في المقال السابق حاولنا أن نستكشف سر الاستجابة القطرية المفاجئة للضغوط السعودية – الإمارتية – البحرينية، في وقف دعمها المادي و المعنوي لجماعة الإخوان المسلمين، خاصة أن قبلها بقليل أعلنت قطر تحديها الصارخ للدول الثلاثة، حيث صرحت مصادر مقربة من الحكومة القطرية لوكالة انباء "رويترز′′ العالمية ان قطر "لن ترضخ" لمطالب الدول الثلاث التي سحبت سفراءها من الدوحة ولن تقدم على تغيير سياستها الخارجية، وبلغ التحدي القطري الذي عبرت عنه المصادر نفسها ذروته عندما قال "قطر لن تتخلى عن استضافة اعضاء من جماعة الاخوان المسلمين بمن فيهم الدكتور يوسف القرضاوي والذي ينتقد السلطات السعودية والاماراتية والمصرية في خطبة كل يوم جمعة من على منبر جامع عمر بن الخطاب في قلب العاصمة القطرية"، لذلك بدا أن هذا الرضوخ القطري المفاجئ للمطالب و الشروط السعودية بالأساس، مشهد يستحق الوقوف أمامه و تحليله لفهم طبيعة القوى التي تؤثر في المنطقة العربية و تحركها… أنتهى المقال إلى استبعاد أن الرضوخ القطري جاء نتيجة لضغوط البلدان الخليجية الثلاث، حتى مع إضافة التلويح السعودي بغلق الحدود البرية و الجوية في وجه قطر، ذلك لأن الإمارة الصغيرة لم تلقي أي بال لهذه التهديدات منذ البداية، و أن الأرجح و الأقرب للفهم و التصديق، هو أن الرضوخ القطري جاء بناء على إيماءة أمريكية لقطر بالاستجابة لشروط البلدان الخليجية الثلاث، و على رأسها السعودية. خاصة أن هذا ترافق مع إجراءات غربية متعددة، مثل ما حدث في بريطانيا و كندا، ضد جماعة الإخوان المسلمين، و التفتات أمريكية كريمة و سخية تجاه القاهرة. و رصد المقال القرائن و الأدلة التي تثبت جدية هذا الطرح، مرورا برصد الحوار العاصف بين الرياض و واشنطن، و الذي كشف عن مدى قلق المملكة من تخلي الولاياتالمتحدة عنها، و إبدالها بأخرين في المنطقة، إلى فشل الرئيس الأمريكي أوباما، في زيارته الأخيرة للملكة، في إقناع الملك السعودي بالتراجع عن موقف بلاده.. أو في الحد الأدنى يربط الدعم الذى يقدمه إلى مصر بدخول الإخوان في العملية السياسية. (القارئ يستطيع الرجوع إلى نص المقال كاملا على ذلك الرابط http://elbadil.com/?p=752975 ( إن الخطل في التفكير يأتي من تصور أن دويلة مثل قطر، أخذت قرارا ذات صباح في يوما ما بأن يكون لها مشروع في المنطقة، فتدعم هذا وتؤيد ذاك، وتمتد أزرعها لتشعل ثورات و تسلح متمردين و تستورد مرتزقة وتدفعهم إلى هذا البلد أو ذاك، ويصل بها الحد إلى التدخل والعبث في شئون جيرانها الخليجيين وتهديد عرش المملكة العربية السعودية ذات نفسها..!!! إن دويلة قطر ليست أكثر من دمية جديدة تم دفعها لأداء أدوار محددة في المنطقة، و هي تؤدي تلك الأدوار بلا أدنى الخوف أو وجل، بل و بكل بجاحه لاطمئنانها التام أنها تحت حماية و جناح الآلهة التي تسكن واشنطن… لذلك هي عندما تحدت، لم تتحدى شجاعة منها… و عندما خضعت لم يكن ذلك رضوخ لتهديدات أطراف إقليمية مهما على شأنها أو كبر، بل استجابة و خشوعا لهمسات الوحي الأمريكي..!! لكننا لم نقف عند