هناك حقائق لم تعد تحتمل الجدل، ولا تنتمي إلى رفوف التحليل البارد، بل صارت من "المعلوم من السياسة والعسكرية بالضرورة". في قلب هذه الحقائق: أن الكيان الصهيوني، بوصفه كيانًا وظيفيًا، لم ولن يقدر على مواجهة "دولة" حقيقية بمفرده. ليس لأن ميزان السلاح لا يسمح، بل لأن طبيعة "المشروع" نفسه لا تحتمل اختبار البقاء في مواجهة كيان راسخ متماسك، له جيش منظم، ومؤسسات راسخة، وعمق شعبي وطني. تاريخ هذا الكيان، منذ أن زرعوه في قلب المنطقة، لم يكن يومًا مشروعًا قادرًا على خوض معركة حقيقية طويلة النفس بمفرده. كلما واجه "دولة"، ارتبك. وكلما اصطدم ب"جيش"، ارتبك أكثر. وحين تطول المعركة، يُستدعى الأصل: الراعي، والداعم، والمشغّل… أميركا. إيران: العدو الذي لم يُكسر رغم كل نقاط ضعفه انظر إلى المواجهة الممتدة اليوم مع إيران. ورغم أن طهران كُشفت أمنيًا إلى حد الخجل: علماء يُغتالون في قلب العاصمة، قواعد صاروخية تُراقب من السماء، منشآت نووية تُفجر، وتسلل استخباراتي صهيوني يصل إلى أجهزة القرار… إلا أن "الكيان" رغم كل ذلك، لم ينجح في كسرها. لا قدر أن يوقف برنامجها النووي. ولا استطاع أن يمنع صواريخها محلية الصنع من أن تقطع آلاف الكيلومترات لتضرب تل أبيب. بل إنه، في لحظة الحقيقة، اضطر إلى الاستنجاد بالعالم: يركض إلى واشنطن، يطلب الدعم من أوروبا، يتحسس هاتفه ليكلم من يستخدمه، ليطلب مظلة دولية عاجلة… فالكيان وحده لا يستطيع. مع مصر… كانت الهزيمة الحقيقية لكن التجربة الأوضح، والأكثر صدمة لهذا الكيان، كانت في أكتوبر 1973. حين وقف أمام جيش نظامي قوي، مصمم على النصر والتحرير، هو الجيش المصري العظيم. في أيام معدودة، دُهس الكيان على جبهة القتال، فانهارت أسطورته. اضطرابات، هزائم نفسية، خسائر مدوية… لم يملك حينها إلا أن يستنجد بالحليف الحقيقي، لا المعلن: جسر جوي أمريكي، دعم لوجستي مباشر، وتدخل عسكري شبه معلن. حتى أن الرئيس المصري قالها صراحة: "أنا مش بحارب إسرائيل… أنا بحارب أمريكا." مشروع تفكيك الدول: لتبقى "إسرائيل" وحدها الدولة من هنا نفهم الخطة الكبرى. من هنا نفهم لماذا كان لا بد من تفكيك الدول، وضرب الجيوش، وتمزيق المجتمعات، وصناعة الفوضى الخلاقة. لم يكن الهدف ديمقراطية، ولا حقوق إنسان، ولا صحوة عربية. كان الهدف – ببساطة – ضمان بقاء الكيان الوظيفي الوحيد كالدولة الوحيدة في محيط من الميليشيات، والكانتونات، وأشباه الأنظمة. أن تُحاصر مصر بالفوضى. أن تنهار سوريا وتُستهلك في دمها. أن تُقسم العراق طائفيًا. أن تُبتلع ليبيا. أن يُشغل الخليج في حروب الاستنزاف والمضائق والنفط. كل هذا… كي لا يبقى في الشرق الأوسط جيش قوي، ولا دولة متماسكة، ولا مشروع استقلال حقيقي. فبقاء "إسرائيل" مرهون بانهيار كل ما حولها. الدور القذر: الإخوان كذراع تنفيذية للمشروع ولم يكن ممكنًا تنفيذ هذا المخطط بدون أداة داخلية، تعرف الأرض، وتفهم اللغة، وتلبس عباءة الدين، وتتحدث باسم الثورة، وتخون كل ذلك في اللحظة الحاسمة. وهنا جاء الدور الأقذر في التاريخ السياسي للمنطقة: جماعة الإخوان المسلمين. تلك الجماعة التي رُبيت، وتغذّت، وتحوّلت إلى ذراع منفذة للخراب. حين وصلوا للحكم، لم يبنوا دولة. بل عملوا لتفكيكها. لم يحموا الجيش، بل حاولوا كسره. لم يصونوا القضاء، بل سعوا لاجتثاثه. لم يحتووا الكنيسة، بل سمحوا بالتحريض ضدها. لم يدافعوا عن الإعلام، بل حاصروا منابره. كانوا ذراع المشروع الأمريكي القطري التركي في المنطقة. وكانوا جزءًا من الحلف الذي أراد أن يحل التنظيم محل الدولة، والخطابة محل السيادة، والولاء للتنظيم محل الانتماء للوطن. الحقيقة التي تتأكد كل يوم اليوم، ومع كل مواجهة، ومع كل معركة، تتأكد الحقيقة: هذا الكيان لا يستطيع أن يواجه دولة حقيقية بمفرده. ولا يستطيع أن يحسم معركة بدون غطاء أمريكي. ومشروع "تفكيك الدول" هو في جوهره مشروع لحماية هذا الكيان، ومنحه تفوقًا اصطناعيًا وسط محيط محطم. وما دامت هناك دولة كبرى، أو جيش قوي، أو شعب يقظ، فمصير هذا المشروع هو الفشل، مهما تأخر الوقت.