عملية "شبكة العنكبوت"، صور فضائية ترصد خسائر روسيا    مجلس الأمن يصوت اليوم على قرار لوقف دائم لإطلاق النار في غزة    ترامب يضاعف الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم وسط تحذيرات أوروبية من رد سريع    وزير خارجية إيران: تخصيب اليورانيوم داخل أراضينا هو خطنا الأحمر    زلزال يضرب جزيرة «سيرام» في إندونيسيا بقوة الآن    دوري الأمم الأوروبية، قمة نارية اليوم بين ألمانيا والبرتغال في نصف النهائي    كامل الوزير: انتقال زيزو للأهلي احتراف .. وهذا ما يحتاجه الزمالك في الوقت الحالي    غرفة عمليات الشهادة الإعدادية تسلم أسئلة الامتحانات للجان سير الامتحانات    رابط نتيجة الصف الخامس الابتدائي الترم الثاني 2025 في جميع المحافظات    توافد الحجاج إلى"مشعر منى" لقضاء يوم التروية (فيديو)    سعر الذهب في مصر اليوم الأربعاء 4-6-2025 مع بداية التعاملات    انخفاض أسعار النفط بعد زيادة إنتاج مجموعة أوبك+    اليوم.. السيسي يتوجه إلى أبو ظبي للقاء رئيس دولة الإمارات    كامل الوزير: 70% نسبة تنفيذ الخط الأول من القطار السريع والتشغيل التجريبي يناير 2026    علي الهلباوي يحتفل مع جمهوره بعيد الأضحى في ساقية الصاوي    رشوان توفيق عن الراحلة سميحة أيوب: «مسابتنيش في حلوة ولا مرة»    طقس عيد الأضحى 2025 .. أجواء غير عادية تبدأ يوم عرفة وتستمر طوال أيام التشريق    بكام الطن؟ أسعار الأرز الشعير والأبيض اليوم الأربعاء 4 يونيو 2025 في أسواق الشرقية    النيابة تقرر حبس 5 متهمين بالتنقيب عن الآثار أسفل قصر ثقافة الطفل بالأقصر    ظهور وزير الرياضة في عزاء والدة عمرو الجنايني عضو لجنة التخطيط بالزمالك (صور)    «إنتوا هتجننونا».. خالد الغندور ينفعل على الهواء ويطالب بمنع زيزو من المشاركة مع الأهلي في المونديال    كامل الوزير: تذكرة المونوريل بنصف تكلفة بنزين السيارة    الدولار ب49.62 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الأربعاء 4-6-2025    "مايكل وملاكه المفقود" لهنري آرثر جونز.. جديد قصور الثقافة في سلسلة آفاق عالمية    جيش الاحتلال يحذر سكان غزة من التوجه لمراكز توزيع المساعدات    مقتل محامٍ في كفر الشيخ.. ووكيل النقابة: اعتداء وحشي    مصرع وإصابة 17 شخصا في انقلاب ميكروباص بالمنيا    إصابة 14 شخصًا في انقلاب ميكروباص بالطريق الصحراوى الغربى بأسيوط    تنسيق 2025.. هؤلاء الطلاب مرشحون لجامعة "ساسكوني مصر"    رسميا.. رفع إيقاف قيد الزمالك    ليلى علوي تنعى الفنانة سميحة أيوب: "كانت الأم المشجعة دايمًا"    موعد أذان فجر الأربعاء 8 من ذي الحجة 2025.. ودعاء في جوف الليل    «احنا الأهلي».. رد صادم من ريبيرو على مواجهة ميسي    «شعار ذهبي».. تقارير تكشف مفاجأة ل بطل كأس العالم للأندية 2025    دعاء النبي في يوم التروية.. الأعمال المستحبة في الثامن من ذي الحجة وكيفية اغتنامه    «حسبي الله فيمن أذاني».. نجم الزمالك السابق يثير الجدل برسالة نارية    رئيس حزب الجيل: إخلاء سبيل 50 محبوسًا احتياطيًا من ثمار الجمهورية الجديدة    يُعد من الأصوات القليلة الصادقة داخل المعارضة .. سر الإبقاء على علاء عبد الفتاح خلف القضبان رغم انتهاء فترة عقوبته؟    