«مصر للمعلوماتية» تطلق تطبيقا إلكترونيا لإدارة الكافتيريات الجامعية    إحباط مخطط إرهابي لحركة "حسم" الإخوانية.. محمد رفيق إبراهيم مناع محكوم عليه بالسجن المؤبد    اليوم آخر موعد لتنازلات مرشحي «الشيوخ».. وبدء الدعاية الانتخابية    محافظ الأقصر في جولة صباحية لمتابعة النظافة بعدد من شوارع المدينة    بعد تقديم استقالتها من الحكومة: رئيس الوزراء يهنىء الدكتورة ياسمين فؤاد بمنصبها الأممي الجديد    أسعار الأسماك اليوم الأحد 20 يوليو في سوق العبور للجملة    حكومة غزة: نحن على أعتاب مرحلة الموت الجماعي.. وأمام أكبر مجزرة في التاريخ    كوريا الجنوبية: مصرع 14 شخصا وفقدان 12 آخرين بسبب الأمطار الغزيرة    راحة 24 ساعة للاعبي الزمالك من معسكر العاصمة الإدارية    ليفربول يتوصل لاتفاق مع فرانكفورت لضم إيكيتيكي    ريال مدريد يصدم فينيسيوس.. تجميد المفاوضات    خططت لاستهداف منشآت حيوية.. الداخلية تعلن إحباط مخطط إرهابي لحركة "حسم" الإخوانية | فيديو    قرار وزاري برد الجنسية المصرية ل21 مواطنًا    إصابة 4 أشخاص في تصادم بين دراجتين ناريتين بطريق سنهور الزراعي بالفيوم    مصرع عجوز سقطت من شرفة الطابق الثامن بالإسكندرية.. وأسرتها تكشف السبب    أمير كرارة في حوار خاص ل«بوابة أخبار اليوم»: نفسي أعمل كل حاجة والجمهور يفضل يحبني    دارين حداد: 5 ساعات ميك أب وساعة لإزالته بسبب «فحيح»| خاص    وحدة السكتة الدماغية بقصر العيني تحصل على الاعتماد الدولي    أسباب ارتفاع أسعار الأدوية في الصيدليات.. «الغرف التجارية» توضح    تنفيذًا لخطة ترشيد استهلاك الكهرباء| ضبط 143 مخالفة لمحلات غير ملتزمة بقرار الغلق    عودة الزحام الرسمي.. خطة مرورية محكمة لتأمين شوارع العاصمة بعد الإجازة    «الداخلية»: ضبط 293 قضية مخدرات وتنفيذ 72 ألف حكم قضائي خلال 24 ساعة    تقرير حكومي: مصر أصبحت وجهة جاذبة لتجميع السيارات بدعم من استقرار الاقتصاد والسياسات الصناعية    إلغاء أكثر من 200 رحلة طيران بسبب الطقس في هونج كونج    الثلاثاء.. مناقشة "نقوش على جدار قلب متعب" لمحمد جاد هزاع بنقابة الصحفيين    قبل انطلاقه بساعات.. تفاصيل حفل افتتاح الدورة ال 18 ل المهرجان القومي للمسرح    توافق إيران والترويكا الأوروبية على استئناف المحادثات النووية    كونتكت للوساطة التأمينية تنضم رسميًا لعضوية الميثاق العالمي للأمم المتحدة    «الوزير»: ملتزمون بحماية الصناعة الوطنية من ممارسات الإغراق وترشيد فاتورة الاستيراد    ضم تخصصات جديدة، كل ما تريد معرفته عن تعديل قانون أعضاء المهن الطبية    مصرع العشرات في غرق قارب سياحي بفيتنام    دير السيدة العذراء بالمحرق يتهيأ لإحياء تذكار الأنبا ساويروس    أوكرانيا: ارتفاع قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى مليون و41 ألفا    عرض أخير من برشلونة للتعاقد مع لويس دياز    «بين الخصوصية والسلام الداخلي»: 3 أبراج تهرب من العالم الرقمي (هل برجك من بينهم؟)    