عندما أتذكر هذه الأيام، التي كنت أظن فيها أنني كنت أحيا سعيدا، مستمتع بكل دقيقة من ليل أو نهار، أعيش وسط عائلتي الصغيرة، يجمعنا الحب، وصوت الضحكات ينطلق في كل لحظة من بيتنا، يصل الى أسماع الجيران، وجيران الجيران، حتى يصل إلى نهاية الشارع، كانت أمسيات، نملك فيها العالم. لم يكن هناك من هو أسعد قلبا من قلوبنا الكبيرة، التي لا تعطي للحزن أهمية، فسرعان ما ننسى أو نتناسى، ما يعكر علينا أيامنا وسعادتنا، فكانت جلستنا بعد العشاء مقدسة، ساعة أو ساعتين نذكر أنفسنا بأننا على العهد من السعادة، التي تغمرنا، كان عالمنا لا يعدو هذه اللقاءات الصغيرة المحدودة، كان الجسد هو الغاية العظمى، البحث عن إشباع قوته، لم نكن نريد أكثر من ذلك، كان الجهاد مستمر من أجل دفع الجوع. لا نترك له فرصة ليقتحم بيتنا، فلا مجال لأشياء أخرى، ولعل المدارس كانت عبئا عظيما على كاهل الآباء، فلم يسعى بجدية، لتتعلم فتاة من أخوتي، فمن أين؟ كان الصراع من أجل توفير القوت، هو القضية الكبرى، والهدف الأسمى، لسنا وحدنا، ولكن الجميع يسعى لذلك، كنت وأبي نعمل، والأمور تسير على وجه مرضي، وطالما كنا نوفر الطعام، فما الذي يمنعنا من نضحك بملأ أفواهنا، وأن تصل أصوات الضحكات إلى نهاية الشارع، لم يكن هناك وعي بغير الطعام، بغير إبعاد الجسد عن الشكوى، وأنين الجوع، لم يكن هناك أحلام وأمنيات، ومستقبل واعد، بل كان هناك سعي من أجل الإستمرار في الحياة، بأقل إمكانيات ممكنة، أيدينا فارغة من السلاح، وعقولنا صدأة، لا تحاول حتى ممارسة العمل الطبيعي لها، في أن تفكر، وتناقش وتستقصي، ومن أين لها كل هذا، وهو لم يصل مسامعها كلماته، ولا معانيه، لا نعلم سوى قشور الأشياء، ونظن أننا بعقولنا الفارغة، نستطيع أن نصل إلى كل شيء، أو هكذا أفهمونا منذ الصغر، ولكننا لم نكف عن السعي والجري وراء التماس لقمة العيش، كانت حياتنا كلها فارغة من كل معنى جليل، كان الجلال والجمال يقطن في حواسنا ولا يتعداها، وغير ذلك مجهول لا دراية لنا به، كانت أحاديثنا فوضى، في كل مرة مزيج من النشاذ فلا موضوع، ولا هدف، ولا معنى لشيء، هل كنا أغنام ترعى الكلأ، كل هذه الجموع من الناس في بلادنا لا حظ لها من حياة سوى الكلأ، خبز معفر بالتراب، مخلوط بالطين، ولا شيء غير ذلك، أيعقل أننا جئنا إلى الدنيا، كي نأكل ثم نموت، ولا شيء غير ذلك. كنت الطفل الثاني لأمي بعد أختي فاطمة، فهي فتاة متواضعة الجمال هادئة الطبع، لم تكمل تعليمها، خرجت من المدرسة صغيرة، لتعين أمي على أعباء البيت، كانت أشبهنا بأمي، إبتسامتها طولها عطائها، ورثت الكثير منها، ما إن بلغت الخامسة عشرة، حتى تزوجت وسرعان ما أنجبت توءم، وبدا عليها التعب، فهي مازالت طفلة، فإذا بها زوجة وأم لطفلين، وكانت سحر أختي تصغرني بعامين، وهي أكثرنا شبهنا بأبي، هدوئها وقارها، قليلة الكلام، في عينيها قدر كبير من الرأفة والعطف، وهادي هو أصغرنا وأقرب لقلوبنا جميعا، أبي جابر رجل بسيط، يعمل في البناء، أخذ هذه المهنة عن أبيه، فكثير من رجال قريتنا يورث أبناءه مهنته، يخرج معه منذ الصغر، ليساعده في عمله، أياً كان، كان أبي