90.1 % صافي تعاملات المصريين بالبورصة خلال جلسة منتصف الأسبوع    للتنظيف قبل العيد، خلطة طبيعية وآمنة لتذويب دهون المطبخ    تعرف على أهم المصادر المؤثرة في الموسيقى القبطية    الهلال يسعى لضم كانتي على سبيل الإعارة استعدادا لمونديال الأندية    تامر حسني: «زعلان من اللي بيتدخل بيني وبين بسمة بوسيل ونفسي اطلعهم برة»    أبرزهم شغل عيال وعالم تانى.. أفلام ينتظر أحمد حاتم عرضها    مي فاروق توجه رسالة نارية وتكشف عن معاناتها: "اتقوا الله.. مش كل ست مطلقة تبقى وحشة!"    مسلم يطرح أحدث أغانيه "سوء اختيار" على "يوتيوب"    رئيس الأركان يعود إلى مصر عقب انتهاء زيارته الرسمية إلى دولة رواندا    رئيس الوزراء يشهد توقيع عقد شراكة وتطوير لإطلاق مدينة «جريان» بمحور الشيخ زايد    قبل العيد.. ضبط 38 كيلو أغذية غير صالحة للاستهلاك بالمنيا    «الإفتاء» تنشر صيغة دعاء الخروج من مكة والتوجه إلى منى    إرهاق جسدي وذهني.. حظ برج الدلو اليوم 4 يونيو    بمكون منزلي واحد.. تخلصي من «الزفارة» بعد غسل لحم الأضحية    رجل يخسر 40 كيلو من وزنه في 5 أشهر فقط.. ماذا فعل؟    "چبتو فارما" تستقبل وزير خارجية بنين لتعزيز التعاون الدوائي الإفريقي    "صحة المنوفية": استعدادات مكثفة لعيد الأضحى.. ومرور مفاجئ على مستشفى زاوية الناعورة المركزي    لأول مرة.. الاحتلال يكشف أماكن انتشار فرقه فى قطاع غزة..صورة    ماهر فرغلي: تنظيم الإخوان في مصر انهار بشكل كبير والدولة قضت على مكاتبهم    هل تكبيرات العيد واجبة أم سنة؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات من القَاهِرةُ الفَاطِميَّة
نشر في بص وطل يوم 18 - 04 - 2010

رقَصَ فؤادِي طربًا عندَمَا علمْتُ منْ أبِي بأنَّنَا سوفَ نذهَبُ إلَى قريَتِنَا فِي إِجازَةِ نِصْفَ العامِ، فأنَا لمْ أذهَبْ إلَى هنَاكَ منذُ أنْ كانَ عُمْرِي سبْعَةَ أعْوَامٍ وأنَا الآنَ فِي الحاديةِ عشرَة، إذَنْ أربعُ سنواتٍ مضَتْ لمْ تَطَأْ فيهَا قَدَمِي قريَتِي الحبيبةِ. حقًا إنَّ أبِي تركَهَا منذُ زمنٍ بعيدٍ وَلَقَدْ تعوَّدنَا جميعًا حياةَ المدينةِ، ولكِنْ عندمَا تكونُ منْ سكَّانِ القاهرَةِ خاصةً فتكونُ قريتُكَ هِي الملاذَ الوحيدَ للهروبِ منْ هذَا الصخَبِ الفظيعِ ولَوْ لبضْعَةِ أيامٍ، خاصةً وأنَّ قريتَنَا جميلةٌ ولاَ أدْرِي أهِيَ حقًا جميلةٌ أمْ أننِّي أرَاهَا كذلِكَ..