بعد غياب عامين.. التراث الفلسطيني يعود إلى معرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب    حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية؟.. أمين الفتوى يجيب    حكم استخدام شبكات الواى فاى بدون علم أصحابها.. دار الإفتاء تجيب    دعوى قضائية ضد حكومة بريطانيا لقرارها عدم إجلاء أطفال مرضى من غزة    نتيجة الثانوية العامة 2025 بالاسم ورقم الجلوس.. رابط الاستعلام عبر موقع الوزارة (فور اعتمادها)    وزير الري يتابع إجراءات اختيار قادة الجيل الثاني لمنظومة الري المصرية 2.0    "100 يوم صحة".. خدمات طبية شاملة للكشف المبكر عن الأمراض بالعريش    جامعة القاهرة تعلن حصول وحدة السكتة الدماغية بقصر العيني على الاعتماد الدولي    وزير الإسكان يتابع تطوير منظومة الصرف الصناعي بالعاشر من رمضان    كريم رمزي يفتح النار على أحمد فتوح بعد أزمة الساحل الشمالي    وزارة العمل تُعلن عن وظائف خالية برواتب مجزية    بنك التنمية الصناعية يحصد جائزة التميز المصرفي في إعادة الهيكلة والتطوير لعام 2025    ذكرى رحيل الشيخ محمود علي البنا.. قارئ الملائكة    مصرع 3 أطفال أشقاء غرقا داخل حوض مياه ببالبحيرة    دعاء الفجر | اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك    المبعوث الأمريكي يلتقي قائد «قسد» لاستعادة الهدوء في السويداء    موعد بداية شهر صفر 1447ه.. وأفضل الأدعية المستحبة لاستقباله    «مينفعش تعايره».. مجدي عبدالغني يهاجم الأهلي ويدافع عن الاتحاد الفلسطيني بشأن أزمة وسام أبوعلي    «اتباع بأقل من مطالب الأهلي».. خالد الغندور يكشف مفاجأة عن صفقة وسام أبوعلي    سيف زاهر: رغبة مدافع «زد» تحسم واجهة اللاعب المقبلة    الكونغو الديمقراطية و«إم 23» توقعان اتفاقًا لوقف إطلاق النار    حنان ماضى تعيد للجمهور الحنين لحقبة التسعينيات بحفل «صيف الأوبر» (صور و تفاصيل)    أمين الفتوى: الرضاعة تجعل الشخص أخًا لأبناء المرضعة وليس خالًا لهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكايات من القَاهِرةُ الفَاطِميَّة
نشر في بص وطل يوم 18 - 04 - 2010

رقَصَ فؤادِي طربًا عندَمَا علمْتُ منْ أبِي بأنَّنَا سوفَ نذهَبُ إلَى قريَتِنَا فِي إِجازَةِ نِصْفَ العامِ، فأنَا لمْ أذهَبْ إلَى هنَاكَ منذُ أنْ كانَ عُمْرِي سبْعَةَ أعْوَامٍ وأنَا الآنَ فِي الحاديةِ عشرَة، إذَنْ أربعُ سنواتٍ مضَتْ لمْ تَطَأْ فيهَا قَدَمِي قريَتِي الحبيبةِ. حقًا إنَّ أبِي تركَهَا منذُ زمنٍ بعيدٍ وَلَقَدْ تعوَّدنَا جميعًا حياةَ المدينةِ، ولكِنْ عندمَا تكونُ منْ سكَّانِ القاهرَةِ خاصةً فتكونُ قريتُكَ هِي الملاذَ الوحيدَ للهروبِ منْ هذَا الصخَبِ الفظيعِ ولَوْ لبضْعَةِ أيامٍ، خاصةً وأنَّ قريتَنَا جميلةٌ ولاَ أدْرِي أهِيَ حقًا جميلةٌ أمْ أننِّي أرَاهَا كذلِكَ..
