملل الشديد، كان الوقت يمر بجهد جهيد، الحظات والدقائق، كأنها أيام وشهور، لم اعتاد على ذلك، كنت دائم التحليق في كل مكان، لا أعرف الهدوء والإستقرار، أم الأن فأنا سجين، ولا أدري كم المدة؟ وأظنها إلى أخر العمر، أخلاقي تضيق، وقد أصبحت أطلال رجل، نفس يتردد في جسد خرب، أحاول أن أبقى على قيد الحياة، كفرت بالحياة والوجود، وعلمت أنه حكم علي بالموت حيا ينهش الدود من جسدي، وأنا على قيد الحياة، أنظر إلى نفسي وهي تهلك رويدا رويدا، أظلم الوجود في نفسي، ولم أعد أرى في عز الظهيرة، شعاع واحد من أشعة الشمس، التي تكتسح العالم وتنيره، عشت أياما سوداء فاقع لونها، ظلام في النفوس، وظلام في العيون، ضاقت نفسي ضيقا شديدا، وبلغت روحي الحلقوم، ومت في تلك الأيام، كان عذابا جهنميا، ينبع من داخلي فيحرق الوجود حولي، كانت تجاعيد وجهي قد برزت، وشبح الموت يطاردني في كل لحظة، وأنا لازلت في الرابعة والعشرين، هكذا صرت ملتصق بسريري، لا أفارقه أبدا، ولا يفارقني، عشرات الساعات أقضيها بمفردي، كانت أياما صعبة، فإذا فقد الإنسان إيمانه بالحياة، قد يكرهها أو ينتحر، أو لا يبالي بما يكون، وبما لا يكون، وما سيكون، ولكني كنت شديد الإيمان بها، أحبها بل أعشقها، وأتفانى في حبها، فإذا بها وقد هجرتني، وأعطت لي ظهرها ورحلت، ولن تعود أبدا، كدت أفقد عقلي من فرط حسرتي، من فرط جوعي، وتعطشي إليها، كيف سأعيش؟ أراها من بعيد، وأنا مقيد بسريري، أتحسر وأبكي وأندب حظي، وأسكب مهجتي في قبو، كنت أتعاطى بعض المهدئات، التي ساعدتني في النوم وقت طويل.
أحضروا لي شاشة تلفاز، لتسليتي أيام مرت، بدأ الملل ينتابني، ويتسرب الى نفسي المؤرقة، أيام ثم بدأت أخلاقي تضيق، أصبحت شرها في التدخين، تعلقت بالسجارة، كانت أمي تتركني لقضاء بعض شئوني، أدوية غيارات، قرارات من المستشفيات، سؤال الأطباء عن أشعتي، حالتي أستفسار عن جروحي، ما يجب أن تفعل وما هو الأفضل، وهل هناك أمل في عودته، يسير على قدميه مرة أخرى، كانت أمي تغيب بالساعات الطوال، فلا هم لي ولا مشغلة سوى حرق السجائر، التدخين الذي يجعلني أنفخ، أخرج بعض غضبي فيه، خطوط الدخان المتواصلة، أتابعها أرقبها منذ أن تولد وتخرج من رئتي، حتى ترحل من نافذتي، مودعة حجرتي، حتى الدخان لا يصمد معي، فهو أيضا يفر منها، إنه يريد الانطلاق إلى الهواء الرحب الفسيح، لا أريد أن تخلو الحجرة من تلك الغمامات الدخانية الكثيفة، فأنا أشعر معها ببعض الأمان، لكن أمي تغضب أحيانا من كثرة الدخان، خشية أن يؤثر على صحتي، ويبطيء شفائي، ولكنها لا تتكلم، ولا تقولي لي شيء، هي تعلم أنني أعاني من الوحدة والملل، وتشعر بما يؤلمني من سجني الطويل، الذي لا أدري نهاية له ولا أخر، ولكنها تتألم في صمت معي، لا بد أن أسجل في أجندة بعض ما أحس به، لعله يشغلني، ولكن ما أكتب وأي شيء، هل أذكر نفسي بالكتابة أيضا، ما أمر الا يكفي أنني أعيشه واقع مرير، صفحات ثم بدأت في أن املأ الأوراق بالخطوط، التي لا معنى لها، وأن كانت تعبر بتوتري وضيقي من حياتي، إن ظللت هكذا سوف أموت في العاجل، ماذا أفعل؟ أريد شيء أن يلهيني عن وضعي عن ألمي، يبعدني عن هذا الجو القاسي، الذي أحيط نفسي به، أن عقلي بدأ في الجنون، في تخيلات غريبة، وتهيئات أغرب وإن ظللت هكذا، سأكون بعد أيام في السراية الصفراء، أقضي بها باقي أيامي مريضا مجنونا مهملا، ما أبشع الموت على هذا النحو، وبهذه الطريق، ولكن ماذا أفعل؟ ألحت أمي على أخوتي ألا يتركوني وحدي، إن هي غابت، ولكن لكل واحد منهم شئونه الخاصة، المتزوجة وأبنائها الصغار ورعايتهم، والأخرى في طريقها لأن تكون أم، فهي تحتاج الرعاية أيضا، وأخي الصغير الذي يذهب للعمل منذ الصباح الباكر إلى المساء، فإذا جاء فهو يحتاج إلى الراحة، حتى يستطيع أن يواصل عمله، فنحن في حاجة إلى دخله، وأبي الذي يتحامل على نفسه، رغم ظهور الضعف البادي عليه، فإن هم تركوا أحوالهم وجاءوا ليجالسونني، لن أكون سعيد، فلا بد أن أكون أكثر حكمة، ولا أبدي لأمي شعوري بالضيق والملل، وأظهر لها أنني على ما يرام، وأنني أفضل الوحد، فهي تريح أعصابي ولكنها كانت تفلت في بعض الأحايين دون إرادة مني.
أصبحت تلك الجدران قبر واسع قليلا، سجن مفتوح بابه، ولكني لا أستطيع الهروب، كانت تضيق يوما بعد يوم، حتى كدت أختنق فالهواء بالكاد يدخل حجرتي، وأظنه يدخل مرغما، فهو يدخل نقيا، فتفسد رائحته العقاقير والمطهرات وضيق المكان، ووجه رجل أشعث الشعر، ذقنه طويلة، وحاجبيه غليظتين، وفم قد خلى من الأسنان، وجه قبيح مرعب، يوحي بالفزع، لم يكن أحد يدخل على، إلا أمي، ولم أكن أطيق رؤية أحد إلاها، كانت تروضني، كما يروض وحش كاسر، مدرب ماهر خبير، كان دليل قلبها، الذي تحطم من رؤيت أبنها بهذا الشكل، وتحول لشبح، حتى إن أبي لم يدخل علي إلا وأنا نائم ليطمئن، لم يكن ليجرؤ أن يراني، كان يلقي السلام في الصباح وهو خارج دون معرفة أني نائم أم يقظ، عامل أيه؟ كنت نادرا ما أجيبه، كنت أعلم أنه أيضا يتعذب، ولكن لا بد أن يحملوا بعض العذابات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.