هذه النقطة، بل دفعنا التحليل إلى نقطة أبعد و تساءلنا في نهاية المقال، السابق ذكره، عن مغزى و سر تلك الاستجابة الأمريكية المتأخرة لطلبات للمملكة السعودية، و كانت إجابتنا بلا أدنى تردد "سوريا"… أبحث عن سوريا و ما يجري فيها لتعرف سر الاستجابة الأمريكية لطلبات المملكة… ما كاد وزير الخارجية الأميركي جون كيري ينهي اجتماعاته الأوكرانية في جنيف، يوم 17 أبريل الماضي، حتى عقد لقاء ثنائياً مع المبعوث الدولي إلى سورية الأخضر الإبراهيمي، وكانت حمص وأوضاعها عنوانه الوحيد، ومما تسرّب عن الاجتماع في ضوء المعلومات العسكرية المجمع عليها من أطراف المعارضة والدول الحليفة لواشنطن، أن مسألة وقوع حمص بيد الجيش السوري صارت مسألة وقت، سواء بالدخول العسكري أو التفاوض السياسي أو كليهما معها. لم يخفِ كيري خشيته من أن يكون مصير حمص، المسمّاة عاصمة الثورة والمدينة الوحيدة التي خصّتها بالاسم قرارات صادرة عن مجلس الأمن لتأمين صمود المسلحين فيها تحت عناوين إنسانية، بداية لمرحلة جديدة عنوانها حمص نموذج لحلب، وحمص مدخل لحسم الرئاسة للرئيس بشار الأسد. شكّلت "حمص" القلعة الاستراتيجية لوجودها على خط محوري هام يربطها بحلب وحماة حتى إدلب من الشمال، والساحل السوري من الغرب، كما منطقة القصير نحو تلكلخ والقلمون من الجنوب، ولذلك اعتبرت "حمص" عاصمة الثورة وقلعتها، وفقدانها من أيد المعارضة يعتبر نكسة كبيرة، كما أن عودتها إلى حضن الدولة السورية يعتبر تقدم نوعي خطير، يغير خارطة الصراع. لذلك فان حلف العدوان على سوريا اراد ان يفك الحصار بشكل او بآخر تحت عنوان انساني، من خلال ارسال مساعدات انسانية واخراج بعض المواطنين، لكن الدولة السورية ادركت الأهداف والخفايا للطرف المعادي، والداعي الى إخراج قوة من رجال الاستخبارات الأوروبيين والمتعددي الجنسيات وشخصيات رفيعة لها دور فعال في إدارة الحرب على سوريا من تحت نير الحصار المطبق الذي فرضه الجيش السوري على المنطقة. الإبراهيمي الذي دعاه كيري إلى فعل شيء تحت عنوان المساعدات الإنسانية لتخفيف الضغط العسكري في حمص، عبّر عن شعوره باليأس من القدرة على فعل شيء طالما لا يوجد أيّ تفاهم روسي أميركي لمفهوم مشترك لإنعاش العملية السياسية، متوقعاً إذا بقيت الأمور على هذه الحال أن تسقط الثورة التي أحبّها من قلبه كما قال، ويصبح على العالم الاعتراف بنتائج الانتخابات السورية التي تبدو محسومة لمصلحة الرئيس الأسد بمنافس ومن دون منافس. كان هذا الحديث بين كيري و الإبراهيمي يعكس مدى الإحباط الأمريكي من سير الأحداث و تطورات الأمور في سوريا، و قبلها كان رأى جيفري وايت، وهو متخصص في الشؤون الدفاعية في معهد واشنطن وضابط كبير سابق لشؤون الاستخبارات الدفاعية الاميركية، أن الحرب تسير الآن في صالح النظام السوري كما أن احتمالات انعكاس الأوضاع لصالح المعارضة لا تبدو جيدة، حيث أن الجيش السوري قد أنجز ثلاثة أرباع مرحلة النصر في سورية عبر إمساكه بأهم ثلاث جهات استراتيجية وهي المنطقة الحدودية مع لبنان ودمشق وحلب وهذا الانجاز