عندما قرأت خبر عودة الفنانة أنغام إلى أم الدنيا، وجدتنى أمسك بقلمى كى أعبّر عن مشاعر غمرتنى وتأرجحت بين الفرحة البالغة برؤية صورتها مع أبنائها، والامتنان لكرم الله سبحانه وتعالى الذى أنعم عليها بالصحة والعافية بعد رحلة علاج طويلة وشاقة. لم ألتق بهذه السيدة المصرية التى سحرتنا بصوتها الشجى وخلدت اسمها فى سجلات الفن الحديث، لكننى كنت دائما حريصة على متابعة مسيرتها وألبوماتها، المليئة بالآهات والوجع والفرح الغائب من "اللوحة الباهتة" إلى "ياريتك فاهمنى" و"تيجى نسيب"، كان دائما ما يحمل صوتها أحاسيس عميقة حب، خيبة، حنين، وجرعات من الأمل رغم الألم. وفى السنوات الأخيرة، لم يعد صوت أنغام وحده هو الحاضر، بل أحاديثها ولقاءتها أيضا، حين تكلمت عن حياتها كامرأة وزوجة وأم، وكشفت عن مسيرة حياتية مليئة بالتحديات الجسيمة والمتحديات الحادة بين طفولة أثقلتها الأيام، وعمل دؤوب ومتواصل، وضغوط مجتمع شرقى بأحكامه القاسية، ظلت أنغام تبحث عن الفرح وسط الضجيج . وراحت تجيب عن السؤال الحائر: أين يختبئ الفرح؟ وإذا بها تطربنا عن فرح غايب عن قلب دايب وعن حبايب كانوا هنا عن بكرة طالع من المواجع، عن عمر ضايع.. يحكى أنا وهكذا، لم تعد أنغام مجرد صوت يطرب الجماهير، بل مرآة تعكس وجدان امرأة مصرية عاشت، تألمت، وغنت.. فحملت قلوبنا معها فى رحلة ما بين الجرح والرجاء.. فازدت يقينا بأن وراء كل امرأة عظيمة ألم عظيم. عزيزى القارئ فى زمن تكدست فيه الهموم وضاق فيه صدر الأيام، غاب الفرح كضيف عزيز لم يعد يطرق أبوابنا، وتاهت القلوب فى دهاليز القلق والخذلان صارت الابتسامة عملة نادرة، والضحكة مؤجلة، كأننا نعيش الحياة بلا طعم، بعد خطواتها فهل ضاع القلب فى زحام الأيام، أم ما زال فى داخله بصيص أمل ينتظر من يوقظه؟ وهل ما زال للإنسان متسع من البهجة؟ أم أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية سرقت منه طعم الحياة، حتى غدا الحزن هو اللغة السائدة فى الشوارع والبيوت والقلوب؟ فى التاكسى هناك سائق بائس ومتضجر من الحروفى الأوبر كابتن يشكى همه من قلة الرحمة فى قلوب الركاب والمشاة على الأرصفة شاردين أو يصيحون فى الهواتف ناسيين انهم فى الشارع ناهيك عن عوالم التكتك والميكروباص او المشروع كما يسمونه فى بعض المدن الساحلية .. فى الحقيقة فان جولة قصيرة فى شوارع المدينة تكفى لتقرأ فى الوجوه حكايات صامتة: موظفون يغادرون أعمالهم مثقلين بالقلق شباب يفتشون عن السعادة، وأطفال أسرتهم الشاشات وانتزعت منهم الضحكة البريئة، وكان الفرح صار عملة نادرة فى تفاصيل يومياتنا وأصبح القلب مجرد عضو ينبض بالحياة. وهنا، سيغلب على تخصصى الدقيق فى العقيدة المصرية القديمة، واسترجع فكر أجدادنا الذين اعتبروا القلب رمزا جوهريا ومقراً للوعى والمشاعر والضمير وقد بدا ذلك جليا فى طقوس التحنيط، حيث كان القلب يترك داخل الجسد باعتباره أثمن ما يملكه الإنسان، أما بقية الأعضاء فكانت تستخرج وتحفظ فى أوان