هو، لا غيره، من نجا ولم يتلكأ في التحرر من فداحة واقعنا الصعب الذي كان يجيد قراءته ببراعة، هو الذي لم يستسلم يومًا لشهوة حياة عادية أو بديهية ولو خذلته براهينه ورهاناته، هو زياد الرحباني تحاصره الآن طقوس جنائزية تضعه في مصاف الأساطير وتتأرجح بكلمات لم ترفرف في باله وأظن أنه لم يتمناها، هو زياد الرحباني الذي ترجل خفيفًا كجملة موسيقية ورحل عن عالمنا البائس دون أن يوصد الأبواب. لست من الذين تخطفهم البلاغة في الكتابة، ولست من المحظوظين الذين رتبت لهم الصدفة لقاء مع زياد أستطيع أن أكتب عنه وأذكر تفاصيله بشاعرية أو بخفة الكلمات، لكني من هؤلاء الذين أرشدتهم تجربة زياد الفنية وسكنت في الوجدان الواعي واللاواعي بخفة لا تُبالي بالنتائج ولا تصغى للاستعارات اللغوية أو الكسولة في واقع معقد ورمادي. يقولون الحب قوي كالموت، لا أعرف! لكن تستفزّني هذه النقطة التي تتساوى فيها الكتابة عن الأحباء أو المؤثرين الذين يرحلون، فجأة تعلو عاطفة الحب والفقد عند الجميع الذين هبوا هبّة رجل واحد، يكثر الحب ويتدفّق التذكر وتنهال الأُلفة. الموت يوّحد الكتابات، لا أريد أن أكون "نكدية" تُبالغ في مشاعرها وأنا المشتغلة في الصحافة، واحدة من الذين يضطرهم الموت لكتابة المرثيات السريعة، الكتابة الفورية والمرتجلة أحيانًا، لكنني لست بخير مثلكم جميعًا وسط ضجيج الأحداث المتلاحقة التي نعيشها برعب، بلا رحمة أو أمل في لحظة سكينة، كلامي لا يعني أن الحزن على زياد يعد طقسًا لا يخلو من فجع حقيقي، ومتألمين صادقين كتبوا بموضوعية عن رفيق كان بشكل أو أخر نورًا يتسلل إلى أسفلت الشوارع والبيوت المغلقة على خوفها. نعم. غادرنا زياد والشيء الأكيد أنني أحببته وأحببت تجربته مثل هؤلاء الكثيرين بلا حصر الذين كتبوا عنه ومشوا في جنازته، بعضهم يصفق له ويدندن ألحانه، وبعضهم مطأطيء الرأس إحترامًا، لن يطل عليهم زياد ليودعهم أو يشكرهم، لكنهم بالفعل حزانى وأنا مثلهم، ففعليًا زياد جزء منا، من ذاكرتنا وأفراحنا وأوجاعنا، ترك أثرًا فينا: موسيقى، غناء، مسرح، تمرد وسخرية من حياة عبثية نعيشها ونصدقها. لن أزايد على حزن الناس المبعثر على الشاشات والمواقع الصحفية والسوشيال ميديا، لكني سأحاول أن أنجو كما فعل زياد في السابق كثيرًا من شرك الالتباس والمجاز الذي لا يعيد ترتيب الحياة، بما فيها من خيبات وخسارات وتدهور لا نعرف نهايته. سأحاول أن أراه كما أراد موسيقيًا وفنانًا له حسه المرهف، وليس نبيًا، وهذا تعبيره في إحدى لقاءاته التليفزيونية عندما إنتقد أسلوب الشاعر سعيد عقل في تصوير والده الموسيقار عاصي الرحباني بما يتجاوز أدميته وحضوره كموسيقي كبير. فإن زياد الذي يشبه نفسه، خصوصيته تثير الانتباه والتأمل، لكنها لا تنفي عنه إنسانيته ولم توقعه في فخاخ الأسئلة السهلة، كسؤال واحد من الإعلاميين المشهورين حين سأله: كيف تصف فيروز، بكلمة واحدة؟ صمت زياد لحظة على غير عادته في السخرية من أسئلة كهذه، ثمّ أجاب: "لا يمكن اختصار فيروز بكلمة"، وأردف: "ممتازة، رهيبة" وهو يحاول أن يشرح ما يقصده. فيروز تودع إبنها ورفيق رحلتها في تابوت، شاهدوها شامخة وشاهدتها كأم ربما أرشدتها خطاها إلى المقعد الشاغر أمام التابوت، أو أرشدتها إلى فكرة ضياع الحقيقة على الخط الرفيع بين الوهم والواقع، تخيلتها وحدها بمفردها إنفصلت عن الجمع الغفير حولها، إنتظرت طويلًا وأنها ضجرت من الانتظار وتكاد تنفجر: لماذا تأخرت يا زياد؟ ثم تهز رأسها وهي تنظر إلى السقف أو إلى نقطة بعيدة دون مستقر: هل يشبه اليوم أمس؟ لعلها تذكرت عاصي في مشهد كهذا، لعلها تذكرت الطفل الذي كانت ترافقه وهو يتعلم العزف على البيانو، أو الصبي الذي لحن لها "سألوني الناس"، بينما كان عاصي في غيبوبته بالمستشفى، لو كان زياد يستطيع الآن لكان بالغ في سخريته من المشهد كله. الجنازة معبرة عن حالة الفقد وتكاد توقظ أوجاعنا السابقة والحالية، ليس بسبب الموت، فهو قدر ومكتوب ولا مفر منه، إنما هناك شعور بهذا السهم الذي يخترق القلب، وقبل أن يصيب فإنه يدنو من خيباتنا في واقع ينهش فيه الكل بعضه بعضَا، بينما الجنازة جمعتهم "بلا ولا شيء"، وربما لسعهم السؤال:"بالنسبة لبكرا شو"، وكل واحد فيهم يختار من ذكرياته الحميمة ما يناسبه وما يجعل جزءًا من قلبه أخضر.. الجنازة أثبتت أن زياد الذي نأى بنفسه أن يكون فارسًا عاطفيًا، فإنه موزع على وطن عاش ولم يزل أزمنة عصيبة من الحرب والقتل والدمار وطوفان من الأحقاد. إبن عاصي وفيروز لم يعش في جلباب أبويه، بل تمرد وحطم التابو وأخذ والدته السيدة فيروز معه على أرضه وواقع ناسه، اتسع مشواره ليشمل ما هو أرحب، فكان هو الموسيقي والكاتب والمسرحي والإذاعي وأحيانًا المغني، إنحاز للمجروحين والموجوعين والجائعين والفقراء، إكترث لناسه بوعي الغاضب الذي يحمل بلاده في قلبه، فتتناغم قضيته بين الكلمة واللحن، كان إثنان بل ثلاثة وأربعة وخمسة وأكثر في واحد يواجه خيبات قديم قبل أن تولد الجديدة. لذا كان يناكف ويسعى من خلال مشروعه الفني لما هو أوسع من الأيدلوجيا لإنهاض الناس والشارع والمدينة والبلد من خراب وتوهان وتمزّق: " يا زمان الطائفية/ طائفيةِ وطائفيك/ خلي إيدك ع الهوية، وشد عليها قد ما فيك". مشى زياد وتبعه الكثيرين كأنه بوصلة إلى حلم مؤجل، أو بالأحرى مُعطل، مع ذلك أثبت هذا المشهد المهيب أن الموت ليس كارثة، الكارثة أن يعيش الإنسان بلا لون أو طعم أو رائحة، أن يعيش على هامش الحياة لا يؤثر فيها ولا تؤثر فيه. الموت هو أن نقبل الموت ونستسلم له ونحن أحياء، والحياة أن تظل بما قدمت حياً ومؤثرًا وفاعلًا في الحياة حتى بعد الرحيل، وهذا ما صنعه زياد الرحباني ومعه لا نكف عن السؤال:"بالنسبة لبكرا شو؟!"