وهومعلق بين السماء والأرض فوق السقالة، أقذف له الطوب، فيتناوله بحركة خفيفة، يضع الأسمنت في سرعة، والطوبة فوقها الأخرى، كان العرق يتصبب من وجهه، من فرط التعب والإجهاد، ولكنه لا يمل أو يشكو، كان قد شارف على الخمسين، وقد أثرت الأيام على وجنتيه ببعض الإلتواءات، ورغم ذلك كان يبدو لي جميلا، لا تفارق الإبتسامه وجهه، أتمهل قليلا مدعيا التعب، كي أريحه قليلا، كان يقيم صروحا وبيوتا وأعاشاشا للطيور، وأبراج حمام، كان ماهرا في بناء كل شيء، حتى الماضي يعيد بنائه في مخيلتي بروعه وهندسة وتخطيط، تعلمت منه بالصمت أضعاف ما تعلمت من أحاديثه الشيقة، كان أبي طيب القلب، لا يحمل في قلبه سوى الحب للجميع، وكانت أمي أحب شيء لديه، وهي أيضا كانت تحبه وتطيعه، وأن كانت كثيرا ما تناوشه وتجادله، ثم تفعل ما يريد، ربما كانت هذه المناوشات ترسخ الحب بينهما، وتقوي العلاقة، التي بناها كل منهما بمشاعره وأحاسيسه، تجاه الأخر وكنا جميعا ثمرة الحب، الذي بينهما، كانا ينعما به، وننعم نحن أيضا به، ونحسدهما عليه وكنا جميعا نتمنى لأنفسنا علاقات وطيدة، كالتي بين أمي وأبي، كان بيتنا الصغير مساحات شاسعة، تتسابق فيها السعادة والحب، لم يلقنان كلاما، كانت أفعالهما تغني عن كل قول، كان كل منا يحب الأخر أكثر من نفسه، أعطتنا الحياة بسخاء، الأم والأب والحب والجمال وصفاء النفوس، والرضا فمنذ وعيت على الدنيا، والسعادة تعم أرجاء بيتنا، وتقيم فيه، كانت خطواتنا نحو الحياة يملأها الحب، والحب الكثير، وكلما كبرنا كبرت معانا السعادة، كان بيتنا نموذج مثالي نادر وشحيح، وكانت أمي صاحبة بديهة قوية، في أكتشاف مواطن الضحك، كانت تضيق بنا أحيانا فتصرخ في وجهنا، فإذا هي بعد لحظات غارقة في الضحك، كانت تملأ بيتنا بهجة، كانت لا تشكو، تستقبل الحياة بملأ فيها، باسمة ضاحكة، لا أذكر أني رأيت أمي حزينة، سوى مرة أو مرتين في صغري، حين فارقت أمها الحياة، وحزنت عليها حزنا شديد، ومضت الأيام تسلوها وتنسيها، وعادت أجمل ما تكون ضاحكة، نقية القلب، طاهرة الشعور، بينما كان أبي يؤثر الصمت، قليل الكلام، كثير الإبتسامة، ولعل نجاح زواجهما أنهما متناقضان في أشياء كثيرة، ولكنه التناقض الذي يسد كل منها خلل الأخر أو هو الإكتمال، يكمل كل منها الأخر، في بداية الأمر حاول كل منهما تغيير طبيعة الأخر، ولكن أدرك كل منهما، أنه يحب الأخر كما هو عليه، بما فيه فعاشا حياة سعيدة. ألتحقت بالمدرسة، وكنت بالكاد أنجح حتى حصلت على الدبلوم، وكنت طوال السنوات أعمل مع أبي، حتى أتقنت صناعة البناء، حتى كدت أبز أبي فيها، وأتفوق عليه، وكنت أرى السعادة بادية على وجهه، فقد أجاد في تعليمي صناعته، وصناعة أباءه وأجداده، وساكون أمتداد للعائلة، تعلمت منه الكثير، وأولها الحب، الذي زرعه في أعماقنا، وهو الآن يطرح الحب والرحمة والصفاء في القلوب. كنت دائما ما أطوق للذهاب مع أبي، أحمل له الطوب، وأنظر إليه، وهو يشيد الحوائط الواحدة تلو الأخر، كان العرق بتصبب منه بكثافة، وخصوصا أيام الصيف شديدة الحرارة، يمسحه بمنديله القماش، يمسح وجهه ويبتسم لي، فأشير إليه مبتسما، بعد الظهر