الدكتور / رمضان حسين الشيخ يؤثّر العمل بلا أدنى شك في اقتصاديات المجتمعات، كما يؤثِّر كذلك في البيئة الاجتماعية، حيث يطاولها تحسيناً شاملاً ومناسباً لأفراد المجتمع، تحقّق مستويات عالية من القبول، والرضا، وتوفر لهم أجواء معيشية هانئة وكريمة، فضلا عن فتحه مجال الإبداع والإسهام في بناء المجتمع على مصراعيه، ومن ثمّ الشعور بالانتماء إلى مجتمع يعمل وينتج ويتطور، وتوضح الفروق الواضحة والبارزة بين الدول المتقدّمة والدول النامية، توضح كفاية وقدرة القوى العاملة في المجتمع التي تعكس بشكل مباشر ثقافة العمل في المجتمع ومدى التطور الذي وصل إليه. استخلف الله، عزّ وجلّ، الإنسان على الأرض من أجل إعمارها؛ ومن الطبيعي أن يكون العمل، أهم تحدٍ في حياة الإنسانية على سطح المعمورة، وسيظل كذلك حتى يرث الله الأرض، ومَنْ عليها. نحن في بلادنا ليس لدينا ثقافة العمل الجماعي، وليس لدينا فكرة عن مدى تأثير العلاقات بين الأشخاص الذين يعملون في مكانٍ واحد، وكيف يؤثر ذلك في سير العمل وإنتاجية الفرد واضطراب العمل بين العاملين في هذا المكان. هذا أدى إلى أن أكثر العاملين في المؤسسات الحكومية والخاصة لا يُحبون العمل، والذهاب إلى العمل يُشكّل عبئاً على العاملين، حيث يذهبون إلى أعمالهم بنفوس كئيبة، متوترين، ولا أحد يُلقي بالاً إلى هذه النفوس القلقة، المتوترة، المشدودة كالقوس والتي مستعدة عند أدنى توتر إلى الانطلاق والخاسر في جميع الأمور هو المواطن المصري الذي تتعطل مصالحه وقد يكون من السهل إنهاء أعماله فيما لو كان الموظف أو العامل مُرتاحا في عمله، ولو علم رؤساؤه بمدى تأثير الحالة النفسية على العامل والموظف في تحسين الأداء لعلمه ما يعود بالفائدة على المؤسسة والعاملين فيها جميعاً، بما فيهم المدير، الذي يلعب دوراً مهماً في تسيير العمل ويُمثل قائد الأوركسترا في ضبط إيقاع العازفين حتى تخرج المقطوعة الموسيقية متناغمة بعيدة عن النشاز. لذا فإن من أبرز أسباب تقدم المجتمعات المنتجة والدول الصناعية، هو تحقيق ثقافة العمل الجماعي، فالعمل بمنطق فريق العمل فعلاً لا قولاً هو العامل الرئيسي لتحقيق الجودة وتذليل العقبات ومضاعفة الإنتاج وانتفاع الجميع بكلفة أقل وسهولة ويسر، في تقديري لأن التجارب الإنسانية المختلفة - ومنها الإدارية - بنيت على قاعدة ثقافية ما مغايرة للقاعدة الثقافية التي نقف نحن عليها، ومنظومة القيم التأسيسية التي شيدت عليها الأفكار الحديثة للإدارة مختلفةٌ ليس فقط عن منظومة قيمنا نحن؛ بل حتى عن التجارب الناجحة الأخرى بين بعضها بعضاً، ففلسفة الإدارة في اليابان مثلاً مختلفةٌ بشكل أو بآخر عن فلسفة الإدارة في أمريكا، والتجربتان لهما من النجاح حظ وافر. إذن المسألة ليست أن هذه الحلول صحيحة أو خاطئة بالمطلق، بقدر أنها مؤشر عن قدرة الإنسان على إبداع حلول من منطلق الواقع والبيئة المعاشة والثقافة الحاكمة لسلوكياته وعلاقاته مع الآخرين. فالبيئة التي تقوى فيها روح