ضيف ثقيل أنا على الحياة، الحياة التي عشقتها، وتمنيت لو أظل أنهل منها واستشعرها تدب في أوصالي، وتجري في عروقي، وأتنسمها في كل نفس أتنفسه، ويدخل رئتي؛ فتمتلأ به، وتجوب في كل خلية من خلايا جسدي، تمتزج به وتمنحي الشعور بالمتعة والجمال.. هي الآن على مقربة مني، ولكنها بعيدة عن متناول يدي، يفصلني عنها جدار حجرتي، هذا الجدار القوي السميك، الذي يحجب عني كل ضوء ويملئني بظلام كثيف، هذا الجدار الذي يسد عن عيني منافذ الحياة، إنه كقضبان السجون، يرتفع ويحيط بي من كل جانب، إنه كواد سحيق، بيني وبينها، واد من جحيم مستعر يحيط بي، فلا معنى ورائه سوى الموت، ذلك الجدار الذي حاولت أن أهدمه لكنني فشلت، كان هو يعلو كل يوم، ويزداد قوة ومتانة، وأزداد ضعفا وهوانا. أشعر بأني عبء على كل شيء، كأني بيت خرب، ملأته العناكب والتراب، بيت موحش، تملأ أركانه الجنيات والعفاريت، صدأت جوارحي من قلة الحركة، ورائحة الموت تفوح من حولي تخنقني، ويخشى الهواء الإقتراب، يتسرب القليل منه إلى رئتي، ويضمن لجسدي بقائه على حافة الحياة، فتظل رائحة الموت في أنفي عالقة، تذكرني بالفناء المنتظر، بالزوال عن الدنيا، التي طالما عشقتها، حجرتي لا تعرف الفصول، ولا تغير المناخ، لا تعرف الشتاء ولا صوت المطر، لا تعرف الربيع، ورائحة العطور، غارقة في السكون، جدرانها صماء، لا لحن ولا تغريد، لصوت البلابل والعصافير،لا تعزف إلا لحن الوداع، وأنشودة الرحيل، كأني أعيش في غياهب الضياع، أتناول الألم جرعات كل يوم، جرعة في الصباح الباكر، وأخرى في الظهيرة وعند المساء، أتناولها كي أعيش وأستزيد من الشقاء، أسكب في جوفي، ما يُعنني على الإنهيار والهدم، تطاردني أشباح الخوف في كل لحظة، لا تفارقني حتى في المنام، تهاجمني الكوابيس، لم يجدي الفرار معها، كل شيء يحيط بي، يذكرني بالموت، وهوماثل أمامي، ينتظر غفوة مني، كي يفترسني، أجاهد بجسدي الضئيل، أدفعه بقدمي العاجزة، ويدايا الضعيفتين، أقرأ عليه أيات من القرآن كي أصرفه، يبعد قليلا، ثم يحاول مرة أخرى، مرة بعد مرة، ويوما بعد يوم، أسابيع وأشهر مضت، حتى صارت عشر سنوات. ينتابني شعور بأني أعيش في قبر واسع، فالأموات لا يخرجون من قبورهم، ولا يعودون للحياة مرة أخرى، بعد أيام من موتهم يصيرون رمم، وتتلاشى أجسادهم، وأنا أعيش في قبري آكل، أشرب وأتنفس، وأنا لا أخرج مثل الأموات من حجرتي أو قبري، وأنا أيضا ملقى طريح الفراش، أشبه برمة حية، عاجز، لا أتحرك، تتأرجح بين الحياة والموت، تجهل أيهما تكون، لا أذكر كم مرة خرجت، فكل ما أذكره، أني كنت محمولا، لم تعرف قدمي الخطوات؛ لذلك لم يكن لي حذاء، ولماذا يكون لي؟ وقد نسيت قدمي السير عليها، حتى أنا نسيت، أن لي قدم، لولا الجروح التي تغزوها وتؤلمني؟ سنوات من النزيف، ولا شيء سوى الجدران، أنظر إليها، أتأملها حتى أنحفرت في ذاكرتي كل تفاصيلها، من السقف إلى الأرض، الحجرة خانقة ضيقة، بها دولاب صغير، ونافذة لا تسمح إلا بمرور ضوء خافت، أشعة قليلة من أشعة الشمس، تنفذ إليها على فترات متباعدة، كأنها تهاب الدخول أو تخشى شيء بها، فهي تدخل على مضض للحظات، ثم ترحل، ولا تعود مرة أخرى، إلا بعد مضي وقت طويل، باب الحجرة ضلفة واحدة، بالكاد يدخل منها فرد واحد بجنبه، بلاط الغرفة من الأسمنت، به بعض الحفر الصغيرة، التي يخرج منها بعض رمالها، وجيوش من صفوف النمل المنتظمة، التي تعمل بجد، كي تظل على قيد الحياة، إذا ما هل الشتاء، إضاءة الغرفة ضعيفة، ينقبض لها الصدر، وتضيق النفوس بها بعد وقت قصير، نقوشها الباهتة، وخطوطها المتعرجة، قد مر عليها زمن طويل، بعضها متآكل، والبعض الأخر محته سنوات النسيان، الهواء أفسدته رائحة العطن والدواء، ولكننا تآلفنا، تآلفت مع هذه التفاصيل واعتادت هي أيضا على وجودي في المرات القليلة، التي تركتها لعمل بعض الأشعة والتحاليل والفحوصات، شعرت بغربة عجيبة، حين فارقتها، شعرت وأنا بعيد عنها، كأني عاريا، لا أرتدي شيء على جسدي، وأن جروحي كلها ظاهرة للعيان، وأني غريب عن الناس وعن الأشياء، وحين عدت وأدخلوني ووضعوني على فراشي، بكيت وتألمت وظننت أن جدرانها أيضا تأن وتتألم، لطول ما أصطحبتها، أتمدد على سريري، أو قل ملقى عليه، وخلف ظهري وسادة منتفخة، تساعدني على الجلوس منتصب الظهر، إذا ما أردت أن أتناول طعامي أو دوائي، أو جرعة من ماء، أعيش منعزلا عن العالم، لا يدري العالم بما يدور في حجرتي، ولا أدري ما يحدث في العالم خارج حدود غرفتي، عالمان متوازيان، لا يدري كل منها عن الأخر شيء، رغم تقاربهما، فلا أنا قادر على الخروج إليه، ولا هو يستطيع الدخول علي، أو هما عالمان متناقضان، فعالمي صغير للغاية، لا يتعدى حدود غرفتي، أربع جدران، ونافذة وباب ضيق، وقليل من أشعة الشمس، التي تزورني على فترات متقطعة ومتباعدة وعلى مضض، وعالم الخارج، عالم واسع لا تحده جدران، ولا تتوقف أشعة الشمس عن وجودها فيه لحظة واحدة، فهي دائما في مكان ما منه، عالم مليء بكل شيء، وعالمي فارغ من كل شيء، عالم باسط ذراعيه للحياة، وعالمي مشلولة يده، هش لا يستطيع أن يساهم في عمل شيء، وإنما عالمي عالة على كل شيء، عالم الخارج تغزوه الشمس، وعالمي منزوع الضوء، يعيش في الظلام الأبدي، عالم تملأه الحركة، وعالمي يغرق في الصمت والسكون، والمطهرات وأقراص المضادات الحيوية والمسكنات، عالم يسابق الزمن، ليحظى بالحياة، التي يريدها، ويسعى إليها، وعالم لا يشعر بالزمن، مريض يتوجع ويتأوه، ويصرخ بصوت مكتوم من شدة الألم، الذي يسكن في كل جارحة من جوارحه، ورغم البون الشاسع بين العالمين، إلا أن هناك نقطة واحدة، تصل بيني وبينه، تقف بين العالمين، تحاول أن تربطني به، وتربطه بي، تحاول أن تمد الحبال جاهدة، ولكنها سرعان ما تتقطع، فهي تدرك أنها حبال