تحيي القارة الأفريقية في الخامس والعشرين من مايو كل عام ذكرى تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، ذلك البنيان القاري الذي جاء ليجمع شتات الدول الأفريقية الخارجة من ركام الاستعمار، ويعبر عن إرادة شعوبها في التحرر والوحدة والتضامن، ويُعد يوم إفريقيا حدثًا تأسيسيًا لمسار طويل من الوعي القاري والإرادة السياسية الجماعية والطموح في بناء مستقبل مشترك يليق بثقل أفريقيا التاريخي والجغرافي والبشري، إنه يوم يستدعي من الجميع، قادة وشعوبًا، تجديد الالتزام بالحلم الإفريقي الكبير، والانتصار لقيم التحرر والعدالة والتكامل من أجل قارة تستحق مكانتها بين الأمم، وتملك كل المقومات لتكون أحد أقطاب المستقبل. وقد شكلت الدولة المصرية آنذاك إحدى الحواضن الكبرى لحركات التحرر الأفريقية، وقدمت دعمًا سياسيًا وماديًا ولوجستيًا لعدد من قادة الاستقلال في القارة، من أنغولا إلى غانا، ومن موزمبيق إلى الجزائر، ولقد أدركت مصر بقيادتها التاريخية أن أمنها القومي لا ينفصل عن عمقها الإفريقي، وأن دورها الإقليمي يجب أن يتجذر داخل قارتها الأم بوصفه انتماءً حضاريًا وثقافيًا راسخًا فمنذ تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، كانت مصر حاضرة في مسارات الدعم وصياغة الرؤى وبناء الجسور، وساهمت في تأسيس عدد من المؤسسات التعليمية والثقافية التي استهدفت تمكين النخب الإفريقية الشابة، فأنشأت الجامعات وقدمت المنح وفتحت أبواب مؤسساتها الأكاديمية أمام الطلاب الأفارقة إيمانًا منها بأن قوة إفريقيا تبدأ من وحدتها، وأن التنمية الشاملة لا تتحقق إلا بتعاضد أبنائها وتكامل أدوار دولها الفاعلة. وقد شهدت المنظمة تطوراً جوهريًا بمطلع الألفية الجديدة، حين تحولت إلى الاتحاد الإفريقي، الذي تبنى أجندة طموحة قوامها التنمية المستدامة وحماية حقوق الإنسان وتشجيع السلم والأمن في القارة ومن ثم واصلت مصر دورها الداعم والفاعل فكانت من أوائل الدول التي دفعت بقوة نحو بناء مؤسسات إفريقية قادرة تترجم الأهداف إلى سياسات ومشروعات واقعية، مثل مجلس السلم والأمن الإفريقي، والمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، كما قدمت رؤى متكاملة في قضايا التكامل الإقليمي وتنمية القدرات البشرية وتطوير البنى التحتية، لا سيما في مجالات النقل والطاقة والربط القاري باعتبارها مفاتيح حيوية لتحقيق الاندماج الاقتصادي والتنمية المستدامة في إفريقيا. وقد تجلى الدور المصري في السنوات الأخيرة بشكل لافت، خاصة خلال رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي عام 2019، وهي رئاسة اتسمت بالفاعلية والحضور القوي على مختلف المستويات، فقد شهدت هذه الفترة تحركات دبلوماسية نشطة، من أجل دفع قضايا القارة إلى صدارة الأجندة الدولية، وتمثيل صوت إفريقيا في المحافل العالمية، كما سعت مصر إلى دعم جهود تسوية النزاعات المزمنة، وتشجيع التجارة البينية بين دول القارة، وإطلاق مبادرات مهمة لمواجهة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، فضلًا عن دعم ملف الإصلاح المؤسسي للاتحاد الإفريقي، باعتباره مدخلًا لازمًا لتعزيز فاعليته واستقلاليته، وجاء إسهام مصر المحوري في إطلاق منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، باعتبارها خطوة استراتيجية نحو تحرير الاقتصاد الإفريقي من التبعية للأسواق الخارجية، وتحفيز الإنتاج المحلي، وبناء سوق قارية موحدة قادرة على التفاوض بندية والتنافس بثقة مع الاقتصاد