في عالمٍ تحكمه القوة، وينتصر فيه المتلاعبون بالحقائق على حامليها، لا عجب أن نجد أمثال دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو في الصدارة. ليس لأنهما يمتلكان رؤية سياسية، أو لأنهما قادة عظماء، بل لأنهما يجيدان المزج بين إراقة الدماء وفن التلاعب بالعقول، وصياغة الأكاذيب حتى تصبح أكثر رسوخًا من الحقيقة ذاتها. إنهما لا يخوضان الحروب في الميدان فقط، بل في الإعلام، في العناوين الكبرى، في التصريحات النارية، في تحويل الباطل إلى حق، والحق إلى جرمٍ يستوجب العقاب. لا يحتاجان إلى الجيوش ليحققوا مآربهم، فالكلمة عندهم أقوى من السلاح، والتكرار المستمر للكذب أكثر فتكًا من الرصاص. الدم أولًا، ثم الأكاذيب ترامب، رجل بلا مبادئ، تاجر قبل أن يكون رئيسًا، لا يرى في العالم سوى صفقات يمكن أن تُعقد أو تُلغى، دون أدنى اعتبار للأخلاق أو القوانين. لم يكن رئيسًا عاديًا، بل كان نسخة حديثة من الطغاة الذين حكموا العالم بالحديد والنار، لكنه فعلها بأسلوب مختلف، بأسلوب يليق برجل يفضل الخداع على المواجهة، ويؤمن بأن الكذبة إن كررتها ألف مرة، أصبحت حقيقة. لقد جعل من إدارته سوقًا مفتوحة للمصالح الإسرائيلية، قدّم لهم كل شيء دون مقابل، بدءًا من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، إلى شرعنة الاستيطان، إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر ما سُمّي ب "صفقة القرن"، التي لم تكن إلا محاولة لدفن الحق الفلسطيني إلى الأبد، إلى محاولة تمرير تهجير الفلسطينيين من غزة كمحاولة اخرى لتصفية القضية. أما نتنياهو، فهو قاتلٌ من طراز مختلف، قاتلٌ يبتسم أمام الكاميرات، ويلقي الخطب عن السلام بينما يُطلق جنوده الرصاص على المدنيين، يحتفي بدولة "متقدمة"، بينما يبني جدارًا من الدم يفصل بين "البشر" و"غير البشر" حسب منطقه العنصري. الفخ الإعلامي: محاولة عزل فلسطين وشيطنة الأردن في السياسة، هناك قادة يصنعون التاريخ، وهناك آخرون يزيفون صفحاته، يعيدون كتابته وفق هواهم، ويخلقون سرديات جديدة، تخدم مخططاتهم وتبرر جرائمهم. بالأمس، قدّم دونالد ترامب مثالًا جديدًا على هذا النهج، حين حاول، عبر تصريحات ماكرة، أن يوقع الأردن في فخ إعلامي، ليبدو وكأنه شريكٌ في مخطط تهجير الفلسطينيين، وكأن هناك موافقة عربية ضمنية على هذا المشروع الإجرامي. لم يكن هذا التصريح زلة لسان، ولم يكن عفو الخاطر، بل كان خطوة مدروسة ضمن استراتيجية طويلة الأمد، تهدف إلى شيطنة الأردن، وإخراجه من معادلة الدفاع عن فلسطين، تمهيدًا لتمرير مخططات التصفية. كان الهدف واضحًا: خلق شرخٍ بين الفلسطينيينوالأردن، وإظهار القضية الفلسطينية وكأنها "مشكلة عربية داخلية"، وليست جريمة استعمارية ارتكبتها إسرائيل بدعم غربي. لكن الأردن، بوعيه السياسي، لم يسقط في الفخ، وجاء الردّ سريعًا وقويًا عن طريق وزير خارجيتها، ليؤكد أن فلسطين ليست للبيع، وأن المواقف لن تتغير تحت أي ضغط أو إغراء. غير أن الضرر قد وقع، فالكذبة، حين تُطلق، تظل عالقة في الأذهان، وتحتاج إلى جهدٍ كبير لدحضها، لأن الخداع الإعلامي، كما يعلم ترامب ونتنياهو جيدًا، ليس مجرد كلمات تُقال، بل معركة تُخاض على العقول والوعي العام. ترامب ونتنياهو: القتلة الذين يكتبون التاريخ بأكاذيبهم على مدار التاريخ، عرف العالم