بساعة ينزل؛ لنتناول الغداء، الذي حملناه، ونحن قادمين، قروش طعمية وفول، كنا دائما أربعة أو خمس رجال، نفرش على الأرض، ونشعل الحطب، لنضع عليه سخان الشاي، ونحن نتناول طعام الغذاء، تعلو ضحكاتنا من النكات والقفشات، نشعر بسعادة تغمرنا جميعا، رغم بساطة العيش والطعام، في تلك الأيام، التي يصحبني فيها أبي معه، كنت أشعر بتلك السعادة، وأتمنى أن أذهب مع أبي كل يوم إلى العمل، وحين نعود إلى البيت، تستقبلنا أمي إستقبالا حافلا، تنتناول العشاء ونجلس سويا ساعة، أواثنتين، نتبادل الأخبار والأحاديث في شئوننا، أو شئون الأخرين، يعود أبي بعد صلاة العشاء، يجلس أمام التلفاز قليلا، ثم يذهب لحجرته ليرتاح، وحتى يتسنى له الإستيقاظ مبكرا، لصلاة الفجر حاضرا، فهو لا ينام بعدها، يأتي بالخبز والطعمية، ويجلس بجوار أمي في مصلاها، بتجاذبنا أطراف الحديث، حول أحوالنا نحن الأبناء الصغار، كنت كل ما أتمناه واطمح إليه، أن أكون مثل أبي، أعيش كما يعيش، أحببت هذه الأيام، ومنظره فوق السقالة، وأحدهم يرمي إليه بالطوب، ويعلو الجدار قليلا قليلا، حتى يصير حائط كبير، جدار وأخر، ثم تتشكل البيوت، ومعالم الأشياء، كنت أنظر إليها حين لم يكن هناك شيء، فإذا أبي يحيلها إلى شيء أخر، كأنها كانت صحراء، وبعد ملمس يدي فوق ترابها، تصير جنة كبرى، وحديقة ورقاء، كنت أرى أبي فنان عظيما، يشد الخيط فوق الأرض، ثم يرتفع معه، قالب بعد قالب، لتقام الصروح والمنازل، كنت أريد أن أكون أبي في المستقبل، بملامحه بيديه بطيبته، كان أبي يحمل الكثير، كنت أستثقل أيام الدراسة لأنها تحرمني من الذهاب معي أبي. كنت أعيش كملايين من البشر جاءوا إلى الدنيا طفولة في الشارع كأغلب أهل القرى أمي التي لا تعرف القراءة والكتابة ولا تعرف أكثر مما تعلمته من أمها البيت والزوج والطعام والكساء وقليل من التجارب المريرة. كنت شاباً بسيطاً، أعمل طوال النهار بناء، أرسم أخطط، أبدع فيما تضع يدي فوق الحائط، أقضي سحابة النهار كله في العمل فوق السقالة، تحت أشعة الشمس المحرقة، كنت كأبي، أبني بيوتاً وشقق، أبراج حمام، قبور، كل شيء، وبعد عمل شاق مضني أعود إلى البيت؛ لأكون شيء أخر، كنت أهتم بكل شيء، نظافة جسمي، كي ملابسي، شعري الكريمات التي تكثر فوق المنضدة، والعطورالمتعددة، التي لا تفارقني أبدا، حتى وأنا ذاهب إلى العمل، كنت فتاً كما يقولون، أنيقا في ملبسه، وفي حياتي بشكل عام. نشأت لا أعرف عمل غير ما علمني أياه أبي، أحببت الطوب ورائحة الأسمنت، وهذا الخليط المتماسك منه، ومن الرمل، عجينة عجيبة أشكل منها أعمدة قائمة، صروح مشيدة، أشكل منها ما يجود به خيالي حجرات واسعة وصغيرة، أرج في المنتصف، أصص ورد، تزين المدخل، كنت أتعامل مع المواد الصماء، كأنها كائنات حية، أو تماثيل تجعل يدي منها قطع فنية، تنطق بالجمال، تتحدث إلى الأخرين، تعرف بنفسها، لتلقي بظلالها في النفوس، سنوات الطفولة والصبا وأنا أعانق عملي، أحبه أتفنن فيه. حتى حينما أردت الزواج، كان إختيارا تقليديا، لا يعرف الحب، ولا الفهم ولا غير ذلك، مما نسمع عنه الآن، أو يجب أن يكون، كأنما هي وجبة، أعدتها أمي، ويجب أن أأكلها، فأنا أثق بها، وفي طعامها، وفي طهيها، إنها لن تخدعني، إنها تحب لي الخير والسعادة، فلماذا لا أعطيها زمام قلبي، لتحب لي، وأنا راض عنه، كل الرضا، وهل لو تركت لي الإختيار، هل سأجيده؟ أظن أنني سوف أعود إليها بعد فترة قصيرة، أشكو عجزي وعدم معرفتي، ثم أكيل لها الأمر؛ لتختار لي ما أعجز أنا عنه، والحق أن إختيارها كان موفقا، فقد كانت فتاة جميلة رائعة، جعلتني في فترة قصيرة من خطوبتنا أحبها وأعتاد عليها، وأحتلت مكانا كبيرا في قلبي، وبعد أشهر كان زفافنا وإكتمال سعادتنا في اجتماعنا في غرفة واحدة ضمتنا معا. لم يكن زواجي الأول، إلا سطور أملتها علينا التقاليد، تتحدث أمي، نريد زوجة لإبني، تبدأ رحلة البحث عن العروسة، تبدأ بالأقارب، ثم الجيران والشارع، والمنطقة التي تقتنها، والحتة وبنت فلان وعلان، هذه طويلة، قصيرة، أمها شديدة وأخرى لا تجيد عمل شيء، وتلك أبنت أمها، تمر أسابيع في البحث والتدقيق، ثم تتقدم، وترفض ويستمر البحث مرة أخرى، أخواتي تعرض علي، والجارة وتصبح حديث القرية كلها، ..... فتاة طيبة ابنت ناس طيبين، قليلة الإختلاط، تكلمت أمي بعد أن راقبتها مرات في الشارع، وهي تسير تأتي بطلبات البيت، وتم القبول، وأشهر وتم الزفاف، أحببتها لنقاءها الشديدة، وسماحتها وطاعتها لي وأمي، مرت ستة أشهر في هدوء شديد، حتى أصابني ما أصابني، وعلمت بحملها وأنا بين الحياة والموت في المستشفى، كان عاملا قويا في حب الحياة، والرغبة في الشفاء السريع. ولكن ما كنت أريد لم يكتمل، كانت تزورني على فترات، وكلما سألت عنها، قالوا: أن أباها مريض، أو أمها وأسباب لا تعني إلا أنها اكاذيب، كيف تتركني، لتقيم بجوار أبيها أو أمها، وأنا في هذه الحالة، هل كرهتني؟ وأنا على هذا الوضع، أنها طفلة نقية، وقد تعلقت بي، في الأشهر القليلة، التي قضيناها سويا، ما الذي يحدث، ما الأمر أنها وأباها لم يعد يزورني كما كان، ولا أمها إن هناك شيء لا أعلمه، أهناك خلافات يا أمي بينك وبين زوجتي، لا شيء يا بني، أريد أن أحدثك في أمرها إن أباها يمنعها من المجيء، يريد أن يطلقها، ولكن لماذا؟ يا أمي أننا أخطأنا يا بني، إنها صغيرة للغاية، مازالت طفلة لا تعي من الأمور شيء، وعندما تقوم على قدميك، سوف نزوجك أفضل منها، وهل رضيت بذلك، إنها ليس لها من الأمر شيء، ليس لها رأي إن أباها وأمها من يقررا لها من أمور، ولن ندخل في صراع معهم من أجل إبقائها بالرغم عنهم، سوف تسرحها وينتهي الأمر، وأبني يا أمي ما مصيره، يأتي وأنا على فراشي، لا أستطيع الحركة، وأمه مطلقة في بيت أبيها، لا تسبق الأحداث يا بني، ربما حدث في الأمور ما لم نتوقع، ولا نعلم الغيب، وما يكون في وأننا نأمل أن تعود إلى كامل صحتك، في هذه المدة وتعود المياه إلى مجاريها، فلا تشغل عقلك بهذه الأمور وأهتم بصحتك، حتى تعود إلينا سريعا، وتعود لأمك وأبيك وأخوتك، أننا نتألم من أجلك، ونريدك بيننا، كما كنت، إننا نفتقدك في كل شيء، صوتك حركتك في البيت، صراخك في وجوهنا، ضحكاتك مكانك على المائدة، سرير نومك، جلساتك بيننا بعد العشاء، نتسامر ونضحك، ونكاتك نريدك أن تعود بفارغ الصبر، إننا