وَليسَتْ هذِهِ مشكلةً، فسواءٌ هذَا أوذَاكَ فأنَا أحبُّهَا حبًا جمًا، وأُحِبُّ منْ فيهَا أَيضًا، فهُمْ جمِيعًا أعمامِي وأبناءُ عمومَتِي.. وَحِينَ جاءَ وقتُ الذهابِ سلَكْنَا تلكَ الطريقَ إلَى القريةِ وهيَ فِي نظَرِي أَرْوَعَ مَا ترَى العينُ .. طريقٌ ممتدةٌ هادئةٌ، الأشجارُ علَى الجانبَينِ، ورائحةُ الهواءِ النقيةُ التِي لا أشمُّهَا إلاَّ عندَ ذهابِي إلَى قريَتِي ..
وَصَلْنَا وَمَا أَرْوَعَ الوصولَ! فمِنْ قبلِ الدخولِ إلَى القريَةِ يلاحِقُكَ الأحِبَّةُ منْ كلِّ جانِبٍ، وأحيانًا لاَ تعرِفُهُمْ ولمْ تَكُنْ رأيتَهُمْ منْ قبلُ، ولكِنْ هُوَ ذا طَابِعُهُم عندَمَا يعرفُونَ أنَّ أحدًا منْ أُسَرِ أيًا مِنْ أهْلِ القريةِ قدْ وَصَلَ.. وتتعَجَّبُ فمَا إِنْ تطَأَ قدَمَاكَ القريةَ إلَى أَنْ تَخْرُجَ منْهَا وَأنْتَ تلْهَثُ ..!
اليومُ فِي دارِ عمِّي وَغَدًا فِي دَارِ عمَّتِي وبَعْدَ غدٍ فِي دارِ ابنِ عمِّي أمَّا العشاءُ فعندَ عمَّتِي، وَهَكَذَا كلُّ يومٍ فِي دارٍ وكُلُّ دارٍ فيهِ طَعَامٌ ..! وَهذَا طعامٌ أروَعُ مِنْ ذاكَ .. وهكذا .. ولكِنْ فِي النهايَةِ فِي آخرِ النهارِ يكونُ مآلنَا دائمًا فِي دارِ عمِّي الأكبرَ (عاشُور)، ولَنْ أصفَ لكُم روعَةَ الحقولِ وجمالَهَا، ورائحةَ أشجارِ اللَّيمُونِ، واللَّعِبِ معَ أبناءِ العمومَةِ طيلَةَ النهارِ .. مَا أرْوَعَهَا منْ قريةٍ !!
وصلْنَا قرب صلاةِ الظهر، وبعْدَ الصلاةِ كانَ الطعَامُ معدًا .. وَلِيمَةٌ رائِعَةٌ، أليْسَ هوَ كبيرُ العائِلَة؟! طيلَةُ النهارِ لاَ يخلُو مِنْ طعَامٍ، وما بينَ الطعامِ والطعامِ طعامٌ أيضًا !!
حتَّي حلَّ المسَاءُ، وكنْتُ أنَا وَأَخَوَاتِي فِي قمَّةِ التَّعَبِ والإِرْهَاقِ منْ أوَّلِ ليْلَةٍ.. دَخَلْنَا جمِيعًا الحُجرَةَ المعَدَّةَ لاستقبَالِنَا للمَبِيتِ فيهَا، وَوَضَعْتُ جسَدِي علَى ذلكَ السريرِ ذِي الأعمِدَةِ المرتَفِعَةِ، وبجَانِبِي أَخَوَاتِي الثلاثُ، وَفِي لمْحِ البَصَرِ – لاَ أدْرِي كيفَ !