واهية، هشة شديدة الضعف، ورغم ذلك تحاول، ولا تكف عن المحاولات كل يوم، بل كل ساعة، ولا تيأس ولا تكل. ولا يعتريها فتور أبداً، كانت قبل ذلك في بداية الأمر، تحاول أن تقيم الجسور بيننا، تأمل في أن تُشيد صروحاً ضخمة، وجسور قوية، تستيقظ قُبيل الفجر، تصلي وتبتهل إلى الله، وتتضرع إليه، بأن يكشف عني وعنها تلك الغمة، ثم تشمر عن ذراعيها، وتحمل فوق ظهرها الضعيف أحمالاً ثقيلة، وتستقبل الحياة بقلب قوي، ومخالب أسد، وتصارع دون وعي بما تحمل، حتى إذا أنهكتها الحياة بثقلها، وطرحتها أرضاً، أعلنت عن هزيمتها، عادت إلى البيت، لتنال قسطا ضئيلاً من الراحة، ثم تعاود جهادها مرة أخرى، كانت تحمل رمالاً وأحجاراً، ومئات الأطنان من الأسمنت، لتشيد جسراً قوياً متيناً، لأسعى عليه، بضعفي وهزالي، لأصل للعالم، وأعيش كما يعيش الأخرون، أو أن أحد من العالم الذي تدعوه هي، يصل إلي، يحمل قليلاً من الحياة، يساعدني على الشعور بالبقاء، أو الشعور بأني انتمي إلى العالم، كنت أنا والعالم قضيتها الوحيدة، حربها الدائمة الموصولة، التي تجتهد في أن تنتصر فيها، كانت تترس وترسم الخطط وتستعد وتتأهب، ولكنها تعود دائما بالخيبات والطعنات، التي ملأت جسدها، وتجرجر خلفها أذيال الخيبة والهزيمة، ولا تريد أن ترفع الراية البيضاء، عشرات الجسور التي شيدتها، أنهالت أكوام من تراب، وقفت بين الخرائب والغبار، ولم تكف عن المحاولة، حتى انحنىت عظامها، وعندما أصبحت لا تقوى على حمل الأحجار والرمال، بدأت في أن تشد الحبال، عسى بعضها أن يصل، وأن تنال المراد، بأن تسوق إلي بعض الحياة، أو تخرجني لأنال بعض منها، لكن جهدها كله كان سرابا، أضغاث أحلام، هباءً منثورا، كانت إذا نظرت بين يديها، لم تجد سوى الفراغ، يملأ كفيها. ورغم ذلك لم يخالط اليأس يوما قلبها الزكي، لم تبالي بالتعب، كانت تحمل نفسها ما لا تطيق من أجلي، كانت على استعداد، أن تحمل فوق رأسها صخور الأرض، من أجل أن تفتر شفتي عن إبتسامة، أو شبه إبتسامة، كانت إبتسامتي تغير لون عينيها البنيتين إلى مروج خضراء، تتسع عينيها بحجم العالم، تطير تحلق في السماء، تجوب الأرض دورة أو دورتين، كل شيء فيها، إذا ما ابتسمت يتفتح، شذا يفوح، يعطر الكون بنسمات ثغرها الجميل، في تلك اللحظات، تتأنق ملامحها في حبور، تتهادى كفراشة، نحو نور إبتسامتي، كنت أحياناً أخشى عليها أن تحترق، من فرط سعادتها، والنور المشع من أركانها، وكنت استعجب، كيف لإبتسامة عابرة، أن تغير من تكوين إنسان؟ لتجعله يضيء كنجم في سماء مظلمة، فيبعث فيه النور والحياة، كانت في الخمسين من عمرها الذهبي، وعند إبتسامتي كانت تبدو في العشرين، تكاد أن تطير، وعندما رأت يوما دمعة تنحدر من عيني مصادفة، في لحظات ضقت فيها ذرعا بالحياة، ويأساً منها، لمحت أمي عجوزاً أرهقها اليتم، وهدمتها الأحزان، فكنت على مدار السنوات، أحاول ألا تلتقي العينان، حتى لا تطلع على أحزاني وألامي وضيقي وتبرمي، وفي لحظات ضعف كنت أنهار، ينتابني ضعف غريب، وخوف عميق، أريد أن أرى عينيها الصافيتين، أن استمد منهما دقيقتين من حياة، أتبلغ بهما، فإذا بي أتعرى أمامها، تقرأني كتاباً مفتوحاً، يشف ما بداخلي، لا حواجز ولا سدود، أختبأ خلفها، هي تراني، حتى ولو لم تراني، تعلم ما بي، تشعر بما يملأني تضمني وتذيب بحبها جبال الجليد، التي تسكنني، تمتص بضمتها لي، ما تراكم من آلام، فلا أقوى، وأبكي حتى النخاع، ألقي بكل أحمالي على عاتقها، وتظهر لي جلداً غريباً، لألقي وأخفف من حملي، وألقي بها على ظهرها المنهوك، كان بكائي يهدم معابدها القوية، ولا تبدي أي ضعف، وتدعوني إلى أن ألقي المزيد، حتى أعود كريشة، أترك حضنها، بعد أن مسحت صدري. وعدت به كطفل وليد، وتقوم تجرجر قدميها من ثقل الحمل، ولا تشكو أبدا، ودائما ما كانت تقول لي: لا تخشى شيء، فلازلت قوية أستطيع أن أتحمل المزيد، عشر سنوات وأنا أضع فوق ظهرها أحمالاً ثقيلة، ولم تشكو ولم تتذمر، وتبدو لي قوية، ولكني أعلم أنها تتألم من شدة الحمل، لم يساعدها أحد، هي وحدها التي تشق على نفسها من أجلي، تبكي في مخدعها الساعات، تظن أني نائم، ولا أدري عنها شيء، تتنفس فيخرج من جوفها ناراً حامية، نحيبها المتقطع في الهزيع الأخير من الليل، وقبيل الفجر، عينها الحمراوان الغارقتان في الحزن، أمي تتآكل كالحديد عاماً بعد عام، ولكنها لا تصدأ، عشر أعوام، وهي في لُجة البؤس، حذائها شف ورق من كثرة السعي والمشي، لتأتي لي بالدواء، قطعت ألاف الأميال، أضاعت سنوات في الإنتظار أمام المستشفيات، وفي الشوارع، كلما مرت بكولدير ملأت زجاجتها، التي لا تحمل سواها، ولا تعرف ترفاً، سوى الماء المثلج، يبرد جوفها الذي أنهكته حرارة الشمس في الصيف، وفي الشتاء تتناول على مضض كوب من الشاي، تستدفيء به، لم تكن تلك الهلاهيل التي ترتديها، لتدفأ طفلاً صغيراً، حفر الشقاء فوق جبين أمي طريقاً طويلاً، أن أمي تتمسك ببقائي أكثر مني، تخاف الموت الذي أتمناه، تترس بكل ما تستطيع، لتقف أمامي كالطود الشامخ، كل يوم تعد الخطط لبقائي حيا، لم تسهو يوما، لم تتكاسل، لم تياس أو تنفر، تحمل سلاحها بين جنبيها، وتجابه المستحيل، تحيط بي من كل جانب، وفي الليل تتكبد عناء السهر، لتطمئن أنني لازلت أحيا، لازلت على قيد الحياة، كان صوت أنفاسي يشعرها بالأمان، فتنام قليلاً؛ لتستأنف الجهاد، عشر سنوات وأنا ملازم فراشي لا أفارقه، عشت فيها أمالاً وألاماً، لم تخطر على قلب إنسان، عشتها بين الخوف والرجاء، السعادة والحزن، كانت أمي، هي عالمي، وهي الوسيط بين العالمين المتناقضين، أو المتوازيين، أن أمي تجرعت غصص من الألم، شربت المرارات أنهاراً متدفقة، إن أمي شيء فريد، إلى متى تتحمل كل هذا العذاب؟ ألا تيأس من شفائي؟ أني أستحي من نفسي، كلما نظرت إليها.