رهانات كبيرة خسرها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ بدء العدوان على غزة، ربما أبرزها حالة التعاطف الدولي، والتي لم تتجاوز الأسابيع الأولى من الحرب التي خاضها في القطاع، على خلفية طوفان الأقصى، حيث فقدت زخمها تدريجيا، مع الفشل العسكري، في تحقيق الأهداف، سواء المعلن منها، والمرتبطة بالقضاء على الفصائل وتحرير الرهائن، أو الخفي، وعلى رأسها تصفية القضية الفلسطينية وتقويض الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، بينما تزايدت الانتهاكات بصورة غير مسبوقة، لتضع العالم، وفي القلب منه حلفاء تل أبيب أنفسهم، في حرج بالغ، دفع القادة إلى ممارسة قدر من الضغوط لوقف إطلاق النار تارة، والدعوة إلى حل القضية، وهو ما بدا في سلسلة الاعترافات بالدولة الفلسطينية، والتي انطلقت لأول مرة من أوروبا الغربية، تارة أخرى إلا أن ثمة رهانا آخر، مازال قائما، يتجلى في العلاقة القوية التي تجمع نتنياهو بالرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، في ضوء ما يجمعهم من مشتركات، تتجاوز الثوابت الدبلوماسية القائمة على التحالف بين واشنطن وتل أبيب، وأبرزها الميول اليمينية للرجلين، بالإضافة إلى ما يثار حول صفقات محتملة، تبدو مرتبطة بانطلاق الحقبة الجديدة في الولاياتالمتحدة، وهو الأمر الذي دفع رئيس الحكومة الإسرائيلية نحو تقديم الدعم للرئيس الجديد قبل الانتخابات بشهور معدودة، عبر خطابه الشهير للكونجرس، والذي شهد مقاطعة تامة من قبل الأعضاء الديمقراطيين، وعلى رأسهم نائبة الرئيس، المرشحة الخاسرة للانتخابات الرئاسية كامالا هاريس، والتي تتولى بحكم منصبها رئاسة جلسات مجلس الشيوخ. رهان نتنياهو على ترامب، ربما يحمل الكثير من المنطق، في إطار السوابق التاريخية، التي شهدتها ولاية الرئيس المنتخب الأولى، والتي استهلها بجولة خارجية شملت تل أبيب، إلى جانب الفاتيكان والمملكة العربية السعودية، بينما زخرت بالقرارات التي صبت في صالح الدولة العبرية، وعلى رأسها الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لها، إلا أن الأمور ربما تشهد اختلافا جذريا مع ولاية ترامب الجديدة، خاصة وأن لم تكن ملاصقة زمنيا لولايته الأولى، فالفاصل بينهما 4 سنوات، شهدت الكثير من التفاصيل، التي ربما تفرض معطيات جديدة، أهمها توجس الحلفاء الأوروبيين من سياسات الإدارة الجديدة، ناهيك عن الانقسام الحاصل أساسا بين أوروبا وأمريكا، جراء الاختلاف حول إدارة الأزمة الأوكرانية، وحتى فيما يتعلق بفلسطين، بالإضافة إلى البعد الشعبوي الذي يمثل حجر الزاوية الذي يبني عليه ترامب شعبيته، خاصة في الداخل الأمريكي. فإذا ما نظرنا إلى البعد الأخير، القائم على الشعبوية، نجد أنه تعاطف الشارع العالمي (وهنا أقصد مواقف شعوب العالم)، لم يعد يصب في صالحها، وهو ما يبدو في المظاهرات التي تشهدها عواصم العالم لإبداء التعاطف مع غزة، بالإضافة إلى الاشتباكات التي شهدتها العاصمة الهولندية أمستردام بين مواطنين ومشجعين إسرائيليين مؤخرا على خلفية مباراة لكرة القدم، وهو أحد أهم العناصر التي طالما راهنت عليه تل أبيب طيلة تاريخها، إلى حد تكوين تكتلات موالية لها، يمكنها التأثير على سير الانتخابات وتوجيه بوصلة السلطة في العديد من الدول الغربية، من بينها "الإيباك" في الولاياتالمتحدة. موقف الشارع العالمي، بالإضافة إلى الشارع الأمريكي نفسه، والذي بات لا يقل أهمية عن نفوذ "الإيباك" يمثلان بلا شك دافعا مهما لدى الرئيس الأمريكي المنتخب، لتوجيه بوصلته السياسية، في ضوء الآمال المعلقة عليه لتحقيق السلام، وهو الأمر الذي لن يصل إلى حد التخلي التام عن إسرائيل، وإنما بما يحقق قدر من التوازن، على الأقل فيما يتعلق بحرب غزة، ومنع توسيع نطاقها الجغرافي، بينما يبقى طموحه الشخصي عاملا آخر لا يقل أهمية، في ضوء رغبته في تحقيق إنجاز فشل كافة أسلافه في تحقيقه، وهو السلام في الشرق الأوسط، وهو ما يساهم في مواقف أكثر اعتدالا خلال مفاوضات الحل النهائي. ولعل الأمر الهام الذي لا يمكن تجاهله، في هذا الإطار، هو أن الرئيس الجديد مرتبط بفترة واحدة، وبالتالي فهو غير معنى باستقطاب التأييد المطلق من كافة الدوائر الشعبية في الداخل الأمريكي، وهو ما يعني التحرك جديا نحو صناعة تاريخ دولي، لم يسبقه إليه سوى الرئيس الأسبق جيمي كارتر، والذي وضع بذور عملية السلام في المنطقة، عبر دعم موقف مصر في استعادة كامل أراضيها، خلال مفاوضات السلام في السبعينات من القرن الماضي، وهو الأمر الذي عزز النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، لتكون تلك المنطقة أحد أهم نقاط الانطلاق لحقبة الهيمنة الأحادية، على الرغم مما أدى إليه من حرمان كارتر، بحسب الرؤية الإسرائيلية من ولاية ثانية، وهو ما لن يسعى إليه ترامب من الأساس، بحكم الدستور الذي لن يعطيه ولاية ثالثة. وهنا يمكننا القول بأن رهان نتنياهو على ترامب، يحمل قدرا من المنطقية، بحكم السوابق التاريخية، إلا أن الحاضر وظروفه تبدو مختلفة بقدر كبيرة، وقد تساهم بالتبعية في استدعاء ما يمكننا تسميته ب"شبح" كارتر، في ضوء رغبة ترامب في صناعة تاريخ دولي كبير، لن يجد له قاعدة أفضل من تحقيق السلام في الشرق الأوسط، يمكن من خلالها الانطلاق نحو ترسيخ أفكاره، وتعزيز رؤيته، خاصة وأن التوازن الأمريكي هو الضمان الوحيد للإبقاء على هيمنة واشنطن على القضية المركزية، في ضوء صعود قوى جديدة باتت قادرة على القيام بدور في إطار عملية السلام.