كفيل للاعتراف أن الرئيس الأسد قد كسب الحرب. و هكذا فقد بدا أن سوريا، محتضنة بمحور المقاومة، قد كسرت الهجوم- العدوان عليها وتمكنت بعد سنة قاسية من المواجهة ان ترسي معادلة غير قابلة للتغيير أو التعديل مفادها أن سورية ثابتة في موقعها الاستراتيجي وان العدوان الى انحسار وتآكل. فببدء المرحلة النهائية من الحرب على سوريا والتي يبدو أن سقفها لن يتجاوز أيام عام 2014 مثلما حدد الرئيس الأسد بعبارة «العمليات العسكرية الرئيسية النشطة»، وتعني هذه العبارة أن الدولة ستتوصل في نهاية العام إلى العودة إلى جميع المناطق التي أفسد المسلحون أمنها وأخرجوها من تحت السيطرة الشرعية للدولة، ما يعني أن الدولة ستتمكن خلال هذه المهلة من حسم أمر الجبهات من الشمال إلى الجنوب فالشرق، والانتهاء من تنظيف منطقة الوسط وكسر الحواجز والخطوط التي تحول دون وجودها الفعلي المباشر في أي من مدن تلك الجبهات وبلداتها. وتتحوّل بعد ذلك للتعامل مع خطر الجيوب والخلايا المتناثرة المتبقية في الداخل السوري أو المتسللة إليه. نقول هذا بعدما نجحت الدولة السورية في تطهير أكثر من 85 في المائة من المنطقة الوسطى وعزلت لبنان عن الميدان السوري على نحو شبه تام، إثر تطهير القلمون والإجهاز على آخر مواقع المسلحين الأساسية في رنكوس، ثم بعد ذلك إتمام المصالحة في الزبداني، وهي تتقدم بشكل منهجي وبخطى ثابتة في حلب إلى حد إعلان الغرب نفسه أنها باتت تملك سيطرة على 80 في المائة من المدينة، كما أنها احتوت الخرق العسكري الاستراتيجي الذي قامت به تركيا عبر ائتلاف الجماعات المسلحة في اتجاه كسب، وأدى هذا الاحتواء إلى إسقاط إحدى أهم الأوراق الذهبية التي كانت تحتفظ بها جبهة العدوان انطلاقاً من تركيا في اتجاه الساحل السوري، مع التأكيد على ما تم من لجم الاندفاعة التركية في دعم هذا الهجوم وما رسم لتركيا من سقف لحركتها على طبقتين: طبقة إيرانية أفهمتها أن الذهاب بعيداً سيفتح جبهات عليها ليست في حسابها الآن ولن تحتملها إن فتحت، وطبقة روسية أفهمتها أن الساحل السوري خط أحمر، وأن عليها أن تتوخّى الحذر في تدخلها، و رافق ذلك ظهور بطاريات صواريخ الدفاع الجوي الروسية الشهيرة أس-300 (S-300) في منطقة الساحل، مما يعني نهاية الأحلام التركية بإقامة منطقة حظر طيران في الشمال السوري. وفي نفس هذا السياق، توقّف محلّل الشؤون العسكرية في القناة العبرية العاشرة أمام عمليّة الإنزال البحري التي قامت بها قوّة خاصة بالجيش السوري في بلدة السّمرا الحدودية، حيث وصل عبرها إلى الشريط الحدودي مع تركيا، وأغلق المنفذ البحري للمسلّحين، معتبراً أنها العملية الأولى من نوعها منذ اندلاع الأزمة في سورية، وتحمل مؤشّرات خطيرة تدلّ على أخطار قد تتهدّد "إسرائيل" في أيّ حرب مقبلة في المنطقة، كما كشف – وفقاً لتقارير أمنيّة – عن أسر الجيش السوري و"حزب الله" ضبّاطاً من المخابرات التركية والأردنية خلال عمليّة الإنزال، يديرون غرفة سير العمليّات في ريف اللاذقية الشمالي، مشيراً إلى تقلّص دور عملاء الموساد على طول المساحة