العالمي. ويحظى الدور المصري بتقدير واسع في الأوساط الإفريقية وتمتد جسور تواصلها الطبيعية والثقافية والاقتصادية إلى عمق القارة، حيث أن مصالحها الحيوية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضايا المياه والطاقة والنقل الإقليمي، مما يجعل من انخراطها في القضايا الإفريقية مسألة استراتيجية؛ لهذا تعد مشاركتها الفاعلة في مبادرات حفظ السلام، واستثماراتها التنموية في دول الجوار، وانخراطها في شراكات تنموية متعددة الأبعاد، تجليات عملية لهذا التضامن الإفريقي المتجدد، ويزداد أهمية هذا الدور في ظل ما تواجهه القارة من تحديات متعاظمة، كالإرهاب العابر للحدود، وتداعيات التغير المناخي، وشح الموارد، والنزاعات المسلحة، وهي تحديات تتطلب تنسيقًا وثيقًا بين دول القارة، ورؤية موحدة تقودها قوى إقليمية مسؤولة، تمتلك الإرادة والخبرة والقدرة على بناء التوافقات وقيادة التحولات، ومصر بما لها من رصيد تاريخي، وموقع مركزي، وإمكانات استراتيجية، تمتلك الرؤية والخبرة والنية الصادقة لتكون قاطرة للتكامل الإفريقي. ويكتسب مشروع النهضة الإفريقية بعدًا ثقافيًا لا يقل أهمية عن أبعاده السياسية والاقتصادية، إذ تمتلك القارة، بتنوعها المتعددة ثروة ثقافية قادرة على صياغة هوية قارية جامعة، تُبنى على أسس الاحترام المتبادل، والانفتاح الواعي، والاعتزاز بالمشترك الإنساني ومن هذا المنطلق، فإن تشجيع التبادل الثقافي بين دول القارة، وتوثيق التراث المادي واللامادي، وتمكين الشباب من التعبير عن ذواتهم بلغاتهم وأساليبهم وأدواتهم المعاصرة، يمثل ركيزة أساسية لبناء الهوية وتعميق الانتماء القاري، بما يسهم في ترسيخ تماسك اجتماعي يتجاوز الانقسامات التقليدية، ويفتح آفاقًا جديدة للتلاقي والتكامل. وتبرز أهمية الدعوة لتدويل التجارب الإفريقية الناجحة، كنماذج قابلة للتكرار والتكييف بحسب خصوصيات ومناسبة كل بلد، مما يستدعي دعم التعاون الإقليمي، وإقامة الشراكات الاستراتيجية، وتكامل السياسات التنموية، في إطار رؤية شاملة تقود إلى التكامل الإفريقي المنشود، كما تبرز الحاجة إلى صياغة سردية جديدة عن القارة، تُعيد تقديم إفريقيا للعالم كقارة الفرص والإمكانات، بما تمتلكه من ثروات طبيعية، وطاقة بشرية شابة، وموارد كامنة يمكن توظيفها لصالح التنمية والازدهار، فالمستقبل الإفريقي يُكتب اليوم بوعي القادة ويقظة الشعوب وتماسك الرؤية الحضارية والتنموية الجامعة، إنه مستقبل يُبنى على الاعتراف بالماضي واستخلاص دروسه وتحويل المعاناة التاريخية إلى طاقة للتحول والنهوض، لتكون إفريقيا فاعلًا ومصدر إلهام في عالم يبحث عن نماذج جديدة للعدالة والكرامة والتمكين. ومع اتساع التحديات التي تواجه القارة، تمتلك مصر من الخبرات المؤسسية، والبنية التحتية المتطورة، والموقع الجيوسياسي الفريد، ما يؤهلها للقيام بدور الجسر بين إفريقيا والعالم، ولصياغة نموذج تنموي قاري يجمع بين الاستقلالية والتكامل، وبين الجذور الحضارية والطموح المستقبلي، إن رؤية مصر لإفريقيا لا تنفصل عن رؤيتها لنهضتها الذاتية، فمصير القارة مترابط، ونهوض جزء منها يحقق نهوض الكل، ونؤكد أن الدولة مصر ماضية في تقديم دبلوماسية تنموية نشطة، وشراكات استراتيجية ذكية، ومبادرات إنسانية راسخة، تُعيد لإفريقيا مكانتها المستحقة في النظام الدولي، وتفتح أمام شعوبها أبواب الحلم، والإنتاج، والاستقرار؛ ليُكتب تاريخ جديد للقارة، فصوله من العمل والأمل عنوانه إفريقيا تنهض بإرادتها وتصوغ مصيرها بوعي أبنائها.