احتفلت قناة النيل الثقافية الأسبوع الماضى باسم الدكتور ثروت عكاشة بوصفه أحد رموز الثقافة المصرية الحديثة بمعناها الشامل، وكان لى شرف المشاركة فى هذا الاحتفاء مما جعلنى أقترب أكثر من جوانب متعددة لشخصية الرجل الذى أسس وزارة الثقافة المصرية وعمل على أن تكون فاعلة وإيجابية. لم يكن عكاشة مجرد وزير للثقافة، وهي الحقيبة التي تولاها للمرة الأولى عام 1958، بل كان مهندسا لرؤية استراتيجية متكاملة أدت إلى تعزيز دور مصر المركزي عربيًا وعالميًا على كل المستويات، لقد آمن عكاشة بمبدأ جوهري هو أن الثقافة حق لكل مواطن وليست مجرد خدمة تُقدمها الدولة، هذه القناعة رسخت لديه رؤية طويلة المدى، تجاوزت الأفق الزمني لأي حكومة أو حدث عابر، وركزت على البناء المؤسسي المستدام. لم يكن عمل عكاشة موجهًا نحو "اللقطة الإعلامية" أو الأحداث العابرة التي تستهدف صدى إعلاميًا وقتيًا، بل كان قائمًا على بناء حقيقي للمؤسسات الثقافية، ففي عهده تم إنشاء الثقافة الجماهيرية التي صارت بعد ذلك قصور الثقافة، وأكاديميات ومعاهد متخصصة كان لها أثر عميق ومستمر، وكان هدفها الأكبر هو اكتشاف المواهب وتعليمها ورعايتها وتفريخها لتغذية الساحة الثقافية الوطنية بكل مستوياتها، ولم تكن هذه المؤسسات مجرد مبانٍ، بل كانت حاضنات للإبداع تهدف إلى إعداد أجيال من الفنانين والمثقفين والباحثين، لتستمر في خدمة الثقافة الوطنية لسنوات طويلة، هذا التوجه البنائي الذي يركز على المستقبل هو ما دفع الشاعر الكبير صلاح جاهين ليصف بذكاء رؤية عكاشة في شعره، متحدثًا عن "تماثيل رخام على الترعة وأوبرا"، في إشارة واضحة إلى التوجه العملي للثقافة نحو القطاع الأكبر من المصريين بما يضمن لهم تفاعلا مع عناصر ثقافتهم مضافا إليها الاطلاع على كل ما هو راق وجميل. لقد نجح عكاشة في وضع مصر على الخريطة الثقافية العالمية من خلال دعم مزدوج ومدروس، فمن ناحية، قدم دعمًا غير مسبوق للثقافة والتراث المصري الأصيل، وقد ظهر ذلك في احتضانه للفنانين الشعبيين وكنوز التراث، مثل المغنية الشعبية خضرة محمد خضر وفريق زكريا الحجاوي الرائد في جمع الفولكلور، وكذلك دعمه لفرقة رضا وفرق الفنون الشعبية المتعددة التي لم تكتف بالعروض المحلية بل جابت العالم لتقدم وجهًا مشرقًا ومبهرًا للفن المصري الأصيل، بالإضافة إلى جرأته في التعامل مع الفنون المختلفة ودعمها مثل فنون السيرك والعرائس، ودعم المسرح والسينما، وكذلك جهوده المعروفة في مجال إنقاذ الآثار، ومن ناحية أخرى، فهو لم يغفل أهمية التواصل الثقافي مع العالم الخارجي، فدعم عمل النخبة الثقافية والفنية باستضافة كبار الأسماء العالمية في الثقافة والفنون والفلسفة والآداب في أحداث ثقافية كبرى، وأسس لواحد من أهم الفعاليات الثقافية الكبرى وهو معرض القاهرة الدولي للكتاب، مما خلق حراكًا ثقافيًا فريدًا ووضع مصر في بؤرة الاهتمام العالمي كمركز ثقافي حيوي، وهو ما جعل فترة الستينيات هي فترة حراك ثقافي حقيقي وفاعل على كل المستويات في مصر. بفضل هذا العمل الدؤوب والمؤسسي، تعاظم دور المؤسسات الثقافية المصرية، وأصبحت قبلة للمثقفين العرب، تنمية لدورها المستمر من خلال برامج عمل واضحة، وعن طريق مؤسسات تعاون واضحة وبناءة. ولعل ما يؤكد الأهمية الاستراتيجية التي أولتها الدولة للثقافة في تلك الفترة هو تولي الدكتور ثروت عكاشة منصب نائب رئيس الوزراء إلى جانب كونه وزيرًا للثقافة، ربما لمرة وحيدة لم تتكرر، وهو ما يؤكد إيمانًا راسخًا من قيادة الدولة وقتها بأن الثقافة ليست قطاعًا هامشيًا، بل ركيزة أساسية لا غنى عنها في بناء الدولة وتوجهها المستقبلي، ودعم قوتها الناعمة إقليميا ودوليا. يحتاج منا جهد ثروت عكاشة حديثا مطولا على مستويات متعددة منها كونه المسئول الثقافي صاحب الأثر الممتد حتى الآن، وصاحب المشروعات المتعددة على المستوى التنفيذي، وصاحب الرؤية الإدارية الداعمة للكفاءات الحقيقية في مجال عمله مما أسهم في استدامة مشروعاته، والمفكر صاحب الرؤية الفنية والجمالية ومؤلف ومترجم لعدد من أهم الكتب التي تم نشرها في القرن العشرين، وهو ما يستدعي العودة لاسم ثروت عكاشة مرات قادمة في الحديث عن كل مجال ثقافي.