السوريّة بشكل كبير، نتيجة عمليّات رصد ومتابعة الجيش ومقاتلي "الحزب" على أكثر من جبهة، ناهيك عن انهيار الجبهات التي كانت تخضع للمسلّحين وباتت بقبضة الجيش السوري. من أجل كل ما سبق لم يكن من الغريب، و بتنسيق وتزامن كاملين، أن يعلن كل من الرئيس السوري بشار الأسد وأمين عام "حزب الله" السيد حسن نصر الله عن ارتياحهما لمسار الأزمة السورية، ففي وقت واحد تقريباً أبلغ الأول مسؤولاً روسياً الانتهاء من الأعمال العسكرية الكبرى في غضون سنة واحدة، واعتبر الثاني أن موضوع سقوط الأسد بات من الماضي وأن المشاريع الهادفة إلى تقسيم المنطقة وشرذمتها تعاني من عثرات تمنعها من التنفيذ. وفي هذا السياق، لم يستغرب زوار العاصمة السورية هذا الكلام، نظراً لمشاهداتهم من جهة ولتطور المواقف الدولية والاقليمية ازاء الأحداث السورية من جهة ثانية، بالإضافة إلى انكشاف الأوراق والأدوار، مع ما يمكن أن يحمله ذلك من تقلبات في المزاج الدولي والاقليمي، ومن مفارقات على صعيد التداعيات خصوصاً أن العالم غالباً ما يقف سياسياً وعسكرياً مع الفريق المنتصر، وهذه هي ميزة العالم الجديد الخاضع لعوامل اقتصادية ومالية أرخت بظلالها على الدول النفطية المعروفة بدول البترو دولار. لقد دقت كل أجراس الإنذار في واشنطن نتيجة للانتصارات السورية المتتالية، فسقوط دمشق في النهاية كان هو واسطة العقد و الهدف الأساسي والنهائي للربيع العربي برمته. وواشنطن تعرف جيدا أن صمود دمشق و عودتها إلى ميادين القتال واستعادة الدولة هيبتها ومكانتها في سوريا تسبب في استعجال المشروع الاخواني للهيمنة على مصر قبل موت ما يسمى بالثورة السورية .. فكان هذا الاستعجال سببا في انكشاف مشروعهم واندحاره .. لقد خططت واشنطن منذ البداية لإزالة سوريا من خلال تفجيرها وتجزئتها قطعة قطعة، وبعدما قال ايهود يعاري، الاسرائيلي الذي يعمل في معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى، ان تفكيك الدور الجيوبوليتيكي لدمشق يفضي حتماً الى اسدال الستار على سائر ازمات الشرق الأوسط، و تفادى الحديث عن تفكيك الدولة كما لو أن تفكيك الدور يمكن ان يتحقق من دون تفكيك الدولة أو بالعكس…!!! يعود البحث الحديث عن الهيمنة الغربية إلى نهاية "الحرب الباردة" عندما كان هناك اعتقاد راسخ لدى واشنطن، "وول ستريت"، و لندن بإمكانية إعادة ترتيب الكوكب تحت سيطرتهما في غياب أي قوة عظمى تقف في وجههما. فقد بدا من الثورات الملونة في أوروبا الشرقية، وتدمير الاتحاد السوفيتي في التسعينيات من القرن الماضي، وحرب العراق الأولى، وتقسيم البلقان، أن إعادة الترتيب هذه تسير على قدم وساق. لكن واشنطن لم تستطع أن تحافظ طويلاً على وضعية «القطب الواحد للعالم»: تعثرت في كابول 2001، وفي بغداد 2003، ومال ميزان القوى الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، التي كان يسميها الجنرال ديغول «قلب العالم»، لغير مصلحة واشنطن «بعد تحولها لقوة شرق أوسطية إثر مجيئها بجنودها لأفغانستان والعراق» من خلال نتائج حرب يوليو 2006، وغزة 