ما تزال هدنة غزة فى علم الغيب، أو فى الجيب الخلفى لإدارة ترامب ومبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف. المأساة على أشدّها فى القطاع، والمجاعة تجاوزت حدّ الاحتمال؛ لدرجة أنها أيقظت ضمير العالم الغربى، وأخذت تُحرّك عواصمه قليلاً عن الانحياز المفرط أو الحياد الرمادى. العِلّة مُتجسّدة بما لا يحتاج لدليل، والأولويات واضحة فى أذهان الجميع؛ إلا قادة حماس للأسف. وأغرب ما حملته رياح الأيام الأخيرة، أن الحركة الغائصة فى مستنقع الحرب إلى منخارها، تجاوزت حال النكبة والاحتياج إلى مخارج موضوعية آمنة، ووجهت طاقتها لاختصام المسار السياسى المقترح من جانب الرئاسة الفلسطينية، فى صورة الطعن على قرار الرئيس عباس بالتوجه إلى إعادة تشكيل المجلس الوطنى قبل نهاية العام الجارى. يحتكر الحماسيون القرار فيما يخص الطوفان وتداعياته، وصولا إلى المفاوضات الجارية فى الدوحة بوساطة مصرية ورعاية أمريكية. ولا يعتبرون أنهم فى حاجة لإشراك الآخرين معهم؛ لكنهم يستدعون الحلفاء والفصائل الرديفة عندما يتقصّدون تعويم المسؤولية وتعميمها، أو تمرير أهدافهم التنظيمية الخاصة تحت لافتة عامّة، وهو ما تكرَّر فى الموقف الأخير. أعلنت القيادة فى رام الله جانبا من برنامجها لهيكلة السلطة وتأهيلها، وإعادة إرساء الشرعية بعد فاصل زمنى طويل من سيولتها وانفصالها عن الشارع. فكان أن تصدّت حماس للفكرة من بدايتها؛ إنما تحت عنوان مُخاتل يُوسِّع قوسها بما يتجاوز الحقيقة، وذلك باستصدار بيان ممَّا أسمته «تحالف القوى الفلسطينية»، يعترض على المُخطط المُعلن من دون منطق واضح، وبما يقفز على المأسى إلى خلافات من قبيل الرفاهية، ومُستدعاة من أزمنة الوفرة والاتساع والحياة الطبيعية، وكلها باتت من قبيل الأحلام الضائعة للأسف. تشكّل المجلس الوطنى بقرار عربى فى العام 1964، ومن يومها لم تُجرَ أى انتخابات لتجديده أو استكمال تركيبته المتآكلة بأثر رحيل بعض الأعضاء أو شيخوخة غيرهم. والذهاب إلى إعادة إنتاجه بالوسائل الديمقراطية، ومن خلال الشعب باعتباره صاحب الولاية الأصيلة والنهائية على القضية ومُقدّراتها، إنما يردّ الأمور إلى أصلها أولا، ويُجدد مرافق السياسة والحُكم فى فلسطين، والأهم أنه يستجيب لتحديات اللحظة الراهنة، ويُلاقى مطالبات الداخل والخارج بالتكيّف مع المُتغيّرات، بالقديم منها، أو ما طرأ بعد «طوفان السنوار». والاعتراض المحمول على صفة ائتلافية مُخاتلة، إنما ينتمى بالأصالة إلى حركتى حماس والجهاد مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وإذا كانت الأخيرة عضوا بمنظمة التحرير؛ فشريكاتها لا تنخرطان فيها أو تعترفان بشرعيتها وتمثيلها للشعب الفلسطينى. أمَّا مناط الاعتراض فيعود لاشتراط أن يكون المترشّحون للمجلس من المؤمنين بالمنظمة، وأن يخوضوا السباق على برنامجها وفى ضوء التزاماتها بالثوابت الوطنية وقرارات الشرعية الدولية. ووجه الاستغراب، أن السياق يتطلّب كل مقاربة لإحداث التوازن المفقود فى خارطة القوّة الفلسطينية ومشروعها التحرُّرى، ويجب ألا يكون الأمر عُرضة للمُكايدة أو التشغيب، ولا لمحاولات الاستئثار بنوازع فصائلية أو أيديولوجية مُغلقة، وبما يتخطّى وقائع الأرض وثِقَل الحقائق الطارئة، ومقدار الحاجة الماسّة لإنعاش الرؤية وتطوير آليات العمل، والاجتهاد بوسع الطاقة لمُغادرة الفخاخ التى حُفِرَت للقضية طوال السنوات الماضية، وتعمّقت للغاية