العمل الجماعي وتضعف فيها الأنا تقوم على إشراك مختلف الأطراف ذات العلاقة وأصحاب المصلحة في صنع القرار، ولا ينفرد بصناعة القرار فرد، فالجميع على دراية بالمعلومات دون احتكار، والاجتماعات فيها ليست استدعاء وإصدار أوامر من رئيس لمرؤوس بل لتبادل الأفكار والمعلومات والحلول والمقترحات بشفافية ووضوح وتكامل وإيمان بالرأي الآخر وهناك يبدع فيها الفريق. فهي بيئة يتكامل فيها أعضاء الفريق، ويربطهم تنظيم فعال يتطلع للمصلحة لا سلطوية فيه، فيشارك فيها الجميع فعليا ويشتركون في المسئولية والمكاسب والتكاليف ويجمعهم احترام متبادل لا بخس فيه لأحد ولا مبالغة، بيئة تجمعها مصالح مشتركة لا مصالح فردية متعارضة، بيئة تشجع المواهب الحاضرة وتبعثها في الأجيال الواعدة ولا تصطنع العوائق لوأدها، وهي تبحث عن الأذكياء المجدين للاستفادة منهم وإفادتهم، بوفاء متبادل بين الجميع لا جحود فيه ولا استئثار. وغياب ثقافة العمل الجماعي ينبع من رغبة الفرد في الاستحواذ على ثمار أي نجاح يتحقق في مجال عمله، بل ويسعى لبناء هذا النجاح على أخطاء الآخرين، حيث يحاول إظهار نقاط ضعف من حوله، لكي يؤكد فشلهم نظير ما حققه هو من إنجازات، كما أن الرغبة في فرض الذات جعلت الأفراد يرفضون فكرة العمل الجماعي، خصوصاً عندما يقومون بتقسيم العمل فيما بينهم. وتعتبر مشكلة مجتمعية في المقام الأول والأخير، وهي مشكلة راسخة عبر الأجيال سيستغرق علاجها وقتاً طويلاً. وذلك لابد أن تتضافر جهود المؤسسات المختلفة للقضاء على هذه الظاهرة، عن طريق دعم ثقافة الحوار، والاختلاف مع الآخر بموضوعية، والحث علي الدخول في مناقشة مع الآخرين، والاستفادة من خبراتهم قدر الإمكان، بالإضافة إلي التركيز علي أن غياب ثقافة العمل الجماعي سيؤدي دائما إلي تحقيق نجاح مجزأ وبطيء. إن المجتمعات التي ترغب في التقدم تحتاج إلى بيئة مجتمعية متعاونة مبدعة من خلال مختلف وسائل الإعلام والثقافة والتعليم والإنترنت والفضائيات ووسائل الإعلام والكتب والمقررات الدراسية والقوانين التي تسعى إلى نشر قيم ومعتقدات ثقافة العمل الجماعي ومأسسته للوصول إلى القيمة الجوهرية لهذه الثقافة المتمثلة في تحقيق المصلحة الجماعية فهي تأبى الزعامات الفردية، فجميع الأفراد فيها يكسبون معا أو يخسرون معا؛ هناك تتراجع ثقافة المباريات الصفرية التي تعني أن مكسب فرد خسارة لفرد آخر، وتتراجع قيمة الفردية التي تنتشر في المجتمعات الأقل تقدما؛ فثقافة فريق العمل الجماعي تقود الجميع إلى سيادة روح الفريق التي تجعل أعضاء الفريق يتبادلون الأدوار بشكل منسق وبطريقة تكاملية تقود للنجاح والتقدم. والمجتمعات المعاصرة المتقدمة طورت ذلك بتطبيق الفكر المؤسسي في الإنتاج وإدارة الناس وهو مرحلة نضج ثقافة العمل الجماعي. الفكر المؤسسي تعني إنتاج القرار ضمن هيكل مؤسسي لا أفراد؛ فنحن أمام نظم وقواعد واستراتيجيات يطبقها جميع الموجودين الحاليين والمستقبليين في المؤسسات العاملة، فالنظم والقواعد