وَليسَتْ هذِهِ مشكلةً، فسواءٌ هذَا أوذَاكَ فأنَا أحبُّهَا حبًا جمًا، وأُحِبُّ منْ فيهَا أَيضًا، فهُمْ جمِيعًا أعمامِي وأبناءُ عمومَتِي.. وَحِينَ جاءَ وقتُ الذهابِ سلَكْنَا تلكَ الطريقَ إلَى القريةِ وهيَ فِي نظَرِي أَرْوَعَ مَا ترَى العينُ .. طريقٌ ممتدةٌ هادئةٌ، الأشجارُ علَى الجانبَينِ، ورائحةُ الهواءِ النقيةُ التِي لا أشمُّهَا إلاَّ عندَ ذهابِي إلَى قريَتِي ..
وَصَلْنَا وَمَا أَرْوَعَ الوصولَ! فمِنْ قبلِ الدخولِ إلَى القريَةِ يلاحِقُكَ الأحِبَّةُ منْ كلِّ جانِبٍ، وأحيانًا لاَ تعرِفُهُمْ ولمْ تَكُنْ رأيتَهُمْ منْ قبلُ، ولكِنْ هُوَ ذا طَابِعُهُم عندَمَا يعرفُونَ أنَّ أحدًا منْ أُسَرِ أيًا مِنْ أهْلِ القريةِ قدْ وَصَلَ.. وتتعَجَّبُ فمَا إِنْ تطَأَ قدَمَاكَ القريةَ إلَى أَنْ تَخْرُجَ منْهَا وَأنْتَ تلْهَثُ ..!
اليومُ فِي دارِ عمِّي وَغَدًا فِي دَارِ عمَّتِي وبَعْدَ غدٍ فِي دارِ ابنِ عمِّي أمَّا العشاءُ فعندَ عمَّتِي، وَهَكَذَا كلُّ يومٍ فِي دارٍ وكُلُّ دارٍ فيهِ طَعَامٌ ..! وَهذَا طعامٌ أروَعُ مِنْ ذاكَ .. وهكذا .. ولكِنْ فِي النهايَةِ فِي آخرِ النهارِ يكونُ مآلنَا دائمًا فِي دارِ عمِّي الأكبرَ (عاشُور)، ولَنْ أصفَ لكُم روعَةَ الحقولِ وجمالَهَا، ورائحةَ أشجارِ اللَّيمُونِ، واللَّعِبِ معَ أبناءِ العمومَةِ طيلَةَ النهارِ .. مَا أرْوَعَهَا منْ قريةٍ !!
وصلْنَا قرب صلاةِ الظهر، وبعْدَ الصلاةِ كانَ الطعَامُ معدًا .. وَلِيمَةٌ رائِعَةٌ، أليْسَ هوَ كبيرُ العائِلَة؟! طيلَةُ النهارِ لاَ يخلُو مِنْ طعَامٍ، وما بينَ الطعامِ والطعامِ طعامٌ أيضًا !!
حتَّي حلَّ المسَاءُ، وكنْتُ أنَا وَأَخَوَاتِي فِي قمَّةِ التَّعَبِ والإِرْهَاقِ منْ أوَّلِ ليْلَةٍ.. دَخَلْنَا جمِيعًا الحُجرَةَ المعَدَّةَ لاستقبَالِنَا للمَبِيتِ فيهَا، وَوَضَعْتُ جسَدِي علَى ذلكَ السريرِ ذِي الأعمِدَةِ المرتَفِعَةِ، وبجَانِبِي أَخَوَاتِي الثلاثُ، وَفِي لمْحِ البَصَرِ – لاَ أدْرِي كيفَ !
