د. حسين عبد البصير عندما يحل الليل على ضفاف النيل، ويضىء القمر المعابد العتيقة، كان المصرى القديم يتأمل فى المصير الذي ينتظره بعد الموت. لم يكن الموت عنده نهاية، بل بداية لرحلة جديدة، رحلة طويلة ومعقدة، مليئة بالتحديات والمخاطر، لكنها تقود فى نهايتها إلى الخلود. على جدران المعابد والمقابر، وفي برديات الزمن الغابر، خط الكهنة أسرار تلك الرحلة، ووضعوا للموتى خريطة دقيقة تعينهم في عبور العالم الآخر، ذلك العالم الذي يسمونه «الدِوات». هناك، حيث الظلام والاختبارات القاسية، كان على الروح أن تواجه العقبات، وتخوض المحاكمات، حتى تصل إلى الميزان المقدس، حيث يقف الإله أوزيريس في قاعة العدالة الأبدية. هناك فقط يُحدد المصير: إما الخلود في جنة الإيارو، حيث الحقول الخصبة والمياه الجارية، أو الفناء في بطون الكائنات المفترسة التي تتربص بالأرواح غير النقية. لم يكن هذا المصير مقتصرًا على الفقراء أو عامة الناس، بل حتى أعظم الملوك لم يكونوا بمنأى عن ذلك الحساب. الملك أوناس، آخر ملوك الأسرة الخامسة، كان أول من دونت رحلته إلى الأبدية على جدران هرمه بسقارة، فيما عرف لاحقًا ب «متون الأهرام». هذه النصوص المقدسة سجلت خطوات الملك في رحلته في العالم الآخر، وكيف واجه الاختبارات الإلهية، وكيف استخدم التعاويذ السحرية ليحمي نفسه من الأخطار، حتى أصبح في النهاية نجمًا خالدًا في السماء، يرافق الإله رع في مسيرته اليومية عبر الأفق. وهكذا، لم يكن المصري القديم يعيش ليجمع الثروات أو يبني القصور، بل كان يعيش من أجل الخلود، ليترك أثرًا يبقى شاهدًا على وجوده، متحديًا الزمن، متطلعًا إلى حياة أبدية بين الآلهة والنجوم. عبر هذه الكلمات، سنسافر مع الملوك والكهنة، مع النبلاء والوزراء، عبر الزمن، لنتتبع خطواتهم الأخيرة، ونستمع إلى أصواتهم وهم يعبرون بوابات الأبدية... حيث لا تنتهي الحياة، بل تبدأ من جديد. الفصل الأول رحلة الملك أوناس إلى الأبدية كان الليل قد بسط أجنحته فوق العاصمة «إنب حدج» (المعروفة لاحقًا باسم منف)، حين عمّ السكون المهيب أروقة القصر الملكي. وقف الكهنة حول جسد الملك أوناس المسجّى فوق سريره الذهبي، يرددون التعاويذ الجنائزية بصوت خافت، بينما أضاءت المشاعل الجدران المزخرفة بمناظر تحكي عن أمجاده وإنجازاته في الحياة الدنيا. لكن حياة الملك لم تنتهِ هنا؛ فقد بدأ الآن رحلته الكبرى نحو الأبدية. البعث والخروج من المقبرة داخل الهرم المهيب في سقارة، كانت جدرانه المنقوشة بتعاويذ متون الأهرام تحوي سر الخلود. في الظلام الدامس، تحركت روح أوناس، متحررة من قيود الجسد، تبحث عن طريقها إلى العالم الآخر. سمع صوتًا داخليًا يردد ما كُتب له منذ الأزل: "انهض أيها الملك أوناس! استيقظ كالصقر المقدس، ابن رع، فأنت حى إلى الأبد!" عندها، اهتزت الجدران، وتفتحت بوابة خفية نحو عالم