2007، وبيروت 7 مايو 2008، وبغداد 25 نوفمبر 2010 (المالكي وليس علاوي رئيساً للوزراء)، ومن ثم سقوط حكومة سعد الحريري في بيروت في 12 يناير 2011: كانت هذه الأحداث المتتابعة غيرت الموازين بشدة لغير مصلحة واشنطن. ترافق هذا مع استيقاظ روسي بدأت ملامحه في الشهر السابق لأزمة سوق نيويورك عبر الحرب الروسية – الجورجية، ثم عبر مكاسب موسكو في الحدائق السوفياتية السابقة في أوكرانيا وقرغيزيا. لم يقتصر هذا الاستيقاظ على المحيط الاقليمي الروسي، بل ترجم عالمياً من خلال تشكيل موسكو لتكتل عالمي مع بكين ونيودلهي وبرازيليا في 16 يونيو 2009 من خلال إنشاء مجموعة «البريكس» (انضمت إليها جنوب أفريقيا عام 2010) التي دعت إلى تشكيل «نظام عالمي متعدد الأقطاب». إن روسيا والصين والهند وبلدان نامية أخرى نهضت بسرعة فائقة أدت إلى تحجيم تدريجي لطموحات الغرب، و على رأسه الولاياتالمتحدة الأمريكية. كانت أمريكا ترى عالمها الأحادي القطبية يذوب أمامها، و أن قبضتها تنفك شيئا فشيء عن العالم، و سلسلة الانهيارات في نفوذها و تفوقها تتوالى على شكل متوالية هندسية لا عددية، لذلك وجدت واشنطن أن المخرج ربما يجيئها عن طريق تغيير عميق في بنية الشرق الأوسط يصعد الإسلام السياسي و يستخدم الإسلام الجهادي في ضرب التكتل العالمي الصاعد لتحدي هيمنتها. و كانت سورية بديكتاتورية جغرافيتها السياسية، وموردها البشري ونسقها السياسي وجوهره "توليفة" حكمها السياسي، تعد بالنسبة للغرب، بما فيه الولاياتالمتحدة الأمريكية وعبر حلف الناتو الحربي، المدخل الاستراتيجي للسيطرة وبتفوق على المنظومة العسكرية الأممية الجديدة المتشكّلة بفعل تحدي الهيمنة الأمريكية، ولاحتواء الصعود المتفاقم للنفوذ الروسي الأممي، والساعي الى عالم متعدد الأقطاب. لذلك منذ 2011، كانت سوريا هدفاً لمحاولة مدعومة من الخارج لتغيير النظام. حيث قام المحتجون بالنزول إلى الشوارع في أنحاء متفرقة من سوريا على إيقاع "الربيع العربي" الذي أتضح أنه غطاء للإسلام السياسي و التيارات الجهادية الذين كانت تحضرهم الولاياتالمتحدة وإسرائيل و قطر و تركيا – تبعاً للوثائق المتوفرة الآن – منذ سنة 2007 على الأقل (سنتناول ذلك في مقال قادم بإذن الله). كانت عملية زعزعة استقرار سوريا تسير بالتزامن مع البلدان العربية الأخرى، بما في ذلك تونس وليبيا ومصر. ففي تونس ومصر كان السقوط سياسياً، حيث ترافق مع عنف محدود في الشارع. أما في ليبيا فقد كان السقوط مطلقاً – حيث تم تمزيق البلد بشكل كامل بين ما يسمى "المقاتلين من أجل الحرية" والذين تبينَ فيما بعد أنهم ليسوا سوى متشددين من القاعدة ينتمون إلى "المجموعة المقاتلة الإسلامية الليبية". فاجأت الحربُ الغربية الخاطفة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط العديدَ من البلدان. فقد أدى عجزها عن الرد بشكل فعال على "الحرب الملونة" المنسقة خلال 3 سنوات من زعزعة الاستقرار الإقليمي إلى تغيير الأنظمة، وحتى الحرب. أما في سوريا، فقد صمدت الحكومة وصمد الشعب، فلم تنهار الدولة الوطنية