فى السنتين الماضيتين تحديدًا. أخذت حماس فرصتها كاملة فى إدارة غزّة بعد الانقلاب، وتمتّعت بسلطات شاملة وصلاحيات شبه إلهية. سُمِح لها بالانفصال عن رام الله، وبناء قدراتها الخاصة بمعاونة الخارج وتحت سمع الاحتلال وبصره. وأفضت التجربة إلى خمس حروب على القطاع، ما تزال أحدثها مُتأجّجة ولا يُعرَف طريق لإنهائها، فيما تُسلِّم الحركة على ما يقول قادتها بالرضوخ لمقتضيات الواقع، وإخلاء المشهد لصالح تسوية تُعيد تطبيع الحياة وإحياء آمال الغزّيين. كلام طيِّب؛ إنما يتوجّب أن تواكبه أفعال أمينة ومخلصة. يتشدّد نتنياهو فى أهدافه المُعلنة، وعلى رأسها إفناء الرصيد الحماسى فى شِقّيه السياسى والعسكرى. وإذ يبدو الهدف مُستحيلاً؛ فإن مراميه بالتأكيد ألا تعود الأوضاع لسابق عهدها، ولا أن يكون للحركة وجود ضمن مكوّنات اليوم التالى. وعليه؛ فإما يُقرّ المفاوضون بالاستخلاصات العملية وما يترتّب عليها من أعباء عليهم، أو أنهم يُراوغون بإبداء القبول دون نِيّة فى التفعيل. هُنا، ربما تُشكِّل رام الله مخرجًا ناعما؛ أقله من ناحية حفظ ماء الوجه لقوى القطاع، إن كانت صادقة فى قبولها للتضحية من أجل القضية والغزيين. فضلاً على أن المُبادرة مدفوعة بمطالبات أو ضغوط خارجية، تمثّلت أوّلا فى دعوة واشنطن إلى تخليق سلطة فلسطينية مُحدَّثة، ثم تجسّدت فى مساعٍ عربية لإقناع عباس بإعادة تأهيل منظومة الحُكم، وتجديد خلايا منظمة التحرير ومرافقها؛ لأن الأوضاع القديمة ما عادت صالحة للتعاطى مع الُمستجدّات، أو مُجاراة التبدُّلات المُتسارعة فى فضاء الإقليم، وانعكاسها على الأهوال الجارية ما بين النهر والبحر. وبرنامج المنظمة المُختَلَف فيه، ربما تنحصر خلافاته فى الاعتراف المتبادل بين رام الله وتل أبيب، انطلاقا من اتفاقية أوسلو ومُندرجاتها. صحيح أنها سقطت عمليًّا فيما يخص التسوية طويلة المدى وموضوعات الحل النهائى؛ لكنها أبقت للفلسطينيين موطئ قدم تُغلّفه المشروعية، وحفظت لهم مكانًا على طاولة العالم، لا يفتقد للوجه السياسى المقبول، ولا تنال منه الدعايات الصهيونية، ولا ترتدّ عليه أعباء وصم حماس بالإرهاب، أو عدم الاعتراف بها من جانب الحكومات والفعاليات الدولية. يلوم البيان على المنظمة أنها ضيّعت 78 % من جغرافيا فلسطين التاريخية باتفاق أوسلو، فيما كانت حماس تكتفى بأقل من 1.5 % منها فى غزّة. كما أنها أعادت تحرير وثيقتها الاستراتيجية فى العام 2017، مشمولة بإعلان فك الارتباط عن جماعة الإخوان الإرهابية، وبقبولها لإرساء دولة فلسطينية مُستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967. والملمح السابق ينطوى على اعتراف ضمنىّ بإسرائيل؛ ولو احتالت عليه الصياغة بعدم الجزم أو تعويم الفكرة. كما أن كل المفاوضات السابقة بين الطرفين لا تخلو من ذاك الاعتراف أيضًا، ويظل الواقع أصدق إنباء من الخيالات والأوهام، ويُفعِّل أشراطه القاسية على الأرض بالحديد والنار. وعليه فربما تُلام حماس فى حوارها مع تل أبيب مثلما تُلام رام الله، وفى المآل لا يُفسَّر موقفها الوارد بالبيان إلا على وجه المُناكفة، والاستثمار فى العواطف بمسلك شعبوىٍّ فجٍّ وساذج، ولا يؤدى لشىء إلا إغراق القضية بالنزق الطفولى، فيما يُغرقها العدوّ بالبارود والدم. تُطالب الحركة وتابعاها ضمن المُثلث المسمَّى «تحالف القوى الفلسطينية»، بأن يُعاد بناء مؤسسات منظمة التحرير عبر حوار وطنى شامل؛ لكنها لا تبادر إلى