وجدتُّ أخواتِي جَمِيعَهُنَّ فِي سُباتٍ عميقٍ، فَلاَ عجَبَ فهُنَّ أصغَرُ مِنِّي، ولكِنَّ العجَبَ هُوَ أنَّ أبِي وأمِّي كذَلِكَ !! هَدَأَتْ الدارُ، وكانَ لابدَّ لِي منَ النَّومِ أنَا أيضًا، ولكِنِّي، وَلاَ أدرِي لماذَا، علَى عكسِ جميعِ البَشَرِ، منَ الصنفِ الذِي إذَا اشتدَّ تعَبُهُ ضاعَ نوْمُهُ، ولكِنْ لابدَّ لِي منَ النَّومِ..
فردتُ جسدِي علَى طرفِ الفرَاشِ بجانبِ أَخواتِي، ولاَ أسمَعُ إلاَّ صوتَ السكونِ، وفجأةً علَى غيرِ انتظارٍ،ٍ سمعتُ صوتًا أعرِفُهُ جيدًا، ولكنِّي لستُ مدركًا تمامًا مَا هُوَ ؟
أوْ أيْنَ سمعْتُهُ منْ قبل، ولكنَّهُ جعَلَ جميعَ أوصالِي ترْتعِدُ، وشعرْتُ كأنَّ شعرَ جسدِي منْ أخمصِ إصبعِي إلى آخرِ شعرةٍ فِي رأسِي كمَا لوْ كانَتْ مساميرَ مدببةً، ولاَ أدرِي إلاَّ وأنَا أقفِزُ لأكونَ وسطَ السريرِ بين أخواتي، لاَ علَى طرفِهِ، وفجأةً سمعتُ الصوتَ مرةً أخرَى، وارتَعَدَ جسَدِي بشدةٍ، وهممتُ جاثيًا على ركبتيَّ، ومَا هِى إلاَّ ثوانٍ معَ سماعِي الصوتَ للمرةِ الثالثةِ إلاَّ وَلاَ حيلَةَ لِي، وجدتنِي بينَ أبِي وأمِّي فِي الفراشِ الآخرِ وأنَا أنْحشِرُ بينهُمْ فِي مساحةٍ لا تزيدُ عنْ الشبرِ، وأنَا أسمعُ الصوتَ وشيءٌ مَا بداخلِي يقولُ لِي أنَّ هذَا الصوتَ مألوفٌ لِي جدًا، ولكنْ مَا هوَ ؟ لاَ أدرِي ..
وبدَأْتُ أُعملُ عقلِي حتَّى أزيحُ ذلكَ الرعبَ الرهيبَ، وشيئًا فشيئًا بدأَ الصوتُ يتباعدُ حتَّي غلبنِي النعاسُ، ولمْ أدرِ إلاَّ فِي الصباحِ، وزوجةُ عمِّي تنادِي علينَا لطعامِ الإفطارِ ..
لاَ أدرِي لماذَا لمْ أقصْ علَى أبِي وأمِي مَا حدَثَ لشيءٍ مَا فِي نفسِي لا أعرِفُهُ، ربَّمَا يكونُ خوفِي أنْ تضيعَ عليَّ أنَا وأسرتِي مباهجُ هذِهِ الرِّحلَةِ الرَّائعةِ فِي تلكَ المخاوفِ، وعلَى العمومِ كانَ اليومُ التالِي مشرقًا جميلاً، لهْوٌ ولعِبٌ وطعامٌ فطعامٌ !
وخضرةٌ وسماءٌ رائعةٌ صافيةٌ، وفِي المساءِ بمجرَّدِ أنْ وضعتُ جسدِي علَى الفراشِ إلاَّ وجاءَت إلَى رأسِي ليلةُ الأمسِ، ولمْ تأتِ فِي رأسِي فقطْ، بلْ جاءَتْ بكلِّ حذَافيرِهَا .. ولَمْ أدرِ إلاَّ وأنَا ممددٌ بينَ أبِي وأمِي في الفراشِ الآخرِ ..! مرَّتْ عليّ الأيامُ الستَّةُ التِي قضينَاهَا هناكَ علَى نفسِ المنوَالِ، ولاَ أدرِي السببَ الحقيقِيَّ فِي عدمِ روايتِي مَا حدَثَ لأبِي وأمِي..