وجدتُّ أخواتِي جَمِيعَهُنَّ فِي سُباتٍ عميقٍ، فَلاَ عجَبَ فهُنَّ أصغَرُ مِنِّي، ولكِنَّ العجَبَ هُوَ أنَّ أبِي وأمِّي كذَلِكَ !! هَدَأَتْ الدارُ، وكانَ لابدَّ لِي منَ النَّومِ أنَا أيضًا، ولكِنِّي، وَلاَ أدرِي لماذَا، علَى عكسِ جميعِ البَشَرِ، منَ الصنفِ الذِي إذَا اشتدَّ تعَبُهُ ضاعَ نوْمُهُ، ولكِنْ لابدَّ لِي منَ النَّومِ..
فردتُ جسدِي علَى طرفِ الفرَاشِ بجانبِ أَخواتِي، ولاَ أسمَعُ إلاَّ صوتَ السكونِ، وفجأةً علَى غيرِ انتظارٍ،ٍ سمعتُ صوتًا أعرِفُهُ جيدًا، ولكنِّي لستُ مدركًا تمامًا مَا هُوَ ؟
أوْ أيْنَ سمعْتُهُ منْ قبل، ولكنَّهُ جعَلَ جميعَ أوصالِي ترْتعِدُ، وشعرْتُ كأنَّ شعرَ جسدِي منْ أخمصِ إصبعِي إلى آخرِ شعرةٍ فِي رأسِي كمَا لوْ كانَتْ مساميرَ مدببةً، ولاَ أدرِي إلاَّ وأنَا أقفِزُ لأكونَ وسطَ السريرِ بين أخواتي، لاَ علَى طرفِهِ، وفجأةً سمعتُ الصوتَ مرةً أخرَى، وارتَعَدَ جسَدِي بشدةٍ، وهممتُ جاثيًا على ركبتيَّ، ومَا هِى إلاَّ ثوانٍ معَ سماعِي الصوتَ للمرةِ الثالثةِ إلاَّ وَلاَ حيلَةَ لِي، وجدتنِي بينَ أبِي وأمِّي فِي الفراشِ الآخرِ وأنَا أنْحشِرُ بينهُمْ فِي مساحةٍ لا تزيدُ عنْ الشبرِ، وأنَا أسمعُ الصوتَ وشيءٌ مَا بداخلِي يقولُ لِي أنَّ هذَا الصوتَ مألوفٌ لِي جدًا، ولكنْ مَا هوَ ؟ لاَ أدرِي ..
وبدَأْتُ أُعملُ عقلِي حتَّى أزيحُ ذلكَ الرعبَ الرهيبَ، وشيئًا فشيئًا بدأَ الصوتُ يتباعدُ حتَّي غلبنِي النعاسُ، ولمْ أدرِ إلاَّ فِي الصباحِ، وزوجةُ عمِّي تنادِي علينَا لطعامِ الإفطارِ ..
لاَ أدرِي لماذَا لمْ أقصْ علَى أبِي وأمِي مَا حدَثَ لشيءٍ مَا فِي نفسِي لا أعرِفُهُ، ربَّمَا يكونُ خوفِي أنْ تضيعَ عليَّ أنَا وأسرتِي مباهجُ هذِهِ الرِّحلَةِ الرَّائعةِ فِي تلكَ المخاوفِ، وعلَى العمومِ كانَ اليومُ التالِي مشرقًا جميلاً، لهْوٌ ولعِبٌ وطعامٌ فطعامٌ !
وخضرةٌ وسماءٌ رائعةٌ صافيةٌ، وفِي المساءِ بمجرَّدِ أنْ وضعتُ جسدِي علَى الفراشِ إلاَّ وجاءَت إلَى رأسِي ليلةُ الأمسِ، ولمْ تأتِ فِي رأسِي فقطْ، بلْ جاءَتْ بكلِّ حذَافيرِهَا .. ولَمْ أدرِ إلاَّ وأنَا ممددٌ بينَ أبِي وأمِي في الفراشِ الآخرِ ..! مرَّتْ عليّ الأيامُ الستَّةُ التِي قضينَاهَا هناكَ علَى نفسِ المنوَالِ، ولاَ أدرِي السببَ الحقيقِيَّ فِي عدمِ روايتِي مَا حدَثَ لأبِي وأمِي..
