"شعبوية" القضية الفلسطينية، ليست بالأمر الجديد تماما في منطقتنا العربية، فما تحظى به من مركزية نابع أساسا من انتماء الشعوب لها، وهو الأمر الذي إذا ما أردنا تقييمه، ربما نرتبك قليلا، بين إيجابيات، أضفت شرعية إلى حقوق الشعب الفلسطيني، في استرداد أرضه، وبناء دولته، وسلبيات، ربما نجمت عن خلافات حول الكيفية التي يمكن بها إدارة الصراع على المستوى الرسمي، بين أصوات حنجورية، داعية إلى الحرب، وأخرى أمنت بأن "المقاومة لها وجوه كثيرة"، لا تقتصر في جوهرها على إطلاق الصواريخ، وهو ما ساهم بصورة أو بأخرى في انقسام الإقليم، إلى محورين، أحدهما وجد في "الممانعة" سبيلا نحو مزيد الشعبية، التي يمكن بها استلهام مزيد من النفوذ، وآخر آثر الاعتدال، عبر قنوات دبلوماسية، تطورت مع مرور الوقت باستخدام أدوات أخرى للضغط على الاحتلال، ربما أبرزها البعد التنموي، الذي أصبح جزء لا يتجزأ من النهج الذي يتبناه "معسكر التنمية"، في إطار تعزيز الصمود الإقليمي والانتصار للقضية. إلا أن الجديد اللافت للانتباه، أن القضية الفلسطينية لم تعد حكرًا على شعوب المنطقة، بل بدأت تكتسب بعدًا شعبويًا عالميًا، تجاوز محيطها الجغرافي، واخترق دوائر التأثير في الغرب ذاته، بما فيها مؤسسات المجتمع المدني، والفضاء الإعلامي، والجامعات، فقد تكررت مشاهد الاحتجاجات الواسعة المناصرة لفلسطين في العواصمالغربية، وصعدت معها نبرة الخطاب الرافض للسياسات الإسرائيلية، لا سيما في أوساط اليسار التقدمي، بل وفي بعض الحالات الأخرى، تصاعدت حدة التوتر لتأخذ أشكالًا أكثر تطرفًا، كما حدث مؤخرًا في واشنطن، في حادث إطلاق نار ما زال قيد التحقيق، سلط الضوء على احتمالات انفلات بعض التعبيرات الغاضبة من السياق السلمي، وهو ما يطرح إشكالية جديدة حول حدود هذه الشعبوية، وأدواتها، ومسؤولياتها. تعيد الحالة الشعبوية المناهضة للاحتلال في العالم إلى الأذهان ما شهدته بداية الألفية من تحولات في الرأي العام تجاه المسلمين عقب أحداث 11 سبتمبر، وإن كان المشهد الحالي مختلفًا جذريًا من حيث الجذور الأخلاقية والسياسية، فالغضب العالمي المتصاعد إزاء إسرائيل اليوم يستند إلى مشاهد موثقة لانتهاكات جسيمة تُرتكب في غزة، وليس إلى تصورات ثقافية أو صور نمطية، وتلعب حركات حقوقية وتقدمية دورًا فاعلًا في تأطير هذا الغضب، وتسليط الضوء على ما يُنظر إليه كسياسات عدوانية يتبناها اليمين الحاكم في تل أبيب ولذا فقد بدأت تظهر ملامح ما يمكن وصفه ب"الإسرائيلوفوبيا"، كحالة من الرفض الشعبي المتنامي تجاه ممارسات الاحتلال، لا كخطاب موجه ضد جماعة أو هوية بعينها، بل كرد فعل على وقائع دامغة ومُعلنة، وثقتها كبريات المنظمات الحقوقية الدولية. الحديث عن الحالة الجديدة، رغم تشابهها مع ما شهدته المجتمعات الغربية بعد أحداث 11 سبتمبر، إلا أنها مختلفة من حيث أنها تستهدف سياسات دولة تمارس الاحتلال وترتكب أبشع الانتهاكات تجاه أفراد أبرياء، وليس بناءً على خلفية دينية أو عرقية. كما أن هذه الحالة