هي التي تحكم العمل وليس الأفراد هنا يتحقق الاستقرار للجميع، فلا يكون معها تصلب ولا جمود ولا تسيب وفساد؛ ومن الممكن تغيير هذه النظم والقواعد من وقت لآخر حسب الحاجة بمشاركة موسعة من جميع أفراد مجتمع المؤسسة العاملين فيها أو المتعاملين معها. والمؤسسية تعني وجود استراتيجيات تسير عليها المنشأة بثبات ومرونة لفترات طويلة، لا يتغير تطبيقها بتغير الأفراد، ولا تعني الجمود بل تأخذ بالتغيير التدريجي المحقق لمصلحة الجميع وليس التغيير الفردي الذي قد يتسبب في العديد من المخاطر. والمؤسسية تطبق وظائف الإدارة بتقنية عالية من تخطيط وتنظيم وتوجيه وتنفيذ ورقابة وتغذية عكسية لإعادة التخطيط والتنظيم، فهي تمارس الإدارة بمهنية عالية واحتراف؛ ويتوافر لديها الاطمئنان الكافي للحصول على كافة الحقوق؛ بما يضمن العدالة للجميع وتكافؤ الفرص؛ وليس هناك من يتحكم في جميع الأمور بل مجتمع المؤسسة والمتعاملين معها هو من يقرر القواعد والنظم والاستراتيجيات التي تتغير بتغير الظروف المؤثرة. إن المؤسسية عكس الفردية التي غالباً ما تسبح بالمنشأة ومجتمعها في بحر الفوضى والانهيار في النهاية؛ فهي ضمان لاستقرار وتقدم المنظمة ومجتمعها بعيداً عن الفساد والقرارات العشوائية، لأنها تقدم رؤية المنظمة لنفسها ولمجتمعها، كما تقدم رسالة المنظمة ومهامها التي تعمل المنظمة على تنفيذها لتحقيق رؤية المنظمة نحو ازدهار المنظمة ومجتمعها. فالمؤسسية تضمن إدارة فعالة وكفاءة عالية لرأس المال البشري والمادي وللعمل ولضغوط العمل وللوقت ولنزاعات المنظمة الداخلية والخارجية، كما تضمن فعالية وكفاءة إدارة المعرفة وإدارة التطوير؛ بما يحقق التقدم المنشود للمنظمة ولمجتمعها ويقلص حجم الفساد الممكن ويوسع الوعي عمليا بثقافة العمل الجماعي. وجميعنا يدرك منذ زمن في مصر أن كل شيء مرهون بشخص ما، هو الذي يخطط ويفكر، وعلى الآخرين التنفيذ دون أدنى مشاركة بالرأي، فإذا أسفرت الخطة عن نجاح، ينسبه الشخص سواء كان مديراً أو رئيساً أو وزيراً لنفسه، وإذا فشلت الخطة وتسببت في كوارث تحيط بنا من كل الجهات، كان القائمون على التنفيذ هم السبب، لأنهم ليسوا على مستوى الإعجاز أو الإلهام الذي تنطوي عليه خطة المسؤول، لذا فأن النجاحات في مصر الحبيبة فردية، لذلك يتأثر أي نجاح بمجهود القائم عليه، وعندما يقل المجهود المبذول لا نجد من يكمل إنجاز هذا النجاح، الذي قد يموت بموت صاحبه، وقد نجد في مصر منظومات للعمل الجماعي، لكن منشأها يكون فردياً، مما أدى إلى ضعف الإنتاج وتراجع معدلات التقدم، خصوصاً في مجالي الزراعة والصناعة، رغم أنهما قاعدتان أساسيتان في بناء حضارات الشعوب، لذلك يجب علينا إجادة اختيار القيادات العليا، التي تضع خطط العمل الجماعي، ويكون اختيارهم بصورة ديمقراطية حتي يتقبل الأفراد قراراتهم ويستجيبون لتوجهاتهم. إذ ما من شك أن الاعتياد على العمل الجماعي يبدأ من مؤسسة الأسرة والتي تقوم في مجتمعنا على تبادل الأدوار بين الأب