السورية، فالجيش متماسك والقطاع العام السوري صامد ويقدّم خدماته، والجسم الدبلوماسي السوري في الخارج صامد ويقوم بأدواره، ومن ثم قامت بالرد على الهجوم. في يناير 2013، بدا واضحاً أن القوات السورية قد قلبت الطاولة على المسلحين المدعومين من الخارج الذين كانوا يتدفقون طيلة سنتين عبر الحدود ويزرعون الفوضى القاتلة في كافة أنحاء البلاد، و توالت سلسلة الانتصارات التي تحدثنا عنها من قبل بشكل شديد الإيجاز و التكثيف، لا يبرز حجمها الحقيقي في تهديد الخطة الأمريكية بالفشل التام، و قد رأى الأمريكيون أن هناك الأسباب الرئيسية لهذه المتوالية من الأنهيارات، بجانب صمود الدولة السورية و محور المقاومة الداعم لها، هم:- اولا: على صعيد العلاقات البينية داخل الجماعات المسلحة ذاتها حيث انها شهدت منذ سنة تقريبا توترا فاحتكاكا فانفجارا وتناحرا ادى الى شهر العداء بين هذا التنظيم او ذاك كما هو الحال بين جبهة النصرة وتنظيم داعش، اي تنظيم ما يسمى دولة اسلامية في العراق والشام، حيث كان صراعاً على النفط وعلى مغانم الحرب وعلى النساء وصولا الى تكفير احدهما الآخر وقتل احدهما لعناصر الآخر وقيادته. ويمكن اعتبار الخلافات بين الدول الداعمة للمجموعات المسلحة في سورية، تتقاطع وتتناقض على الأرض في بعض الأحيان، كان من أهم أسباب الاقتتال بين الجماعات المسلحة، الأمر الذي ترجم على الأرض بخيانات المسلحين لبعضهم البعض من خلال تسريب الكثير من المعلومات المهمة عن أماكن تواجد القادة، بالإضافة إلى عمليات المجموعات المسلحة، إلى الجيش السوري عبر وسطاء، ما يدلل على نجاح الجيش السوري في حرب الكمائن التي شنها في أطراف الغوطة الشرقية ومحيطها. استشراء الصراع بين جماعات المعارضة المسلحة وامتداده إلى جميع مناطق تواجدها ترك تداعيات أبرزها: - تغيّر أولويات الجماعات المسلحة، فبعدما كانت هذه الجماعات موحدة نسبياً في القتال ضدّ الجيش العربي السوري، باتت أولوياتها الآن صدّ الأخطار التي تأتي من هذا الفصيل أو ذاك. - الاقتتال بين هذه الجماعات المسلحة يستنزف قدراتها البشرية والعسكرية، الى الحد الذي تنقل مصادر شبه محايدة ان حصاد قتال التناحر بين المسلحين والجماعات الارهابية فيما بينها تعدى ال 10 آلاف قتيل منهم 400 مما يسمى قادة او امراء لدى هذا التنظيم او ذاك. - ترك الاقتتال حالاً من الإحباط على مستوى المقاتلين وحتى قادتهم وعلى مستوى البيئة الحاضنة لهم. ثانيا: لقد أدى ذلك إلى بدء موسم هجرة "الجهاديين" من غير السوريين من مناطق سوريا المختلفة باتجاه الشمال إلى تركيا والدول العربية والأجنبية التي قدموا منها، فبالإضافة إلى ما سبق فقد خاب أمل المقاتلين العرب والأجانب من المعارك التي خاضوها على أبواب دمشق التي بدت حصينة أكثر مما يتخيلون، و أن الجيش السوري قوي ومتماسك ويخوض المواجهات بقوة وثبات وبحرفية وتكتيك عال و استراتيجية مرسومة على المدى الطويل بخلاف ما كانوا يعتقدون بحسب المعلومات التي لديهم قبل قدومهم والتي تقول إن الجيش مهزوز ومفكك ومنشق. ونقلا عن مصدر من