لا يدركه إلا من مُنح سر الحكمة. عبور البحيرة النارية وجد أوناس نفسه أمام بحيرة عظيمة من اللهب، تتلوى في أعماقها ثعابين نارية، تتصدى للنفوس غير النقية. لم يكن أمامه خيار سوى العبور، لكنه لم يكن أعزل. تلا التعويذة المنقوشة في هرمه: «أيها اللهب، أيها الحارس الملتهب، أنا أوناس، خُلقت من نور رع، ودمائي تحمل قوة الإله!» عندها، هدأت ألسنة النار، وانشق طريق آمن بين ألسنتها، ليعبر الملك دون أن تمسه بسوء. المواجهة مع المفترسة «عِممت» ما إن اجتاز البحيرة حتى ظهرت أمامه كائنة مرعبة، رأسها رأس تمساح، وجسدها جسد أسد، وذيلها ذيل فرس النهر. إنها «عِممت»، آكلة المذنبين، التي تفترس من لم يكن عادلًا في حياته. تقدمت نحوه، لكن أوناس وقف بثبات، وقال بصوت لا يرتجف: «قلبى نقى، وميزانى متوازن، أنا أوناس الذى لم يعرف الظلم، فابتعدى عن طريقى!» عندها، انحنت المتوحشة أمام قوته، وانفتح أمامه ممر يقوده إلى القاعة العظمى. محكمة أوزيريس دخل أوناس إلى قاعة الحكم، حيث جلس الإله أوزيريس على عرشه، تحيط به الآلهة. تقدم الإله أنوبيس، حارس الميزان، ووضع قلب أوناس في كفة، وفي الأخرى ريشة «ماعت»، إلهة العدالة. وقف أوناس منتظرًا، فلو كان قلبه مثقلًا بالذنوب، سوف يلقى مصيرًا قاسيًا في الظلام الأبدى. راقبت الإلهة إيزيس الميزان، بينما أمسك الإله تحوت بريشته، مستعدًا لتسجيل الحكم. وعندما استقرت الكفتان في توازن تام، أومأ أوزيريس برأسه قائلاً: «أيها الملك أوناس، لقد كنت عادلاً، فامضِ إلى قدرك السماوى.» التحول إلى نجم خالد بعد اجتياز المحكمة، بدأ أوناس صعوده نحو السماوات. لكنه كان بحاجة إلى القوة ليصبح خالدًا. تذكر الكلمات المحفورة في جدران هرمه: «أنا أوناس، الذي يأكل من الآلهة، ويشرب من قوتهم، فلا يموت أبدًا!» عندها، امتص نور الآلهة، واكتسب جوهرهم الإلهى، ثم ارتفع فوق الأرض، متحولًا إلى نجم خالد في السماء، يسافر مع مركب الشمس، مشاركًا رع في رحلته الأبدية عبر الأفق العظيم. وهكذا، تحقق ما كُتب له في متون الأهرام، وصار أوناس جزءًا من دائرة الخلود، ملكًا لا يموت، ونجمًا يضىء للأجيال القادمة. الفصل الثانى رحلة تحتمس الثالث فى مركب رع: عبور الملك إلى الخلود عندما أغمض الملك تحتمس الثالث عينيه للمرة الأخيرة في قصره الفخم بمدينة طيبة، لم يكن موته نهاية لمسيرته، بل بداية لرحلة أعظم من جميع حروبه وانتصاراته. فقد كان الموت في نظر المصريين القدماء مجرد عبور إلى عالم آخر، مليء بالأسرار والتحديات، حيث يُختبر الملوك والمحاربون قبل أن يُمنحوا الخلود. الطريق إلى العالم الآخر في معبده المهيب، اجتمع الكهنة حول جسد الملك الراحل، يلفونه بأرقى أنواع الكتان المقدس، ويضعون بين طياته التمائم السحرية، بينما تتردد تراتيل كتاب «الإيمى دِوات»، الذي يصف رحلة الروح عبر العالم السفلى. إلى