رجعْتُ إلَى دارِي، وفِي المساءِ دخلتُ إلَى فراشِي، وهنَا أنامُ بمفردِي فِي فراشِي وفِي حجرةٍ غيرَ حجرةِ أبِي وأمِي، ومَا إنْ مدَتُّ جسدِي فِي الفراشِ حتَى بدَأَ جسدِي ينتفضُ .. صحيحٌ أننِي لمْ أسمعْ ذلكَ الصوتَ فِي أذنِي، ولكنِّي سمعتُهُ داخلِي .. نعم ..!
إنَّهُ هوَ ذلكَ الصوتُ الرهيبُ الذِي كنتُ أنتفضُ منْهُ لسنواتٍ طويلةٍ. كنتُ وقتَهَا فِي الرابعَةِ منْ عمرِي، وكانَ أبناءُ الجيرانِ جميعًا يكبرونَنِي، فمنهُمْ منْ هوَ فِي السابعةِ أوْ العاشرةِ، أوْ مَنْ هُمْ فِي مثلِ سنِّي الآن، وكانُوا مركزَ ثقةٍ بالنسبةِ لأمِّي، لتتركَنِي معهُمْ، وخاصةً فِي أيامِ العيدِ عندَ اللعبِ فِي الشارِعِ.
فنحنُ نسكنُ فِي (المنطقةِ الفاطمِيَّةِ) ومَا بهَا منْ مبانٍ قديمةٍ وعتيقةٍ فِي كلِّ مَا حولَنَا، أزقةٌ ضيقةٌ كثيرةٌ، ومبانٍ ضخمةٌ حقًا، أدركتهَا حاليًا، وأدركتُ مدَى روعتِهَا وجمَالِهَا من (الصاغةِ) إلَى (خانِ الخليلِيّ) و(الحسين) و(باب زويلة)، ولاَ أنسَى أبدًا حكاياتِ أولادِ الجيرانِ، ووصفِهِمْ الدقيقِ لشنقِ (طومَانْ بَاي) آخرِ ملوكِ دولةِ المماليكِ علَى (بابِ زويلة)، كمَا لوْ كانُوا رأوْهُ منذُ ذلكَ الزمنِ البعيدِ، والأعجبُ تلكَ الروايةُ العجيبةُ التِي طالمَا حكُوهَا لِي عنْ ذلكَ البيتِ القديمِ المهجورِ، فِي زقاقٍ منْ تلكَ الأزقَّةِ التِي يملؤُهَا عبقُ التاريخِ ..
ومَعَ ذلكَ لاَ أدرِي لماذَا كانُوا دائمًا يقولُونَ لِي أنَّهُمْ ذاهبُونَ بِي إلَى (بابِ اللوقِ)، وهيَ منطقةٌ أدركتُ الآنَ فقَطْ أنَّهَا تبعدُ عنْ تلكَ المنطَقَةِ الفاطميَّةِ التِي نعيشُ فيهَا، وكنتُ أشعرُ أننِّي أخطِئُ خطأً كبيرًا بذهابِي إلَي منطقةِ (بابِ اللوقِ) هذِهِ بدونِ علمِ أمِّي، لأنَّنِي كنتُ أشعُرُ أنَّهَا بعيدَةٌ جدًا عن دارِي، وأدرَكْتُ اليومَ أنَّهَا لا تبعُدُ كلَّ هذَا البعْدِ عنْ دارِنَا، جائزٌ لصغرِ سنِّي أو لكِبَرِ سنِّهِم هُمْ، لاَ أدرِي، المهمُّ أنهُمْ كانُوا يدخلونَنِي فِي متاهةٍ حتَّي نصِلَ إلَى ذلكَ المنزلِ القديمِ المظلمِ المهجورِ في ذلكَ الزقاقِ.