الحوار، ولا تستجيب لمبادرات الآخرين، وتُفوِّت كل المواعيد الداعية للالتئام منذ قرابة العقدين، وحتى بعدما أوقعته بالقطاع فى مقامرة الطوفان، ما تزال بعيدةً بإرادتها عن التوافق العاقل الخلّاق، وتُقدِّم التفاوض مع الصهاينة على الحوار مع الأشقاء. ولا يُفهَم عن أى حوار يُمكن الحديث؛ طالما أنها لا تعترف بالمنظمة من الأساس. فكأنها تضع نفسها ندًّا مكافئًا للأغلبية الفصائلية والشعبية، وبديلاً عن القلب الصلب للمشروع التحرُّرى القائم منذ ستة عقود أو يزيد. فيما الواجب أن يكون الانضواء تحت الخيمة الجامعة سابقًا على الاختلاف فى ترتيب دواخلها؛ لا سيما أن خطاب الحركة وممارساتها لا يخلوان مِن ذات ما تأخذه على السلطة الوطنية. يدعو البيان إلى أن يكون التمثيل حقيقيا وفق أسس ديمقراطية وتوافقية؛ لكن الشرطان لا يتحققان فى داخلها، ولا فى علاقتها مع الآخرين. لقد انقلبت على الديمقراطية والتوافق، ومارست إدارة شمولية مُتغطرسة، اختلطت بالدم الفلسطينى منذ بدايتها، عندما ألقت عناصر فتح من أعالى البنايات أو سحلتهم فى شوارع غزة. والاعتراف بالمحنة اليوم يقتضى التصويب بأثر رجعى، والاعتذار عن أخطاء الماضى قبل الحاضر، والأهم أن يُنكِّس المُخطئ رأسه أمام بيئته، وأن يتواضع قليلاً بالنظر إلى ما تعثّر فيه، وحمَّل تبعاته للأبرياء، أو يُصرّ على قسمتها بصيغة غير عادلة مع مَن لم يكونوا سببا فيها من الأساس. حماس فى أشد حالاتها قوّة لم تكن ندًّا لمنظمة التحرير فى أوهن مراحلها. والتكافؤ المُختل قليلاً فى السابق، زاد اختلالاً أو انعدم تمامًا فى الراهن. لم تعُد فلسطين أمام وفرة من الخيارات، ولا فى رفاهية المفاضلة بين سُلطة مُهادنة وإدارة مُسلّحة حتى الأسنان؛ إنما ينصرف البحث كُلّه إلى الإنقاذ فحسب، والإسراع بوضع القضية بكل فصائلها ومكوّناتها على أجهزة التنفّس الصناعى، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة فى غفلة من العالم، أو استهتار مُريب من قوى الداخل. ما يزيد على ستين عاما منذ تشكيل المجلس الوطنى، وعندما يُدعَى إلى انتخابات للمرة الأولى يجب أن يكون ذلك حدثًا مهمًّا فى ذاته، وألا يُقفَز اعتسافًا على مُقتضيات الحال وظرفيّتها الثقيلة، عبر المُناداة بالمثالية ابتداء، وبأن تُصاغ التفاصيل بأريحية الزمن العادى. ما تحقّقت تلك الرفاهيات فى فسحة الوقت، وعندما كانت كل الأطراف واقفة على سيقانها لا جاثية على الرُكب أو زاحفةً على بطون جائعة. لم يقل عباس بالتعيين، ولا بالاقتراع حصرا للمُنخرطين فى عضوية المُنظّمة. الرسالة واضحة فى أنها دعوة للانتخاب الشعبى العام، فى الداخل والشتات. وحتى شرط الالتزام بالبرنامج لم يتضمن نصًّا صريحًا بالانضواء تحت الراية. أمَّا القول بوجوبية أن يكون ذلك على «قاعدة التمسُّك بالثوابت الوطنية وخيار المقاومة»؛ فكأنه يطعن من طرفٍ خفىٍّ فى المقاربة السياسية من أساسها، باعتبارها تُفرِّط فى الثوابت، أو أن المقاومة السلمية الناعمة ليست من رُزمة الخيارات المُصرَّح بها، والمقبولة بأية درجة لدى التيارات الأصولية والراديكالية الصاخبة. الحال فى رام الله ليست مثالية، والمُنظّمة فى حاجة ماسّة للتداوى والهيكلة. وما يصح بحقها ينطبق على حماس؛ بفارق أن واحدة تتحرك وتتعثّر، والثانية تُقيم على أطلال ماضٍ تهدَّم ولا سبيل لاستعادته. يحتاج الرئيس عباس إلى الدخول فى الزمن الحىّ، ويحتاج خليل الحيّة ورجاله للخروج من