رجعْتُ إلَى دارِي، وفِي المساءِ دخلتُ إلَى فراشِي، وهنَا أنامُ بمفردِي فِي فراشِي وفِي حجرةٍ غيرَ حجرةِ أبِي وأمِي، ومَا إنْ مدَتُّ جسدِي فِي الفراشِ حتَى بدَأَ جسدِي ينتفضُ .. صحيحٌ أننِي لمْ أسمعْ ذلكَ الصوتَ فِي أذنِي، ولكنِّي سمعتُهُ داخلِي .. نعم ..!
إنَّهُ هوَ ذلكَ الصوتُ الرهيبُ الذِي كنتُ أنتفضُ منْهُ لسنواتٍ طويلةٍ. كنتُ وقتَهَا فِي الرابعَةِ منْ عمرِي، وكانَ أبناءُ الجيرانِ جميعًا يكبرونَنِي، فمنهُمْ منْ هوَ فِي السابعةِ أوْ العاشرةِ، أوْ مَنْ هُمْ فِي مثلِ سنِّي الآن، وكانُوا مركزَ ثقةٍ بالنسبةِ لأمِّي، لتتركَنِي معهُمْ، وخاصةً فِي أيامِ العيدِ عندَ اللعبِ فِي الشارِعِ.
فنحنُ نسكنُ فِي (المنطقةِ الفاطمِيَّةِ) ومَا بهَا منْ مبانٍ قديمةٍ وعتيقةٍ فِي كلِّ مَا حولَنَا، أزقةٌ ضيقةٌ كثيرةٌ، ومبانٍ ضخمةٌ حقًا، أدركتهَا حاليًا، وأدركتُ مدَى روعتِهَا وجمَالِهَا من (الصاغةِ) إلَى (خانِ الخليلِيّ) و(الحسين) و(باب زويلة)، ولاَ أنسَى أبدًا حكاياتِ أولادِ الجيرانِ، ووصفِهِمْ الدقيقِ لشنقِ (طومَانْ بَاي) آخرِ ملوكِ دولةِ المماليكِ علَى (بابِ زويلة)، كمَا لوْ كانُوا رأوْهُ منذُ ذلكَ الزمنِ البعيدِ، والأعجبُ تلكَ الروايةُ العجيبةُ التِي طالمَا حكُوهَا لِي عنْ ذلكَ البيتِ القديمِ المهجورِ، فِي زقاقٍ منْ تلكَ الأزقَّةِ التِي يملؤُهَا عبقُ التاريخِ ..
ومَعَ ذلكَ لاَ أدرِي لماذَا كانُوا دائمًا يقولُونَ لِي أنَّهُمْ ذاهبُونَ بِي إلَى (بابِ اللوقِ)، وهيَ منطقةٌ أدركتُ الآنَ فقَطْ أنَّهَا تبعدُ عنْ تلكَ المنطَقَةِ الفاطميَّةِ التِي نعيشُ فيهَا، وكنتُ أشعرُ أننِّي أخطِئُ خطأً كبيرًا بذهابِي إلَي منطقةِ (بابِ اللوقِ) هذِهِ بدونِ علمِ أمِّي، لأنَّنِي كنتُ أشعُرُ أنَّهَا بعيدَةٌ جدًا عن دارِي، وأدرَكْتُ اليومَ أنَّهَا لا تبعُدُ كلَّ هذَا البعْدِ عنْ دارِنَا، جائزٌ لصغرِ سنِّي أو لكِبَرِ سنِّهِم هُمْ، لاَ أدرِي، المهمُّ أنهُمْ كانُوا يدخلونَنِي فِي متاهةٍ حتَّي نصِلَ إلَى ذلكَ المنزلِ القديمِ المظلمِ المهجورِ في ذلكَ الزقاقِ.