وكنَّا ننظرُ من نافذةٍ حديديةٍ موجودةٍ فِي الزقاقِ إلَى داخلِ هذهِ الدارِ التِي يملؤُهَا الظلامُ الشديدُ، وأسمَعُ ذلكَ الصوتَ المرعبَ الرهيبَ، وأرَى تلكَ المرأَةُ القابعةُ فِي ذلكَ الركنِ المظلمِ إلاَّ منْ بصيصٍ من الضوءِ الداخلِ منْ تلكَ النافذةِ الحديديةِ، ويقصوُّنَ عليَّ قصتَهَا بأنَّ هذهِ الدارَ الواسعةَ كانَ يسكُنُهَا عدةُ عائلاتٍ، فِي كلِّ حجرةٍ عائلةٍ.
وكانَتْ هذِهِ المرأَةُ تسكنُ إحدَى هذِهِ الحجرَاتِ التِي اشتعلَتْ فيهَا النيرانُ فجأةً، ومَاتَ فِي الحريقِ جميعَ أفرادِ أسرتِهَا، ولمْ يتبقَّ إلاَّ هِيَ، واستمرَّتْ علَى هذهِ الحالِ، تأنُّ ليلاً ونهارًا، حتَّي فرَّتْ جميعُ الأسرِ القاطنةِ فِي البيتِ، واحدةً تلوَ الأخرَى، وتركوهَا هكَذَا وقَدْ كانَ هذَا هوَ صوتَهَا، وهوَ نفسُ الصوتِ الذِي سمعتُه فِي قريتِنَا ..!
ومَا إنْ وصلتُ إلَى نهايةِ هذهِ القصَّةِ داخلِي حتَّى صممتُ علَى أننِي غدًا – إنْ شاءَ اللهُ – سوفَ أذهبُ لأَرََى ذلكَ المنزلَ وتلكَ المرأةَ التِي مرّ علَى عهدِي بهَا سنواتٌ قدْ نسيتُهَا فيهَا تمامًا.
فِي الصَّبَاحِ ارتديتُ ملابِسِي، ونزلتُ إلَى الشارِعِ دالفًا إلَى ذلكَ الزقاقِ، ولكنِّي وجدتُ أن المَحَالَّ حوْلَهُ تعِجُّ بالضجيجِ والمارَّةِ، ولنْ أستطيعَ الدخولَ إلَى الدارِ، ورجعتُ أدرَاجِي إلَى بيتِي، علَى عزمٍ أنْ أعودَ فِي المساءِ ..
عندمَا حلَّ المساءُ نزلتُ، وكانتْ تلكَ الأزقَّةُ المحيطةُ بذلكَ الزقاقِ الذِي بهِ المنزِلُ شِبْهَ مظلمةٍ إلاَّ مِنْ بعضِ الإضاءَةِ الخارِجَةِ من الشقَقِ فِي المنازِلِ المجاورةِ. وَمشِيتُ فِي حذرٍ ورعبٍ شديدٍ، إلاَّ أنَّ شيئًا داخِلِي كانَ يصرُّ علَى الذهابِ حتَّى وصلتُ إلَى ذلكَ الزقَاقِ وتلكَ البوابَةِ الضخمةِ جدًا، وهممْتُ بالدخولِ وإذَا بصرخةٍ مدويةٍ خُلِعَ لهَا قلبِي، وصوتٍ أجشٍ فظيعٍ يقولُ لِي: ماذَا تريدُ ؟
والتفتُ بسرعةٍ ووجدتُّ رجلاً، وَلاَ أدرِي أرجلٌ حقًا هوَ أمْ ماذَا، ولكِنَّ كلَّ مَا أعرِفُهُ أننِي أطلقتُ ساقايَ للريحِ حتَّى وصلتُ إلَى دارِي، واندسَسْتُ بجانبِ أحدِ أشقَّائِي علَى وعدٍ داخلِ نفسِي بأنِّي لنْ أعيدَ هذِهِ الكرَّةَ مرةً أخرَي ! وفِي الصبَاحِ راودَتنِي نفسُ الفكرَةِ: لابدَّ لِي من الذهابِ إلَى ذلكَ الزقاقِ وهذهِ الدارِ المرعبةِ، وتلكَ المرأةِ التِي تأنُّ منذُ زمنٍ بعيدٍ، وحاوَلْتُ إثناءَ نفسِي طيلةَ اليومِ عن الذهابِ دونَ جدْوَى، وظلَّ ذلكَ الإلحَاحُ داخلَ رأسِي حتَّى أخذتُ بطاريَّتِي ونزلتُ من فورِي متوجِّهًا إلَى ذلكَ البيتِ ولِيَكُنْ ما يكونُ..
