ما أصعب أن يستبد الحزن بخيوط الأمل، ويتسلل الغروب إلى النفس، ويصبح شروق الشمس مستحيلاً، ويبدأ الإنسان أياما جديدة كلها ألم وشقاء، ويعيش حياته بلا طعم أو أمل.. هكذا بدأت حديثها معى هدى ابنة العشرين ربيعاً ودموعها لا تفارقها، وحزنها وألمها يعيشان بداخلها، وهى التى لا تزال صغيرة على حمل الهموم وتجرع كؤوس اليأس، لكنهم زحفوا إليها مبكرا وجعلوها ترى تغريد الطيور كنعيق البوم، وقطرات الندى كسموم الأفاعى، والابتسامة زيفاً وخداعاً، والأمل فقاعات تبددها نسمات الهواء ولا يشعر بها أحد. وترى أن الضمير قد مات، والقلوب تحجرت، والإحساس قتل بين الناس وباتت نفوسهم ملأى بالشر.. أفصحى يا أختاه عما يختلج بصدرك.. بداخلى كلمات وحروف لو نطقت بها لتمزقت القلوب ولحارت الألباب.. فأنا ثائرة كالبحر.. سأحطم بأمواج غضبى كل من يجرح مشاعرى ويدوس قلبى ويهين كرامتى.. سأجعل كل حرف هو صمتى ولكنه قوتى التى أضىء بها شموع حياتى من جديد، رغم أننى أذرف الدمع بصمت حتى لا تشعر به وحدتى. انفصل والدى عن والدتى وعمرى ثلاث سنوات واختار كل منهما طريقاً له يسعد ويؤنس به حياته.. وأنا الوحيدة التى ظلمت بينهما منذ صغرى.. احتضنتنى جدتى وكانت قاسية من فرط خشيتها على ولكن لا خيار لى فى حياتى، هكذا أراد لى ربى.. قررت أن أجتهد وأدرس لأثبت ذاتى وأنشئ لحياتى عالماً يخصنى.. كان الجمال هبة ربى لى، والأخلاق والأدب سلاحى، ودراستى هى غايتى ولا يشغلنى شىء سواها.. آه يا أستاذتى.. ما أصعب الحياة عندما تفرقك وتبعدك عن أهلك وخلانك فلا تجدين قلبا يصغى إليك أو يشعر بك، ولا تستطيعين أن تميزى بين ضربات القلب ونبضات الألم وإيقاعات الحزن. كنت عطشى للحب والحنان ولنبضات قلب أهلى، وتمنيتهم أن ينثروا الحب على ولكنهم كانوا مشغولين عنى بحياتهم الخاصة، متناسين لفلذة كبدهم التى حرموها من حياة السعادة والاستقرار. أصبحت شابة رائعة الحسن والجمال يتمنى الجميع وصالها، لكن طموحى بدراستى وعلمى شغلنى عن حلم كل فتاة.. كان يتعرض لى فى ذهابى وعودتى من مدرستى وهو ابن منطقتى.. شاب وسيم وغنى إلا أننى لا أحبه ولا أطيق أخلاقه المنحلة ومغامراته الطائشة مع الفتيات.. حاول كثيرا معى لكنه لم يفلح.. وأخيرا تقدم لخطبتى لكننى عارضت بشدة رغبة جدتى وأبيت الزواج منه.. فدراستى هى الأهم وهو إنسان غير جدير بالثقة والاحترام.. حصلت على شهادتى وانتسبت للجامعة بفرع الهندسة الذى أحبه.. وتفوقت بدراستى.. وفى العام الثانى توفيت جدتى وبت وحيدة.. وهنا بدأ أهلى بمضايقتى.. عليك بالزواج فورا.. وعارضت وعارضت.. ثم رضخت أخيرا للأمر. وعاد هذا الشاب لخطبتى فرحب به أهلى رغم معارضتى.. وتجاوزت محنتى وصرت زوجة له وعاهدت ربى أن أكون له نعم الزوجة.. وبعد يومين من زواجنا فاجأنى بورقة طلاقى.. بربك ماذا فعلت؟! سأرد إهانتك لى عندما تمنعت عنى وعندما رفضت خطبتى.. ولكنى كنت أصون نفسى لمن سيكون زوجى.. وها أنت أصبحت زوجى.. كلا، بل تعمدت إذلالى وها أنا أنتقم منك.. أرجوك ماذا ستقول الناس عنى؟!.. أريد تلويث سمعتك وسأدع الجميع يحتقرونك ويشكون بأخلاقك.. وسأدمر حياتك وعندها ستعرفين من أنا. نظرات أهلى وجيرانى قتلتنى.. هجرت بيت زوج أمى.. وذهبت للإقامة مع خالتى ولكننى شعرت أنى ثقيلة عليها.. فأصبحت أجد فى البحث عن عمل لكى أعول نفسى ولكن دون جدوى.. وأكثر ما كان يعذبنى تلك النظرات غير البريئة التى كان يرمقنى بها أرباب الأعمال عندما كانوا يعلمون أنى مطلقة ووحيدة.. وكلما كنت أتعرض للمضايقة من أحدهم كنت أترك له العمل وأعود لأبحث عن عمل جديد.. وبسبب ذلك كرهت جمالى.. وعلمت أنه بات نقمة على لا نعمة.. حتى إنى كرهت النظر إلى وجهى فى المرآة.. حاولت أن ألتحق بدورات تدريبية لكى أطور من نفسى وأتمكن من الحصول على فرصة عمل أفضل ولكن ما معى من مال كان لا يكفى.. فأفقت على واقعى المرير.. فتاة مطلقة وبلا مؤهلات ولا خبرات وبلا سند يحمينى وبلا مال يقينى شر الحاجة، كل ما أملكه هو جمالى الذى جعلنى مطمعاً لأصحاب القلوب المريضة والضمائر الميتة.. فاضطررت فى نهاية المطاف إلى الالتحاق بهذا العمل البسيط عندك لأعيش منه وأكمل دراستى وأبنى مستقبلى الذى كاد أن يضيع منى.. فهل هذا جزائى يا سيدتى لأنى حافظت على شرفى أم أن الذنب ذنب أهلى الذين نسونى وانشغلوا عنى.. لكن أحمد الله أننى متسلحة بحفظ القرآن وبمعرفة ربى فهو معى سيرعانى ويحمينى. بكيت من أجلها وعاهدت ربى أن أكون أختا لها لأحميها من ظلم هذه الحياة.. فالذنب ليس ذنبها.. ولكنه ذنب الأهل الذين يلهثون وراء ملذاتهم ومتعهم الخاصة مضحين بأبنائهم وفلذات أكبادهم دون أدنى شفقة أو رحمة.. فليرحم الآباء أبناءهم كى يستحقوا رحمة الله والنجاة من عقابه يوم لا ينفع الندم.