هذه الجماعات المسلحة، فإن أحد "المجاهدين" ممن تركوا جبهات القتال وغادروا إلى الشمال اختصر مأزقه ومأزق زملائه بقوله: "لقد ضللنا من الدول الداعمة لنا". ثالثا: كان من الطبيعي أن يتبع ذلك يقظة او صحوة او وعي او خوف لدى بعض الدول ال 83 التي منها جاء الارهابيون المسلحون الى سورية وبدء تلك الدول بالتضييق على حركة هؤلاء ومنعهم من السفر، مما ادى الى تراجع الدفق الارهابي الخارجي المتجه الى سورية، فعلى سبيل المثال نجد ان تونس وحدها منعت 5 آلاف شخص من التوجه الى الميدان السوري فضلا عن دول اخرى عربية او غير عربية حذت حذوها لأسباب مختلفة. وقد ادت هذه التدابير من هنا وهناك، بالإضافة إلى الهجرة المعاكسة التي أوضحنها سابقا، الى خفض عدد الارهابيين في سورية بنسبة تزيد على ال 30 %، واذا اضيف ما لحق بالمسلحين من خسائر نجد ان قدراتهم اليوم لا تتعدى ال 45% من قدراتهم قبل سنة. من اجل ذلك لم يكن أمام أمريكا إلا ترميم جبهة العدوان عبر تسوية الخلافات او البدء بتسويتها على الصعيد الخليجي بين قطر والسعودية واتباعها. وترى اميركا ان تصدع مجلس التعاون الخليجي في هذا الوقت بالذات سيكون له ارتدادات سلبية قاسية على ما تخطط له في سورية، لذلك ورغم انها هي من ابتدع اصلا لعبة الحصانين الخليجيين اللذين تراهن عليهما في تنافس مستمر، فإنها رأت ان تهدئ اللعبة لوقت ما حتى تخدم مشروع حرب الاستنزاف في سورية، فأعطى اوباما في زيارته الاخيرة للمنطقة الاشارة لتابعيه الخليجيين بتجميد الخلافات الآن والسعي الى تطبيع العلاقات للتفرغ للمهمة الاساسية في العدوان على سورية. اليوم، مع خروج الغرب من العراق، وغرقه في مستنقع أفغانستان، وانكشاف مخططاته العدوانية في ليبيا، وحصاره في سوريا وأوكرانيا، لا يبدو فقط أن الطموحات الغربية قد تعرضت للتحجيم ولكن يمكن، في الحقيقة، أنها تواجه خطراً عكسياً. إن فشل الغرب في سوريا يبعث برسالة إلى الأهداف الأخرى للتدخل الغربي. ليس هناك أي حاجة للتهاون أو التفاوض، وليس هناك أي حاجة لتملق الأعراف التي لفقها الغرب لتقييد البلدان المستهدفة. وفي حقيقة الأمر، فإن كل ما تفعله هذه البلدان من خلال مراعاتها لهذه الأعراف هو إضعاف نفسها عبر التزامها بالقواعد التي يطالب الغرب الآخرين الالتزام بها بينما يقوم هو بانتهاكها بشكل متعمد. على ضوء ذلك باتت اميركا تخشى أن الانتصار المدو لمحور المقاومة يحدث مفاعيله وتداعياته على كامل الاقليم بل و يتعداها، لذلك انقلبت اميركا الى حرب الاستنزاف لتمنع حدوث الانتصار المخشي منه في توقيت لا يناسبها خاصة انها اليوم بصدد اعادة التموضع في العالم والتخفيف من الوجود العسكري المباشر في منطقة الشرق الاوسط، لتتفرغ اكثر الى الشرق الاقصى مع اكتمال الانسحاب من افغانستان، دون ان ننسى الازمة الاوكرانية التي وقعت لتشكل نكسة كبيرة للسياسة الاميركية والغربية عامة ما جعلها تبدي حذرا كبيرا في مسألة التعاطي مع الاخفاق في سورية. حيث تحاول الإدارة الأميركية الآن بكل ما تملك من اوراق ومعطيات التأثير على مسار ونتائج