في معزى كل يوم بسبب إنك لست بيننا، أتعاهدني ألا يؤثر موضوع زوجتك عليك، وأن تهتم بنفسك وصحتك، نعم يا أمي أعاهدك على ذلك، من أجلك، ومن أجل ابني القادم، ومن أجل أبي وأخوتي، لم أكن أستطيع أن أفي لأمي بما عاهدتها عليه، بيني وبين نفسي، وأستحوذ علي وعلى تفكيري، ولكني كنت لا أريد أمي أن تشعر بما أحس به، من أسى وحزن، وربما فضحتني عيني الحمراوني بعض الأحايين، ولكني كنت أقول لأمي أن الألم أشتد علي في الليل، فدمعت عيني، وكانت تريد أن تصدق، رغم أن قلبها يكذب ما أقول، عندما وضعت لم يمهلها أباها في التعلق بمولدها الجديد، فأرسله لنا ولم يتجاوز أسبوعا كاملا، أخبروني بعد ذلك أن أمي وضعته في حجرها وبكت بكاء شديدا، ماذا كان يدور بعقل أمي في تلك اللحظات، حتى تبكي كل هذا البكاء والنحيب المتواصل، عملت ذلك في عيني أمي، وعندما سألتها قالت إن لها جارة عزيزة عليها ماتت، فحزنت عليها حزنا شديدا، أهتمت أختي بصغيري، كانت أختي تأتي لترضعه مع صغيريها، وأحيانا تأخذه معها، إذا تأزمت الأمور، وعندما بلغت ستة أشهر أحضروه لي كي أراه، إنه يشبهني كثير، فرحت به، وحزنت عليه، وهو يكاد في هذه اللحظات أن يكون يتيم الأب والأم، ولم يخفى شعوري عن قلب أمي، فأخذت تلهيني بأن أخذته وقبلته، وتقارن بين ملامحي وملامحه، وأنه سوف يزعجنا، كما كنت تزعجنا، وأنت صغير، إنه ملأ علينا البيت بهجة وفرحة لا توصف، عندما سألوني عن اسمه، وماذا تريد أن تسميه، قلت على الفور أدم، هل لأنه بلا أب وأم، وسوف يواجه الحياة بلا ذراعين، كيف سيعيش ويكبر، وهو مهدد، لا أدري هل للاسم سبب به، هل نصيب من الشقاء الأدمي الذي أصابه، بعد أن غادر الجنان، ونزل ساحة الأرض مشمرا عن يديه، ومصارعا الأهوال والمخاطر، ولكن هناك شيء ما يربطني بالحياة، ينبغي لي أن أتمسك به ما أستطعت، وأنا أعوضه عن حرمانه من أمه إنها الأن تزوجت، شقت طريقها مع رجل أخر، ربما تألمت لفراق أبنها، ولكن الأيام تنسي، وعندما تنجب سوف تسلو، وينسيها ابنها التي لم ترتبط بها، وسوف يكون مجرد اسم وتنشغل ببيتها الجديد، زوجها وأبنائها، إن لها أيضا حق في أن تعيش، إنه من دواعي الأنانية أن أحزن، لأن أباها طلب الطلاق، كانت صغيرة ولازال المستقبل أمامها، فلماذا تربط نفسها بإنسان معاق؟ لا هم لها في حياتها سوى التعب والإرهاق وضياع العمر، وتنتهي حياتها بين المرض والألم والسهر، كان أبوها على حق، وتمنى لها حياة طيبة ،هادئة خالية من الأزمات الثقيلة، فهي تستحق كل خير، إنها رقيقة جميلة، وأرجو أن يحمل ابني الصغير بواطنها النقية، وأدبها الجم، وروحها الخفيفة، أنه يحمل لون عينيها الصافيتين، أخذته أمي من يدي، وأعطته لأختي الصغيرة، ورحلت مع أمي، فوقت الزيارة انتهى، كانت سويعات، سعدت فيها ساعدة بالغة، نسيت فيها الألم والتعب وما أنا فيه، وما أعانيه فأنا أريد أن أعود إلى البيت، وأن أكون بجوارهم، ففي هذا تعب لهم واجهاد، ولكن ليس هناك مفر من ذلك، قالوا لي أيام وسوف أرحل لأنه لا مزيد من العمليات، وأن الوقت هو العامل الحاسم في الشفاء، وأنه من الممكن أن أكمل رحلة العلاج الباقية في البيت.