والأم واغفال الأبناء، ويزداد الأمر سوءا برفض الأب والأم مشاركة الأبناء في اتخاذ القرار سواء الذي يخصهم أو يخص الأسرة، وهذا سبب كبير يؤدي إلى غياب العمل الجماعي. لذا فإن الأسرة عليها مراعاة تدريب الأبناء على العمل الجماعي من خلال اشراكهم في القرارات الأسرية.. فضلاً عن دور المدرسة في تدريب الصغار على اللعب التعاوني ما يساعد على تنشئة جيل جديد يقدر فريق العمل ويتميز فيه ولكي يحدث ذلك ينبغي تدريب الصغار على التعاون من خلال توزيع مهام متساوية من خلال مشاريع مدرسية جماعية مع ضرورة تميز الأكفاء حتى لا يفقد المتميز حماسه فضلا عن خلق روح التنافس الشريف، فإذا اعتاد الطفل على العمل من خلال فريق موحد نجح في التعاون مع زملائه في الكبر. عزيزي القارئ.. ما أحوجنا إلى إعلاء قيمة العمل الجماعي وإلى تطبيق شعار الأمل مع العمل، وذلك بعد أن تبين يقينا بأن تقدم وتطور الشعوب من حولنا لم يأت اعتباطا، ولكن بالعمل الجماعي الدؤوب المدروس، وأن نهضة الأمم تتحقق بالعمل بروح الفريق والتخلي عن الذاتية والأنانية الفردية، وأن الولاء للخالق وللوطن يعني التفاني في أداء واجب العمل وليس في الاستكانة والتقاعس والإهمال والتواكل والتبعية..! وبعث ثقافة العمل الجماعي في مجتمعاتنا، تستدعي بث روح العمل وقيمته في نفوس أطفالنا ونشأنا وشبابنا بنشر ثقافته، وبإظهار القدوة أمامهم من أجل ضمان تقديرهم، وتدريبهم على العمل منذ الصغر، وكذا التأكيد على سياسة الثواب والعقاب في مجالات العمل المختلفة لضمان الجدية في التنفيذ، جنباً إلى جنب مع تشجيع العمل الخلاق وتفجير الطاقات الإبداعية من داخل الأفراد، وعدم الاعتماد على مجرد الأداء التقليدي الرتيب للعمل. فالعمل الجماعي يمثل القوة للفرد وللمجتمع، ويسعى إلى التغيير الإيجابي للطرفين، نلاحظ بإن اقوى المجتمعات هي المجتمعات الموحدة والمجتمعة على رأي وقرار واحد، والمتعاونة فيما بينها، فالمجتمع الموحد هو مجتمع ذا هيبة على المتربصين والأعداء، فالعدو بطبعه يخاف أن يخطو نحو الأقوام المتعاونة والمتفقة على كلمة وفعل واحد، كما ان من الصعب جداً هزيمتهم. ولنتذكر جميعاً المقولة التاريخية لنابليون "إن اثنين أو اكثر من الناس ينهمكون في ملاحقة هدف محدد يشكلون قوه لا تهزم" اذن لكي ننجح كمجتمع ليكن شعارنا "بالتعاون ووضع اليد باليد ننجز ونصنع وننتج اكثر وأكثر باذن الله" ويجب أن تكون لدينا ثقافة العمل الجماعي وان النجاح المجتمعي هو الغاية وان نجاح الفرد لوحده لا يحقق سبيل نجاح المجتمع وتقدمه. والاعتقاد في العمل الجماعي يعتبر من شروط التحرر من الفقر الفكري وضعف خصوبة الحلول الاجتماعية. الدكتور / رمضان حسين الشيخ متحدث تحفيزي وموجه شخصي ومهني باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة الخبير الدولي في التطوير المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي مصمم منهج فرسان التميز لتغيير فكر قادة المؤسسات [email protected]