فى مقالاتى السابقة، كثيرًا ما ركزت على ما تعانيه المنظمات من أمراض إدارية، وعلى أهمية أن تهيئ بيئة عمل صحية تدعم النمو والازدهار لموظفيها. لكن ماذا عن الموظف نفسه؟ ماذا لو وجد نفسه محاصرًا داخل بيئة عمل غير مثالية، دون بدائل واضحة أو فرصة واقعية للمغادرة؟ كيف يمكنه أن يستمر دون أن يفقد شغفه أو إحساسه بقيمته المهنية؟ المنظمات ليست كيانات منفصلة عن المجتمع، بل انعكاسا له؛ فهى تضم أفرادًا من خلفيات وسلوكيات وطباع متنوعة، مما يجعل بيئة العمل مرآة مصغرة للتعقيدات الإنسانية التى نراها فى كل مكان، وإذا كانت المجتمعات لا تخلو من التحديات، فبيئات العمل بدورها ليست محصنة ضد التوتر، والصراعات الخفية، وتباين القيم والسلوكيات. بل إن بيئة العمل تُعد فى كثير من الأحيان ساحةً يومية لاختبار سلوكياتنا، وقدرتنا على ضبط انفعالاتنا، نحن لا نواجه فى العمل "المهام فقط"، بل نواجه أنماطًا بشرية متفاوتة فى وعيها، وحدودها، وأسلوبها فى الاختلاف، وهذا ما يجعل من الصعب رسم حدود ثابتة بين "المهني" و"الإنساني" فى تعاملاتنا اليومية. ومن التحديات التى قد نواجهها فى بيئة العمل، أن الأمور قد لا تسير دائمًا كما نرغب، فقد نواجه مديرًا صعب الطباع، أو زملاء لا يتمنون لنا الخير، أو ثقافة تنظيمية لا تُشجع على التعبير ولا تكافئ المجتهد، هذه المواقف كثيرًا ما تدفعنا إلى التفكير فى الهروب وترك الوظيفة بحثًا عن راحة نفسية مفقودة. ولكن، هل الحل دائمًا هو الانتقال إلى مكان آخر؟ أم أن هناك طرقًا أكثر حكمة للحفاظ على شغفنا بما نحب دون التضحية براحتنا النفسية والصحية؟ كم مرة ذهبت إلى عملك وأنت تتمنى أن ينتهى اليوم بسرعة؟ ليس لأنك تكره عملك، بل لأن الجو العام أصبح يضغط عليك، تجلس أمام شاشة الحاسوب شارد الذهن، ليس لأن المهام صعبة، بل لأنك تشعر أنك تبذل مجهودًا فى مكان لا يقدره. هذا التعب لا يرتبط بعدد المهام أو طول ساعات العمل، بل بإحساس داخلى بأنك تعمل فى بيئة لا تدعمك ولا تشجعك. قد يكون الهروب من المشكلة رد فعل طبيعي، لكنه ليس دائمًا القرار الصحيح. لأن تغيير المكان لن يفيد إذا لم نغير من طريقة تفكيرنا، ونفهم أنفسنا جيدًا، ونتعلم كيف نواجه الصعوبات. أيضًا، كثرة التنقل من وظيفة لأخرى بدون وضوح قد تضيع علينا الطريق فى تطوير مسيرتنا المهنية. فى مثل هذه الأوقات، نحتاج إلى أن نفرق بين الإرهاق العابر والإجهاد المزمن، بين التحدى الذى يحفزنا والنزيف النفسى الذى ينهكنا؛ فالهروب قد يبدو مريحًا فى ظاهره، لكنه لا يضمن تحسن الظروف ما لم نغير طريقة إدارتنا للمواقف، وقد تفاجأ بأن الأشخاص أنفسهم الذين تهرب منهم، تجد أمثالهم فى أى مكان آخر. لذلك، فإن الحل الحقيقى لا يكون فى تغيير المكان فقط، بل فى تطوير قدرتنا على التعامل مع الأشخاص الصعبين دون أن نسمح لهم بالتأثير على صحتنا النفسية أو كرامتنا المهنية. وهنا تبرز الحاجة لما يمكن تسميته فى الأدبيات الحديثة ب"الصلابة النفسية المهنية"؛ وهى القدرة على البقاء متزنًا فى بيئة مليئة بالتقلبات، دون أن تتجرد من إنسانيتك أو شغفك، هذه المهارة لا تُبنى بالمواجهة فقط، بل تتطلب وعيًا ذاتيًا، وذكاءً عاطفيًا، ومرونة فى أساليب التكيف. ويُعتبر التوازن بين الصمود الذكى والحفاظ على الذات هو المفتاح؛ فالقوة لا تعنى المواجهة الدائمة، ولا تعنى الانسحاب، بل تعنى أن تعرف متى تصمت، متى تتكلم، ومتى تتحرك، كما أن القوة فى العمل لا تقاس بالصوت المرتفع أو بمواقف الصدام، بل بقدرتك على الصمود دون أن تفقد وضوحك الداخلي. فى النهاية، ليس المطلوب أن نتحمل الإيذاء، ولا أن نقابل الإساءة بالصمت، لكن الحكمة تكمن فى إدارة المواقف دون أن نخسر أنفسنا أو شغفنا. المواجهة الذكية، وتحديد الحدود، وبناء القوة النفسية، قد تكون أنجح من تغيير المكان؛ فالمشكلة لا تُحل دائمًا بالرحيل، بل أحيانًا بالثبات بشروطنا. ولأننا لا نعمل فى الفراغ، فإن العلاقات المهنية التى نبنيها تلعب دورًا كبيرًا فى جودة تجربتنا اليومية، فحتى فى بيئات العمل الصعبة، قد تكون هناك مساحات صغيرة نستطيع من خلالها أن نُعيد بناء توازننا النفسي، من خلال علاقات إيجابية مع زملاء العمل، أو لحظة اعتراف بجهد، أو مُبادرة للتغيير من داخل المنظومة. ويستحق أن نُدرك أن لكل بيئة عمل "صعوبتها الطبيعية"، ولكن هناك فارقًا كبيرًا بين بيئة فيها تحديات طبيعية يمكن إدارتها، وبيئة سامة تنتهك كرامة الفرد وتستنزف طاقته. وهنا، يصبح القرار بالرحيل حقًا مشروعًا حين تفقد المؤسسة قدرتها على احترام الإنسان قبل تقييم أدائه. كما يجب أن نُدرك أنه لا توجد بيئة عمل مثالية تخلو من التحديات البشرية، لكن المنظمات الذكية هى تلك التى تستثمر فى بناء ثقافة تحترم الاختلاف وتُشجع على الحوار، وتوفر مساحات للتفاهم والتعاون بين الأفراد؛ فإدارة السلوكيات داخل بيئة العمل ليست ترفًا تنظيميًا، بل ركيزة أساسية لضمان الاستقرار، وتحقيق الأداء العالي، وتعزيز روح الفريق. ربما لا نملك دائمًا تغيير الظروف من حولنا، لكننا نملك دائمًا تغيير طريقة تفاعلنا معها، وهذه الخطوة الأولى قد تُحدث فرقًا.