واقترَبْتُ قليلاً حتَّى وصلْتُ إلَى تلكَ البوابةِ الضخمةِ، وجميعُ اوصالِي ترتَعِدُ، ومددتُّ يدِي لفتحِ ذلِكَ البابِ الضخمِ، وفتحتُهُ بصعوبةٍ شديدةٍ نتيجةً لثقَلِهِ، وأنَا ممسكٌ فِي يدِي الأخرَى تلكَ البطاريةَ التِي تضيءُ لِي مَا هوَ أمامِي، متوجهًا إلَى ذلكَ الركنِ الذِي تجلسُ فيهِ هذهِ المرأةِ، وفجأةً سمعتُ ذلكَ الأنينَ المرعبَ، ووقفَ شعرُ رأسِي .. لاَ .. بلْ شعرُ جسدِي كلُّهُ، وكادَ قلبِي أنْ يتوقَّفَ وأنَا أَسمعُهُ يدُقُّ فِي أُذُنِى مثلَ الطبولِ الإِفريقِيَّةِ أثنَاءَ الحرْبِ، وكَادَ أنْ يغمَى علَيَّ وندمْتُ علَى ما فعلتُ .. يَا ليتَنِي ما فعلت ...
وفجأةً انقضتْ يدٌ حديديةٌ علَى كتفِي معَ ذلكَ الصوتِ الأجشِّ، وذلكَ الأنينِ في وقتٍ واحدٍ، ولمْ أدرِ إلاَّ وذلكَ الرجلُ يقومُ بإفاقَتِي وأنَا في حالَةٍ من الذعرِ الشديدِ، وقالَ لِي قصَّ عليَّ ما الذِي أتَى بكَ إلَى هنا؟! ومنْ شدَّةِ رعبِي بدأتُ أقصُّ عليْهِ ما فاتَ كلَّهُ، وأخذَ العجوزُ يربتِ علَى كتفيَّ مهدِّئًا إيَّايَ، ثمَّ أخذَنِي إلَى تلكَ العجوزِ التِي تأنُّ منْ سنينٍ، ولمْ أجِدْ إلاَّ أنَّهَا بئرٌ قديمةٌ فِي الدارِ، كانُوا يأخذونَ منهَا الماءَ بدلوٍ، ومَا هذَا الأنينُ إلا صوتُ الدلوِ الذِي يهزُّهُ الهواءُ الداخلُ منَ النافِذَةِ فيرتطِمُ بجدرانِ البئْرِ ويصدُرُ عنْهُ ذلكَ الأنين!

مديحة جعاره
التعليق:
الكاتبة قصاصة ماهرة، ولغتها سليمة. الأخطاء اللغوية قليلة والمنطقة التي تعالجها ثرية، أساطيرنا هي أحد أهم منابع الإبداع. لكن في النص إمكانية لأكثر من قصة قصيرة.
أو ربما إذا أفسحنا له المجال بحرية يكون نوعاً أدبياً مختلفاً. أقترح على الكاتبة ألا تقيد نفسها بنوع أدبي مسبقاً.
د. سيد البحراوي
أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.