شغل "ثروت عكاشة " منصب وزير الثقافة لمدد متعاقبة تصل فى مجموعها ثمانية سنوات تقريبا لكنه استطاع أن يؤسس خلالها أهم مشروع ثقافى وطنى ،ويكون أهم من شغل هذا المنصب منذ أن عرفته مصر حتى الآن . لم تعرف مصر قبل ثورة يوليو مسمى منصب وزير الثقافة فقد كانت مهمة صناعة الوعى تخص نخبة المثقفين والمفكرين فقط ومع اندلاع الثورة وجد قادتها أن عليهم تأسيس وزارة تكون معنية برعاية الوجدان القومى وبلورة الفعل الثقافى والفنى المتدفق فى إطار مشروع كامل وجامع لكل المصريين وتنظيم العمل الثقافى فى ظل مفهوم العدالة الإجتماعية الذى تبنته يوليو فى كل مجالات الحياة لتصبح الثقافة جزءا من حياة المواطن وحقا من حقوقه التى تقدمها الدولة فى كل بقاع الوطن بعد أن ظلت حكرا للنخب الإجتماعية والثقافية . وعرفت مصر لأول مرة إنشاء "الثقافة الجماهيرية " التى يبدو من اسمها وظيفتها ويتضح من توجهها انحيازها للجماهير وتبنت خطابا ثقافيا شديد الإستنارة يواجه بكل قوته الأفكار الظلامية من جهة وكل التصورات الطبيقة المعادية – أو على الأقل – غير المنحازة لطبقات الشعب العامل وفقا لأدبيات ثورة يوليو فى هذا السياق كان تكليف المثقف الكبير ثروت عكاشة لأول مرة بمهام وزازة الثقافة والإرشاد القومى في 1958 وكانت المرة الأولى التى يتم فيها ذكر وزارة الثقافة ضمن حكومة الوحدة الثانية فى اكتوبر 1958 وشغل عكاشة هذا المنصب حتى 1961 وعند توليه مهام وزارته لأول مرة كان تكليف الرئيس جمال عبد الناصر له واضحا حين قال الزعيم للوزير " مهمتك تمهيد المناخ الثقافي لإعادة صياغة الوجدان الوطني والقومي والأخلاقي.. وبناء الإنسان أصعب جدا من بناء المصانع" ثم تولى الدكتور عبد القادر حاتم وزيرا للثقافة والإرشاد القومي سنة 1962، ونائب لرئيس الوزارة للثقافة والإرشاد القومي ومشرفا على الإعلام ووزارة السياحة والآثار سنة 1964 وبعد أن تولى الدكتور سليمان حزين مهام وزارة الثقافة يعود بعدها مرة أخرى الدكتور ثروت عكاشة سنة 1966 نائب رئيس الوزارء ووزيرا للثقافة واتفصل بين وزارة الثقافة والإرشاد القومي وفى يونية 1967 تم تعيين الدكتور ثروت عكاشة وزيرا للثقافة ويستمر حتى عام 1970 . وفى تلك السنوات المتعاقبة والتكليفات المتعددة تمكن "عكاشة " من تأسيس ما يسمى بالمؤسسة الثقافية الرسمية والتى صنعت نفوذا مصريا استثنائيا سواء داخل الوطن أو خارجه وحافظت ودعمت قوتنا الناعمة التى خاضت المعارك الوطنية الكبرى. وتعددت الإنجازات التى صاغت ملامح المشروع الثقافى الوطنى ولأن الدولة كانت تؤمن جيدا بهذا الدور للثقافة بغض النظر رغم كثير من التوتر بين الدولة وبين المثقفين إلا أن أحد لا يستطيع أن ينكر حجم الإنجاز الثقافى الذى تجاوز حدود المنشآت ( أكاديمية الفنون – مؤسسة السينما – دار الأوبرا – وغيرها من المؤسسات العظيمة ) ومشروعات فكرية وثقافيه وفنية عملاقة ولعل الملمح الأبرز فى مشروع "عكاشة " المؤسس للثقافة المصرية والذى عبر عنه خلال بيان ألقاه أمام لجنة الخدمات بمجلس الأمة فى 16 يونيو 1969، ونشره بعد ذلك تحت عنوان (السياسة الثقافية ) حيث قال "إن السياسة الثقافية ليست قالبًا تصب فيه الأشياء، كما أنها ليست كيانًا ماديًا يمكن أن يقاس بالطول أو العرض أو العمق " وأضاف "أن أى سياسة ثقافية مهما بلغت دقتها وسموها لن تستطيع فى أي دولة أن تعد بأن تقدم للناس عبقريات أو شوامخ كبيتهوفن أو شكسبير أما ما تستطيع أن تعد به وزارة الثقافة من خلال سياستها الثقافية، فهو إنجازات ثقافية للجماهير العريضة من الناس على قدر طاقاتها، وعلى قدر معاونة المثقفين لها فى تضحية وإنكار للذات، ولعل هذه الإنجازات تتفتق عنها العبقريات والشوامخ " لقد أدرك "عكاشة "بوعى المثقف ومسئولية السياسى المنحاز للجماهير طبيعة مهامه ومهام مؤسسة الثقافة ولعل الفارق الجوهرى بين تجربة "عكاشة " وبين كل التجارب التى جاءت من بعده هو إمتلاك الدولة خلال تلك المرحلة لمشروع ثقافى متكامل ورؤية واضحة للعمل الثقافى مكنت الدولة من تحقيق منجز إستثنائى يظل حتى الآن شامخا ومرجعا لكل من يفكر ويسعى لعمل ثقافى جاد ووطنى . لعل الحديث – الذى لا يتوقف – عن تجربة ثروت عكاشة فى الثقافة المصرية تطرح نفسها دائما خاصة فى الفترات التى تعانى فيها مصر من تراجع الدور الثقافى الريادى وغياب المؤسسة بشكل لافت وعدم قدرتها على إستيعاب الطاقات الثقافية لمواجهة التحديات ونحن نشهد منذ سنوات تحديا شديد الخطورة يتطلب مواجهة فكرية وثقافية بالأساس وهذا ما يساعد خصوم الشعب والإنسانية على تحقيق نفوذ بين الجماهير خاصة تلك المناطق التى غابت عنها الثقافة وانشغلت بالأنشطه المعلبة والفعاليات التلفزيونية التى لا يرتادها سوى أصحابها ..لعل ابتكر عكاشة ورفاقه " الثقافة الجماهيرية " لتقدم مسرح الجرن وسينما الساحات وندوات القرى وتتحول تلك المؤسسة إلى "قصور الثقافة " ولعل الفارق بين المداول والتوجه يبدو صارخا وواضحا فى ذكرى رحيل ثروت عكاشة (27 فبراير 2012) كم نحتاج إلى إستلهام تلك التجربة والاستفادة من دروسها والوعى بإنحيازاتها … وكم يجب على قادة المؤسسة الثقافية إدراك أن الحنين إلى مشروع عكاشة والتعلق فى تلابيبه هو بمثابة إعتراف بالفراغ الفكرى وفقر الوجدان الذى أصبح يهدد المجتمع وغياب دور تنوريرى حقيقى يواجه الظلامية التى تحاصرنا وعليهم أيضا إدراك أن غياب الثقافة كمشروع وطنى هو جريمة فى حق الوطن وأجياله المقبلة .