من الاليستر وإذا فقد القلب، كان الكهنة يضعون مكانه تميمة على شكل جعران "الجعران القلبي". ويشرح عالم المصريات الدكتور سليم حسن قائلا: "القلب عند الفراعنة كان سجلا لأعمال الإنسان، ولذلك أبقوه فى مكانه أثناء التحنيط، لكن المكانة الأعظم تجلت فى محكمة أوزيريس، حيث بوزن قلب المتوفى على كفة الميزان مقابل ريشة "ماعت" إلهة الحق والعدل، فإن كان القلب طاهراً خفيفًا، نال صاحبه الخلود فى جنة "حقول الأيارو"، أما إذا القلتة الذنوب، فقد كان الوحش "عميت" يلتهمه فيفتى صاحبه. والحماية أنفسهم من لحظة الحساب فى محكمة أوزيريس، لجأ المصريون إلى تعويذات كتاب الموتى، ومنها الدعاء الشهير: يا قلبى الذى ورثته عن أمى.. لا تشهد ضدى أمام محكمة الآلهة" ويضيف عالم الآثار البريطانى إيان شو: "القلب لم يكن مجرد عضو حيوى، بل رمز للهوية والضمير، وبدونه لم يكن للميت مكان فى العالم الآخر. لقد أدرك الفراعنة أن القلب ليس مخزنا للدم فحسب، بل هو دفتر الأسرار، والميزان الذى يحدد المصير بعد الموت. ومن هنا، ظل القلب فى مصر القديمة رمزا للحياة والعدالة والخلود". عزيزى القارئ القلوب بطبعها لا تفهم سوى لغة المشاعر. وكما قال الإمام الشافعي: ما يخرج من القلب يصل إلى القلب. وقد جعل الله المودة والرحمة أساس العلاقات الإنسانية. (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) وفى سورة الحجرات ) ففى سورة الروم، قال الله تعالي (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أيها السادة، رفقا بالقلوب! الفرح ليس رفاهية كما يظن البعض، بل هو حاجة إنسانية أساسية لان الإنسان بلا فرح يفقد توازنه النفسى والاجتماعى، ويصبح أكثر عرضة للاكتئاب والانعزال الفرح يعمل كصمام أمان يمنح الفرد القدرة على مواجهة الصعوبات. فى مجتمعاتنا، كثيراً ما ينظر إلى الفرح بعين الريبة ونقول "لعله خيرا"، وكان من يبتسم أو يفرح هو خارج عن السياق، بينما الحقيقة أن جرعة صغيرة من السعادة قد تمنحنا القوة اللازمة للاستمرار، وتعيد إلى قلوبنا بعض الأمل بل وان هناك دول اقامت محفظة وزارية لل" سعادة". الفرح ليس مسئولية فردية فقط، بل هو صناعة تتشارك فيها الدولة والمجتمع المدنى والإعلام، جميعها جهات قادرة على إعادة البهجة إلى تفاصيل الحياة. فعلى سبيل المثال، تنظيم فعاليات ثقافية مساحات عامة للترفيه، ومبادرات إنسانية للتكافل، كلها خطوات ضرورية لبث روح الفرح فى المجتمع، فالفرح ليس ترفاً مؤقتا، بل هو حاجة يومية كالماء والهواء، يبدأ من ابتسامة صادقة وكلمة طيبة، ويمتد إلى سياسات عامة تضع الإنسان فى مركز الاهتمام. قلنمنح بعضنا بعضاً فسحة من المودة، لأن القلوب المنهكة لا تحتاج إلى مزيد من الصحب، بل إلى لحظة صدق تعيد إليها نورها، فلعلنا نستعيد طعم الحياة.. قبل أن يصبح الحزن هو اللغة الوحيدة المتبقية. وفى نهاية المقال، أود ان أقول للفنانة أنغام إننا فى انتظار طلتها وكلماتها وصوتها لتبعث فى أرواحنا "الفرح الغالب".