الأزمنة الميّتة، ولا بديل عن أن يتلاقى الطرفان عند اللحظة الراهنة بحقِّها، وعلى حقيقتها الناصعة، أو بالأحرى السوداء. إن سلّمت حماس لإسرائيل بتحييد السلاح ومُغادرة الحُكم، وبألا تكون شريكًا مباشرًا وكامل الأهلية فى مُداولات «اليوم التالى»، فلا يُعرَف على أى شىء تختلف مع منظمة التحرير فى إعادة تأهيل المرافق السياسية والتنفيذية للسلطة الوطنية: إما أنها تعرف ما آلت إليه أحوالها؛ أو أنها تُنكر وتستكبر، وتنوى ألا تتوقّف عن تصدير أزماتها للآخرين. تعرفُ الحركة أنها لم تعُد مقبولة من أغلب الأطراف؛ حتى عموم الغزيين فى الداخل. وفى الغالب ستُعيد إنتاج نفسها فى فعاليات أو تحت عناوين مُغايرة، وهو المسار الذى يسمح لها بالترشُّح وعضوية المجلس الوطنى من دون الراية الخضراء. المُشاغبة هنا ليست لأنها ممنوعة من المنافسة، أو مُستبعدة من الشراكة فى بناء الأفق السياسى المطلوب للمستقبل؛ بل لأنها تُصرّ على احتكار واجهة الصورة بمفردها، بالتوازى مع الطعن فى البديل، وهى مسألة لا تنصرف إلى حركة فتح وحدها؛ بل تمسّ كامل الأصول النظامية المُتجسّدة على أرض الدولة الضائعة. أوقع الحماسيون غزة بكاملها فى المحنة؛ ثم يُفاوضون عليها اليوم، ويُصرّون على افتداء وجودهم الحركى بأمعاء المنكوبين الخاوية، وبالقليل المُتبقى فى نفوسهم من أمل. لا يُريدون أن يهدموا أوهامهم التى أوصلت الناس إلى المأساة، كما لا يُرحّبون ببناء أى بديل عنهم، والتوزُّع بين الذاتى والوطنى يُورّطهم بلا انقطاع فى إسناد أجندة الأعداء، وفى إرخاء حبل الذريعة لنتنياهو وعصابته اليمينية المُتطرّفة. ولا مجال للظنّ أنهم لا يعرفون تبعات اختزال القضية فى صورتهم بكل ما يُطوّقها من شُبهات ووَصْم وانخراط فى مشاريع «فوق فلسطينية». المؤكَّد أنهم أكثر عِلمًا من غيرهم بأثر التخادم العفوىِّ أو المقصود بين الأصولية والصهيونية، وبأن المخرج الآمن يبدأ وجوبًا من تنحّيهم، ومن توظيف كامل الطاقات الوطنية لتقديم السلطة ومُنظمة التحرير بديلاً عن مناخ التشاحن البَينىّ، أو سردية الاحتلال بشأن غياب الشريك، وانعدام فرص التعايش لغياب المشروع العقلانى على الجانب الآخر. لم تعُد منافسة داخلية، ولا سباقًا بين أشقاء على رعاية الآباء والأعمام. صارت المسألة الوجودية فى أشد فصولها كآبة وانسدادًا، وتعاظمت كُلفة المناكفة والمُغامرات الفجّة، وكل ما يُحتَكَر لصالح فصيل بعينه، يُخصَم من رصيد القضية، ويُضاف إلى حساب أعدائها بالضرورة. وإذا كانت حماس قد عجزت عن قيادة السيارة؛ فلا معنى للإصرار على البقاء خلف المقود، أو تركها على قضبان القطار ومَنع غيرها من محاولة الإنقاذ. الأمل فى الاستدراك على الألم، وإعانة منظمة التحرير على التشافى من عِلّاتها الموروثة، ومُغادرة طور الشيخوخة والبطء إلى الشباب والمُبادرة. ويبدأ ذلك بإعفائها من منافسة حماس، ودفعها على أول الطريق، ثم تحفيزها على مُساعة الخُطى. كان مُنتظَرا أن تُبادر الفصائل المُسلّحة إلى المُصالحة، وأن تُطالب بإشراك رام الله على طاولة المفاوضات، بل ودعوتها لتولّى زمام الأمور فى القطاع. آخر ما كان مُتوقَّعًا أن تضع العصىَّ فى الدواليب، وأن تفاوض على وجودها أو الفوضى الكاملة. وللأسف فالموقف من انتخاب المجلس الوطنى؛ ومهما كانت المُلاحظات، إنما ينتصر للتعطيل على التأهيل، وللفراغ على الإعمار، ويُمكِّن للصهاينة فى الضفة الغربية كما مكّن لهم فى غزّة سابقًا.