فى غزة، لا تغرب الشمس دون وداع شهيد، كل مساء هناك مثقل بالفقد، وكل صباح يفتح على خبر من الدم، وبين أنين الجرحى وبكاء الأمهات، رحل أنس الشريف ومحمد قريقع، ومعهما الزملاء إبراهيم ظاهر، محمد نوفل، ومؤمن عليوة، ومحمد الخالدى، لم تكن فى أيديهم إلا الكاميرا والميكروفون، أدوات الصحفى التى تحولت فى عيون الاحتلال إلى "سلاح"، إذ يستهدف العدو تصفية الصحافة فى غزة، والحقيقة أننا أصبحنا فلسطينيون بإرادتنا دعمًا للحق الفلسطنية على أرضه المحتلة. كانوا فى خيمة قرب مجمع الشفاء الطبى، يوثقون الموت بالحقيقة، فلم تترك لهم القذائف فرصة للهرب .. ارتفعت أرواحهم، وبقيت الحقيقة يتيمة. أنس الشريف، ابن غزة الذى لم يكمل عامه التاسع والعشرين، لم يكن يغطى الأحداث فحسب، بل كان يسكنها، كان يحمل فى قلبه مساحة لكل وجع، لكل أم شهيد، ولكل طفل فقد بيته، لم يكن أنس صحفيًا عاديا، بل كان شريانًا إعلاميًا نابضًا لغزة بأكملها، صوته، لغته، وطريقة سرده للقصص من تحت القصف، جعلته أقرب إلى كل بيت، لا فى فلسطين وحدها، بل فى كل بيت عربى شعر أن أنس"واحد منهم". محمد قريقع، رفيقه فى الميدان، صحفيًا شابًا حمل قلمه كمن يحمل راية، كان يسابق القصف، يوثق الكلمة، ويروى التفاصيل التى يخاف منها القتلة، كتب تقاريرًا من قلب الجحيم، وقف حيث يخشى الآخرون، وأصر أن تبقى الحقيقة حية رغم دخان الحرب. هكذا تكتب البطولات فى غزة، ليس على جدران المدارس، بل على أكفان الصحفيين، وفى ركام المستشفيات، وعلى وجوه الناس الذين يعرفون أن نقل الحقيقة قد يكلف حياتك، لكنه أعظم ما يمكن أن تفعله لأجلك ولأجل وطنك. أنس كتب وصيته قبل أن يغادرنا، وصية لا تحمل رائحة الوداع بل نفس الإصرار، قال فيها: "التغطية ستستمر، سواء بوجود أنس أو بدونه".. لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل كانت وعدًا علقه فى رقابنا جميعًا، لم يكن يودع، بل كان يعلمنا كيف تبقى الحقيقة حية حتى حين يغتال حاملوها، تلك الجملة لم تكن ختامًا، بل بدايةً لصوت لن ينكسر بعد استشهاده، لم تغلق الكاميرات، بل صارت كل عدسة ترددها، وكل صحفي يهمس بها لمن يريد أن يسير فى درب الحقيقة ..حتى النهاية. ولم ينس أنس، فى وصيته، أن يوصى بابنته الصغيرة شام، وابنه الرضيع صلاح، الذين لن يعرفوه إلا من الصور والصوت، لكنه أراد أن يترك لهم ذكرى مشرفة، يفتخرون بها حين يكبرون، ويعلمون أن والدهم مات من أجل أن يعرف العالم الحقيقة عن أرضهم. وحين رأيت وجه أنس فى الصورة الأخيرة.. بكيت، بكيت وكأنه أخى، شيء فى ملامحه هزنى من الداخل، وكأن روحه كانت تهمس لكل من يشاهده، "لا تنسونى"، لم أتمالك نفسى، كنت أظننى معتادة على أخبار الشهداء، لكن أنس كان مختلفًا، كان قريبًا، يشبهنا، يشبه أحلامنا حين تقصف، ويشبه الحقيقة حين تستشهد. فى مصر، لم يكن أنس غريبًا، كان صوتًا نعرفه وننتظره، صوره غزت وسائل التواصل، وتحولت مشاعر المصريين من المتابعة إلى الحداد، ومن المشاهدة إلى الحزن الشخصى، كتب الناس عنه وكأنهم فقدوا شقيقًا، خرجت دموع الإعلاميين على الهواء، وحزن الأمهات كما لو كن فقدن ابنًا من رحمهن. أما العالم، فمارس صمته المعتاد، صدرت إدانات دبلوماسية باهتة، لا تحمل حرارة الفقد، ولا وجع الدم، لكن وسط هذا الجليد، خرجت بعض الأصوات النبيلة، دعوات لمحاسبة إسرائيل، وضغوط جديدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، خطوات لا تزال خجولة، لكنها تعبر عن شىء من التأخر فى إدراك العدالة إن أدركت. منذ بداية الحرب فى السابع من أكتوبر، ارتفع عدد الصحفيين الذين قتلتهم إسرائيل إلى 238 صحفيًا، فى واحدة من أبشع الحروب ضد الكلمة والصورة، وضد من يصرون على أن يروا العالم الحقيقة من تحت الركام. اليوم، لا نملك لأنس ومحمد وزملائهما إلا أن نحفظ إرثهم، لا بالصمت، بل بأن نكمل الطريق، طريق الكلمة، طريق الصورة، طريق الصوت الذى لا يموت حتى لو سقط الجسد. حين أتحدث عن أنس ومحمد، لا أكتب عن صحفيين فقط، أكتب عن وجه غزة، عن بوصلة الشرف، عن وعد بقى فى عيون الكاميرات التى توقفت، لكنه لا يزال حيًا فى عيوننا، هؤلاء الصحفيون من طاقم قناة الجزيرة، ومع استشهادهم، لم يتبق للقناة أى طاقم عامل فى مدينة غزة والشمال، ومع ذلك، بقيت رسالتهم تملأ الشاشات. أنس لم يستهدف للمرة الأولى، لكنه فى المرة الأخيرة غادرنا، وبقيت صورته محفورة فى الوجدان. السلام على من حملوا الكاميرا كأنها بندقية، وعلى من آمنوا أن الحقيقة تستحق أن نموت لأجلها، ليحيا الناس بها.