معركة الرئاسة في سوريا، التي تبدو نتائجها محسومة منذ الآن لصالح الرئيس الأسد، نظرا لأن بقاء الأسد على رأس السلطة يعني حفظ وحدة سوريا وتماسك بناها السياسية والاجتماعية والأمنية و الاقتصادية. لذلك فإن الأمريكان يعملون على وقف الانهيار و تعضيد حلف كل من تركيا والسعودية وقطر و«إسرائيل» رغم الخلافات القائمة بينهم وتوحيدهم في جبهة واحدة لمواجهة الدولة الوطنية السورية، ولذلك أيضا بادروا إلى فتح معركة كسب وحلب وأصبحت «جبهة النصرة» بالكامل تحت جناح تركيا، فهم يحاولون السيطرة على مدينة حلب واخراجها من المعادلة السياسية السورية في انتخابات الرئاسة، والرهان في ذلك على الساحة التركية الخلفية كساحة دعم لوجستي للإرهابيين من القيادات والفصائل الآسيوية، والتي تم جلبها من مختلف جبهات القتال في سورية وزجّها بمعركة حلب الآن، وهي مجموعات القيادات المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمخابرات التركية منذ أيام حرب الشيشان الأولى في التسعينيات، من شيشان و داغستانيين و أوزوبوكيين وبعض شركس وتتريين، وهناك ألوية وكتائب تركمانية تركية الولاء بالمطلق في معركة حلب وريفها وكسب وريفها. وفي الجنوب ثمة تدخل «إسرائيلي» مباشر أيضاً لدعم المجموعات الإرهابية المسلحة للضغط على الجيش السوري ومحاولة إقامة حزام أمني فاصل بين سورية والكيان الصهيوني في الجولان. ترميم حلف العدوان على سوريا أصبح ضرورة حتمية في نظر الأمريكان، حتى ولو كان الثمن التخلي عن جماعة الإخوان المسلمين و لو مؤقتا، خصوصا بعد اعتراض قادة الأركان في البنتاجون على استمرار البيت الأبيض في دعم تنظيم الإخوان، حيث يقولون في تقرير بشأن تلك المسألة، رفعوه إلى الرئيس الأمريكي: « لقد بدأ الامتحان في تونس.. تسلم الإخوان السلطة هناك.. لكنهم فشلوا في إدارة الدولة وأجبروها على التراجع.. والأسوأ ما حدث في مصر.. ساعدناهم في الوصول إلى الحكم.. لكن.. الشعب طردهم مباشرة دون توجيه من حزب.. أو طلب من قائد.. في ظاهرة سياسية غير طبيعية.. إن المصريين معرفون بقدرتهم على تحمل المصاعب إلا أن مستوى الظلم الذى مارسته الجماعة دفعهم إلى الخروج عليها». وما ضاعف من المأساة حسب تقرير أخير لمركز سترتفور، المساند لأجهزة المخابرات الأمريكية، أن أزمة الإخوان في مصر انتقلت إلى المنطقة وخارجها.. «علاقة القاهرة بواشنطن الراعي الأكبر لمصر أصابها الاضطراب على نحو غير مسبوق منذ 30 يونيو».. «وانشق الصف الخليجي بسحب السعودية والإمارات والبحرين سفراءهم من قطر بسبب دعمها للإخوان ماليا وإعلاميا وسياسيا.. مما ضاعف من حالة عدم الاستقرار». لذلك بدا أن التخلي عن الجماعة خيار أمريكي حتمي لململة أشلاء النفوذ الأمريكي و وقف نزيف الخسائر المذل في الشرق الأوسط.. لكن يبقى سؤال… هل تخلي الغرب عن جماعة الإخوان المسلمين نهائي و أخير، أم هو مؤقت و تكتيكي و مجرد استدارة خادعة، نخفي وراءها ما تخفي…؟؟؟!!! هذا ما سنحاول الإجابة عليه في القادم. قالوا: "الإعاقة الحقيقية في العقول المغلقة" المهاتما غاندي