جاءت في سياق مشاهد دامية، وثّقتها العدسات ونقلتها الشاشات على مدار أكثر من عام ونصف، وليست مبنية على خطاب سياسي يستند إلى مشهد واحد فقط، ثم يعمم على أكثر من ملياري نسمة. والحديث عن تنامي الغضب في المجتمعات، تجاه فئة معينة، سواء عبر الاحتجاج أو الاستهداف المباشر، يضع الدول في مأزق حرج، حتى وإن كانت الحكومات معروفة بمولاتها السياسية إلى هذا الكيان، فالأمر لم يعد مجرد حديث إنشائي عن قضية بعيدة جغرافيا، يمكن التنظير فيها، وإنما باتت تتلامس بشكل مباشر مع الحالة الأمنية والمجتمعية، وما يرتبط بها من استقرار، أصبح مهددا، وهو ما ساهم بصورة ما في تغيير المواقف، بشكل ملموس، في إطار ما أقدمت عليه دول غربية من الاعتراف بدولة فلسطين، وكذلك التحول الأوروبي الجذري في المواقف، نحو فرض عقوبات على الدولة العبرية، وهو ما يعكس إدراكا عميقا، ليس فقط لواقع القضية في إطارها الإقليمي والدولي، وإنما أيضا في إطار مجتمعي داخلي، في ضوء تمدد تداعياتها إلى عمق أراضيهم بينما يبقى البعد السياسي هو الآخر حاضرا بقوة في المشهد الدولي، مع صعود تيارات اليمين ذو النزعة الشعبوية، والذي وإن كان منحازا للدولة العبرية، تبقى الخلافات جذرية قائمة، حيث تبقى الأولوية لديهم إلى الدولة الوطنية، بعيدا عن أي انحيازات أخرى، وهو ما يبدو في التوتر الواضح في العلاقة بين الرئيس دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فيما يتعلق بوقف إطلاق النار في غزة، وهو الأمر الذي أعرب البيت الأبيض عن رغبته في حدوثه مرارا وتكرارا دون استجابة من تل أبيب. الأمر برمته لا ينفصل عن الداخل الإسرائيلي، والذي بات مدركا أن الحكومة القائمة لا تضع المواطن، سواء في تل أبيب أو خارجها كأولوية، وهو ما يبدو في تجاهل المحتجزين في غزة، بل وقتلهم عن طريق الآليات العسكرية الإسرائيلية، ناهيك عن التداعيات الكبيرة للأحداث على ذويهم في الخارج، في ضوء المستجدات سالفة الذكر، وهو ما يمثل مسارا آخر لا يمكن تجاهله فيما يتعلق بتنامي الحالة الشعبوية المناوئة للسياسات التي تتبناها حكومة نتنياهو. وهنا يمكننا القول بأن أحداث غزة تمثل زلزالا لا يقل في قدرته التدميرية عن أحداث 11 سبتمبر، فإذا كانت الأخيرة قد دفعت نحو حرب عالمية ضد الإرهاب، وتصاعدت إثرها نزعة الصراع بين الحضارات، فإن الانتهاكات الإسرائيلية، كشفت "إرهاب دولة"، مما ساهم في إثراء ما يمكننا تسميته ب"عولمة المقاومة" ضد الاحتلال، في إطار دبلوماسي مع توجه العديد من الدول نحو الاعتراف بفلسطين، وتنامي الإدانات، ناهيك عن التحول إلى فرض العقوبات، بينما اتخذ إطارا شعبيا مع زيادة وتيرة الغضب والاحتجاج ضد سياسات الدولة العبرية داخل المعسكر الغربي المعروف بموالاته لها، وهو ما يعد قابلا للتفاقم، في ضوء المستجدات الأخيرة ولكن تتجاهله حكومة نتنياهو، رغم ما يمثله من خطر كبير على بلاده، فيما يعد امتدادا صريحا لرغبته الملحة في الاحتفاظ بالسلطة، حتى وإن كان ذلك على حساب المواطنين أنفسهم.