ما قدمه الأخوان عاصى ومنصور رحبانى للغناء العربى بوجه عام واللبنانى خاصة منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضى لا يمكن لأحد إنكاره.. صار ولا يزال هو عنوان الموسيقى اللبنانية، وذلك بعد أن اجتمع معهما الصوت النادر لفيروز فكان الامتزاج الثلاثى.. شقيقان أعلنا ثورة غنائية وقررا أن يحتفظا بالسر فلا أحد يملك أن يقول إن هذه الأغنية لمنصور أو أن تلك لعاصى. عاصى هو الأكبر فى العمر بأربع سنوات ولكنهما بدآ معا نفس الرحلة منذ أن تركا العمل فى وزارة الداخلية اللبنانية، وهى حالة نادرة عندما عثر الاثنان على صوت فيروز.. كانت الرحلة ثلاثية طوال تاريخ الرحبانية حتى رحيل عاصى قبل 26 عاما، كان السؤال الذى يتردد أين نصيب كل منهما متى يبدأ عاصى، وما اللحظة التى ينتهى إليها ويمنح اللحن إلى شقيقه منصور؟ أم أن العكس هو الصحيح، أى أن منصور يبدأ ثم يترك الأمر لشقيقه عاصى ليكمله.. لا أحد كان يجيب عن هذا السؤال ما أعلنه الاثنان هو أنهما بعد تقديم الأغنية لا يعلمان بالضبط من الذى كتب هذه الكلمة، ومن الذى أضاف هذه النغمة؟! كان هذا اللغز مثار حوار جمعنى مع موسيقار كبير وشاعر مخضرم.
هل كانت فيروز تعرف.. فهى كانت زوجة عاصى والد ابنها زياد، المؤكد أنها عايشت كل التفاصيل، فلا يمكن أن لا تكتشف مثلا فى أثناء البروفات أن عاصى يغير فى الجملة أو أن منصور يضيف شيئا لم يكن متفقا عليه.. مهما بلغ التوافق بين عاصى ومنصور، فلا يمكن أن تقول إن الجملة الموسيقية والشعرية ينطقان بها فى نفس اللحظة.. هناك من يبدأ وهناك من يضيف.. أكثر من موسيقىّ فى مصر حاول أن يحلل هذه العلاقة فيؤكدون أن الشاعر هو منصور والموسيقىّ هو عاصى، خصوصا أن بدايات منصور كانت فى الشعر، كما أنه أصدر ديوانا يحمل اسمه منفردا قبل نحو ست سنوات.. نستمع إلى رأى الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب الذى شارك الرحبانية فى ثلاث أغنيات لفيروز، وهى «سهار، مُربى، سكن الليل» كما أنهما وزعا موسيقيا وكتبا أغنية «ضى القناديل» لعبد الحليم حافظ، التى وضع ألحانها عبد الوهاب. كان عبد الوهاب يرى أن عاصى هو صاحب الومضات الإبداعية بينما منصور هو المسؤول عن البناء الفنى المنضبط.. أى أن الإلهام تميل كفته أكثر ناحية عاصى، والصياغة العلمية للموسيقى والكلمات لمنصور.
رأى عبد الوهاب لا يعبر بالضرورة عن الحقيقة ويظل مجرد انطباع من موسيقار كبير، يتناول تجربة محددة وهى ألحانه التى قدمها لفيروز.. أو فى أثناء بروفات لعدد من أغانيه القديمة مثل «خايف أقول اللى فى قلبى»، التى وزعها موسيقيّا الأخوان رحبانى وأعادت فيروز غناءها.. كان لعبد الوهاب تعبير مباشر لكشف سر الرحبانية وهو أن عاصى لاسع أكثر.. وتعبير لاسع يعنى أن تصرفاته تحمل قدرا من الخروج على قواعد الانضباط.. عاصى يميل أكثر إلى الانفلات، لهذا كان يراه هو صاحب النصيب الأكبر للمذاق الرحبانى.
لا أتصور رغم ذلك سوى أن إبداع الرحبانية تساوت فيه كفتا الشقيقين على صوت فيروز، ولكن بعد رحيل عاصى بدأت فيروز الابتعاد عن منصور، كأنها تعلن موت النصف الثانى للرحبانية، خصوصا أنها اتجهت للغناء فقط من ألحان ابنها زياد، وكان منصور فى أثناء مرض عاصى يرى أنه من الممكن أن يواصل الطريق مع زياد، والدليل أنه كتب له «سألونى الناس عنك يا حبيبى» التى لحنها زياد.. الأغنية تعبر عن حالة عشق من الابن لأبيه؟!
البعض كان ينفى عن منصور الإبداع، وهذا بالطبع أساء كثيرا إلى منصور، حيث إن منصور قدم نحو 15 مسرحية غنائية بعد رحيل عاصى، وربما لهذا فى أثناء وداع جثمان منصور قبل ثلاث سنوات هاجم ابنه عدى كثيرين ممن شككوا فى إبداع والده.. قدمت ريما ابنة عاصى وفيروز الفيلم التسجيلى «كانت حكاية» الذى يؤكد أن العلاقة الثلاثية منصور وعاصى وفيروز من الممكن اختصارها فى ثنائية عاصى وفيروز، لا أتصور أن الأمر كذلك، ولكن من المؤكد أن عاصى كان صاحب الوهج والوميض، بينما منصور هو الانضباط العقلى، إنه اللاسع الذى يمنح للإبداع الوميض والحياة؟