وكنَّا ننظرُ من نافذةٍ حديديةٍ موجودةٍ فِي الزقاقِ إلَى داخلِ هذهِ الدارِ التِي يملؤُهَا الظلامُ الشديدُ، وأسمَعُ ذلكَ الصوتَ المرعبَ الرهيبَ، وأرَى تلكَ المرأَةُ القابعةُ فِي ذلكَ الركنِ المظلمِ إلاَّ منْ بصيصٍ من الضوءِ الداخلِ منْ تلكَ النافذةِ الحديديةِ، ويقصوُّنَ عليَّ قصتَهَا بأنَّ هذهِ الدارَ الواسعةَ كانَ يسكُنُهَا عدةُ عائلاتٍ، فِي كلِّ حجرةٍ عائلةٍ.
وكانَتْ هذِهِ المرأَةُ تسكنُ إحدَى هذِهِ الحجرَاتِ التِي اشتعلَتْ فيهَا النيرانُ فجأةً، ومَاتَ فِي الحريقِ جميعَ أفرادِ أسرتِهَا، ولمْ يتبقَّ إلاَّ هِيَ، واستمرَّتْ علَى هذهِ الحالِ، تأنُّ ليلاً ونهارًا، حتَّي فرَّتْ جميعُ الأسرِ القاطنةِ فِي البيتِ، واحدةً تلوَ الأخرَى، وتركوهَا هكَذَا وقَدْ كانَ هذَا هوَ صوتَهَا، وهوَ نفسُ الصوتِ الذِي سمعتُه فِي قريتِنَا ..!
ومَا إنْ وصلتُ إلَى نهايةِ هذهِ القصَّةِ داخلِي حتَّى صممتُ علَى أننِي غدًا – إنْ شاءَ اللهُ – سوفَ أذهبُ لأَرََى ذلكَ المنزلَ وتلكَ المرأةَ التِي مرّ علَى عهدِي بهَا سنواتٌ قدْ نسيتُهَا فيهَا تمامًا.
فِي الصَّبَاحِ ارتديتُ ملابِسِي، ونزلتُ إلَى الشارِعِ دالفًا إلَى ذلكَ الزقاقِ، ولكنِّي وجدتُ أن المَحَالَّ حوْلَهُ تعِجُّ بالضجيجِ والمارَّةِ، ولنْ أستطيعَ الدخولَ إلَى الدارِ، ورجعتُ أدرَاجِي إلَى بيتِي، علَى عزمٍ أنْ أعودَ فِي المساءِ ..
عندمَا حلَّ المساءُ نزلتُ، وكانتْ تلكَ الأزقَّةُ المحيطةُ بذلكَ الزقاقِ الذِي بهِ المنزِلُ شِبْهَ مظلمةٍ إلاَّ مِنْ بعضِ الإضاءَةِ الخارِجَةِ من الشقَقِ فِي المنازِلِ المجاورةِ. وَمشِيتُ فِي حذرٍ ورعبٍ شديدٍ، إلاَّ أنَّ شيئًا داخِلِي كانَ يصرُّ علَى الذهابِ حتَّى وصلتُ إلَى ذلكَ الزقَاقِ وتلكَ البوابَةِ الضخمةِ جدًا، وهممْتُ بالدخولِ وإذَا بصرخةٍ مدويةٍ خُلِعَ لهَا قلبِي، وصوتٍ أجشٍ فظيعٍ يقولُ لِي: ماذَا تريدُ ؟
والتفتُ بسرعةٍ ووجدتُّ رجلاً، وَلاَ أدرِي أرجلٌ حقًا هوَ أمْ ماذَا، ولكِنَّ كلَّ مَا أعرِفُهُ أننِي أطلقتُ ساقايَ للريحِ حتَّى وصلتُ إلَى دارِي، واندسَسْتُ بجانبِ أحدِ أشقَّائِي علَى وعدٍ داخلِ نفسِي بأنِّي لنْ أعيدَ هذِهِ الكرَّةَ مرةً أخرَي ! وفِي الصبَاحِ راودَتنِي نفسُ الفكرَةِ: لابدَّ لِي من الذهابِ إلَى ذلكَ الزقاقِ وهذهِ الدارِ المرعبةِ، وتلكَ المرأةِ التِي تأنُّ منذُ زمنٍ بعيدٍ، وحاوَلْتُ إثناءَ نفسِي طيلةَ اليومِ عن الذهابِ دونَ جدْوَى، وظلَّ ذلكَ الإلحَاحُ داخلَ رأسِي حتَّى أخذتُ بطاريَّتِي ونزلتُ من فورِي متوجِّهًا إلَى ذلكَ البيتِ ولِيَكُنْ ما يكونُ..