جواره، وُضعت تماثيل الأوشابتى الصغيرة، استعدادًا لخدمته فى الحياة الأخرى كما فعل أتباعه في الدنيا. فجأة، وجد تحتمس الثالث نفسه واقفًا في ظلام عميق، يحيط به صمت ثقيل. لم يكن وحده، إذ ظهر أمامه الإله أنوبيس، حارس الموتى، بوجهه الأسود وعينَيه المتوهجتَين. قال أنوبيس بصوت عميق: «أيها الملك، رحلتك نحو الأبدية قد بدأت، وسوف تواجه اختبارات صعبة، لا يجتازها إلا العظماء.» بإيمان الملوك، خطا تحتمس إلى الأمام، وبدأ عبوره عبر بوابات العالم السفلي، اثنتى عشرة بوابة يحرس كل منها كائن مرعب: ثعبان متوحش، أسد بأجنحة نسر، ورجل بعين مشتعلة. لكن الملك المحارب لم يتردد، فقد حفظ التعاويذ والنصوص المقدسة، التى نُقشت على جدران معابده، فتلاها بصوته الواثق، فانفتحت البوابات أمامه واحدة تلو الأخرى. الصعود إلى مركب رع عند البوابة الأخيرة، تراءى له مشهد مهيب: مركب الشمس المقدس، يشع بنور إلهي، يحمل الإله رع في رحلته الليلية عبر الظلام. كان رع واقفًا وسط الآلهة، يرمق تحتمس الثالث بنظرة ملوك للملوك، ثم قال له: «أيها الملك العظيم، لقد خدمتني في الدنيا، والآن سترافقني فى رحلة الليل.» صعد تحتمس إلى المركب، وجلس بين الآلهة، مستعدًا لمواجهة أخطر اختبار في رحلته: المعركة ضد الثعبان عِبب، العدو الأبدي الذي يحاول ابتلاع الشمس ومنع بزوغ النهار. المعركة مع الثعبان العملاق عِبب عند وصول المركب إلى الساعة السادسة من الليل، انبثق من الظلام وحش هائل، ثعبان عملاق بحجم النيل، أنيابه تقطر سمًا، وعيناه تحترقان بحقد أزلى. نهض تحتمس الثالث، وأمسك رمحًا ذهبيًا قدمه له الإله حورس، بينما دوى صوت رع في الأفق: «لا تدع الثعبان عِبب يبتلع النور، دافع عن المركب!» ببراعة المحارب الذي لم يُهزم في حياته، قفز الملك تحتمس الثالث، وسدد طعنة أولى إلى جسد الثعبان، ثم ثانية، فثالثة، حتى أطلق الثعبان الوحش صرخة مدوية، واندلعت منه ألسنة لهب، قبل أن يتلاشى في العدم. نظر رع إلى تحتمس بإعجاب، وقال: «لقد كنت بطلًا في الحياة، وأثبت أنك بطل في الأبدية أيضًا.» الوقوف أمام ميزان العدالة واصل المركب رحلته، حتى وصل إلى قاعة الحساب، حيث جلس الإله أوزير على عرشه، تحيط به الإلهتان إيزيس ونفتيس، فيما كان الإله تحوت مستعدًا لتسجيل الحكم. أمام العرش، انتظر الميزان الذهبي، حيث سيتم وزن قلب الملك أمام ريشة «ماعت»، رمز الحق والعدالة. اقترب أنوبيس، وأخرج قلب الملك تحتمس الثالث، ووضعه في إحدى كفتي الميزان، بينما وُضعت الريشة في الكفة الأخرى. راقب الملك الميزان وهو يتأرجح، وتذكر حياته، معاركه، قراراته... هل كان عادلًا؟ هل ظلم أحدًا؟ وأخيرًا، استقر الميزان. تعادلت الكفتان تمامًا. ابتسم أوزير، بينما أعلن تحوت: - «لقد كان قلب الملك تحتمس الثالث نقيًا... فليدخل حقول الإيارو.» الوصول إلى حقول الإيارو انفتح الباب العظيم، فانكشف أمام الملك مشهد خلاب: حقول الإيارو تمتد بلا نهاية، خضراء كالزمرد، تحت سماء صافية لا تغيب عنها الشمس. أنهار نقية تتدفق بين المزارع، حيث الأرواح المباركة تعمل بسعادة، بلا ألم أو تعب. الطيور المقدسة تحلق، والزهور تتفتح دون أن تذبل، في عالم خالد لا يعرف الموت. خطا الملك تحتمس الثالث إلى الداخل، فوجد تماثيل الأوشابتي التي دُفنت معه تتحرك نحوه، يحيونه كما كانوا يفعلون في الدنيا. اقترب أحدهم وانحنى، قائلاً: «يا مولاي، نحن هنا لخدمتك، كما أمرتنا في الحياة الدنيا.» شعر الملك براحة لم يعرفها حتى في قصره بطيبة. لكنه قبل أن يتحرك، سمع صوتًا مألوفًا. التفت ليجد الوزير رِخ مِي رَع، وزيره القديم، يبتسم له. قال رِخ مِي رَع: «لقد حاربت في الدنيا، والآن، سوف تنعم بالسلام في الأبدية.» ثم اقترب منه الملك أوناس، الذي عبر تلك الرحلة من قبله، وقال: «أيها الملك، لقد أثبت قوتك في الحياة والموت. الآن، أنت خالد بين العظماء.» رفع الملك تحتمس الثالث بصره إلى السماء، فرأى مركب رع يشرق من جديد، معلنًا فجر يوم جديد في عالم لا يغيب عنه النور أبدًا. الفصل الثالث مصير الوزير رِخ مِى رَع فى العالم الآخر: رحلة العدل والخلود عندما أسلم الوزير رخ مى رع الروح في قصره العظيم بطيبة، لم يكن موته مجرد نهاية لحياته، بل بداية لرحلة مقدسة عبر عوالم لم تطأها قدم بشرية إلا بعد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. كان رخ مي رع، وزير الفرعون تحتمس الثالث، رمزًا للحكمة والعدل، رجلًا حكم بين الناس بالقوانين الإلهية، وكرّس حياته في خدمة مصر وإمبراطوريتها المترامية الأطراف. لكنه الآن يقف أمام قدر لا مفر منه، حيث لا ينفع الجاه ولا المنصب، ولا يملك أحد سلطانًا إلا ما حمله قلبه من أعمال صالحة. ففي عقيدة المصريين القدماء، كان الموت عبورًا، لا فناءً، وهو رحلة طويلة عبر العالم السفلي، تتطلب الشجاعة، والمعرفة، والطهر الداخلي. العبور إلى مملكة الموتى عندما انفصلت روحه عن جسده، شعر رخ مي رع وكأنه ينساب في ظلام دامس، لا سقف له ولا أرض، لكنه لم يكن خائفًا. فجأة، ظهر أمامه كيان مهيب، وجهه أسود كالليل، وعيناه تتوهجان بنور غامض. كان أنوبيس، رب الجبانة وحارس الموتى، يقف عند البوابة الأولى للحياة الآخرة، وبجانبه الإلهة ماعت، سيدة العدالة والميزان، تحمل ريشة الحقيقة فوق رأسها. قال أنوبيس بصوته العميق، الذي هز أرجاء الظلام: -"أيها الوزير رخ مي رع، لقد خدمت مصر بإخلاص، لكنك الآن لم تعد وزيرًا، بل روحًا تسير في طريق الحساب. أمامك اختبارات عديدة، فهل قلبك مستعد؟" أومأ رخ مي رع بثقة، فقد كان يعلم أن ما ينتظره ليس عقابًا، بل تأكيدًا لما عاش عليه حياته. نظر حوله، فرأى أربع بوابات عظيمة، كل واحدة منها يحرسها كائن مخيف: الأولى يحرسها رجل برأس صقر، يحمل سيفًا ناريًا.