واقترَبْتُ قليلاً حتَّى وصلْتُ إلَى تلكَ البوابةِ الضخمةِ، وجميعُ اوصالِي ترتَعِدُ، ومددتُّ يدِي لفتحِ ذلِكَ البابِ الضخمِ، وفتحتُهُ بصعوبةٍ شديدةٍ نتيجةً لثقَلِهِ، وأنَا ممسكٌ فِي يدِي الأخرَى تلكَ البطاريةَ التِي تضيءُ لِي مَا هوَ أمامِي، متوجهًا إلَى ذلكَ الركنِ الذِي تجلسُ فيهِ هذهِ المرأةِ، وفجأةً سمعتُ ذلكَ الأنينَ المرعبَ، ووقفَ شعرُ رأسِي .. لاَ .. بلْ شعرُ جسدِي كلُّهُ، وكادَ قلبِي أنْ يتوقَّفَ وأنَا أَسمعُهُ يدُقُّ فِي أُذُنِى مثلَ الطبولِ الإِفريقِيَّةِ أثنَاءَ الحرْبِ، وكَادَ أنْ يغمَى علَيَّ وندمْتُ علَى ما فعلتُ .. يَا ليتَنِي ما فعلت ...
وفجأةً انقضتْ يدٌ حديديةٌ علَى كتفِي معَ ذلكَ الصوتِ الأجشِّ، وذلكَ الأنينِ في وقتٍ واحدٍ، ولمْ أدرِ إلاَّ وذلكَ الرجلُ يقومُ بإفاقَتِي وأنَا في حالَةٍ من الذعرِ الشديدِ، وقالَ لِي قصَّ عليَّ ما الذِي أتَى بكَ إلَى هنا؟! ومنْ شدَّةِ رعبِي بدأتُ أقصُّ عليْهِ ما فاتَ كلَّهُ، وأخذَ العجوزُ يربتِ علَى كتفيَّ مهدِّئًا إيَّايَ، ثمَّ أخذَنِي إلَى تلكَ العجوزِ التِي تأنُّ منْ سنينٍ، ولمْ أجِدْ إلاَّ أنَّهَا بئرٌ قديمةٌ فِي الدارِ، كانُوا يأخذونَ منهَا الماءَ بدلوٍ، ومَا هذَا الأنينُ إلا صوتُ الدلوِ الذِي يهزُّهُ الهواءُ الداخلُ منَ النافِذَةِ فيرتطِمُ بجدرانِ البئْرِ ويصدُرُ عنْهُ ذلكَ الأنين!

مديحة جعاره
التعليق:
الكاتبة قصاصة ماهرة، ولغتها سليمة. الأخطاء اللغوية قليلة والمنطقة التي تعالجها ثرية، أساطيرنا هي أحد أهم منابع الإبداع. لكن في النص إمكانية لأكثر من قصة قصيرة.
أو ربما إذا أفسحنا له المجال بحرية يكون نوعاً أدبياً مختلفاً. أقترح على الكاتبة ألا تقيد نفسها بنوع أدبي مسبقاً.
د. سيد البحراوي
أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.