طغاة دمويين، حكامًا قساة، سفكوا الدماء وأحرقوا المدن. لكن ترامب ونتنياهو يمثلان جيلًا جديدًا من الطغاة، طغاةً لا يقتلون مباشرة، بل يجعلون الأكاذيب تقوم بالمهمة عنهم. إنهما لا يحملان السلاح، بل يرسلان الكلمات كرصاصٍ مسموم، يحرفون الواقع، ويعيدون تشكيل الإدراك، حتى يصبح الاحتلال دفاعًا عن النفس، والمجازر إجراءات أمنية، والقتل ضرورة لحماية "الديمقراطية". ترامب، تاجر العقارات الذي لم يكن يومًا رجل سياسة، رأى في الرئاسة فرصة لعقد أكبر صفقاته: بيع فلسطين لإسرائيل على مرأى ومسمع من العالم. لم يكن قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل مجرد خطوة دبلوماسية، بل كان جزءًا من مخطط متكامل لتصفية القضية الفلسطينية. أما نتنياهو، فهو زعيمٌ لم يعرف غير الحروب، ولا يؤمن إلا بالقوة. رجلٌ بنى حياته السياسية على أشلاء الفلسطينيين، يقتل، ثم يبرر، ثم يعيد الكرّة، مطمئنًا إلى أن أحدًا لن يحاسبه، ما دام الإعلام العالمي شريكًا في الجريمة. التوقيت القاتل: تمرير الجرائم تحت ستار الأزمات في السياسة، ليس المهم فقط ما تفعل، بل متى تفعل. ترامب ونتنياهو يدركان هذه القاعدة جيدًا، ويستخدمانها بحرفية مميتة. نتنياهو يعلم أن أي إعلان عن بناء مستوطنات جديدة سيثير موجة استنكار دولي، لذا يمرره خلال الحروب، حين تكون الأنظار مسلطة على الضحايا والمجازر، وعندما يكون الإعلام مشغولًا بإحصاء أعداد القتلى، لا بمراقبة السياسة الإسرائيلية على الأرض. أما ترامب، فكان أستاذًا في هذه اللعبة. متى أعلن قراراته الأكثر عنصرية؟ خلال احتجاجات كبرى في أمريكا، خلال كوارث طبيعية، خلال فضائح سياسية، حيث تكون الأضواء مسلطة في اتجاهٍ آخر، فيمرر ما يريد دون مقاومة تذكر. خلق الأعداء الوهميين: كيف يحرفون الأنظار عن جرائمهم؟ حين يفشل السياسي في تحقيق إنجازات حقيقية، يحتاج إلى خلق عدو وهمي، يُحمّله مسؤولية كل الإخفاقات، ويحول الغضب الشعبي نحوه. ترامب جعل من المهاجرين تهديدًا لأمريكا، من المسلمين خطرًا على الحضارة الغربية، من الصحافة "عدوًا للشعب"، حتى يبرر قمعه وهجومه على الحريات. أما نتنياهو، فقد جعل من الفلسطينيين خطرًا وجوديًا على إسرائيل، استغل "حماس"، و"إيران"، وكل أعداء إسرائيل الحقيقيين أو المصطنعين، ليجعل الشعب الإسرائيلي في حالة خوف دائم، حتى يقبل بسياساته الاستيطانية والعسكرية دون مقاومة. فرض السردية بالقوة: كيف تصبح الأكاذيب حقائق؟ ليس المهم فقط أن تكذب، بل أن تجعل كذبتك تُعاد على أسماع الناس حتى تصبح مألوفة. إسرائيل لم تعد "محتلًا"، بل "دولة تدافع عن نفسها". الاستيطان لم يعد "سرقة أراضٍ"، بل "حقًا تاريخيًا". الفلسطينيون لم يعودوا "ضحايا"، بل "إرهابيين محتملين". هذا ما يفعله أعلام ترامب ونيتنياهو كل يوم، يكرّر الأكاذيب حتى تتحول إلى حقائق لا تقبل الجدل. مصر: الحصن الأخير في وجه المؤامرات وسط هذه المؤامرات، تبقى مصر هي الحصن الأخير الذي يقف في وجه المخطط، الدولة الوحيدة التي لم تُساوم، لم تُبع، لم تخضع للابتزاز، ولم تتاجر بالقضية الفلسطينية كما فعل البعض. لم يكن موقف مصر وليد اللحظة، بل هو امتدادٌ لتاريخ طويل من الدفاع عن الحق الفلسطيني. منذ النكبة، كانت مصر أول من فتح أبوابها للاجئين، أول من قاتل في ساحات المعارك، أول من قدّم الدماء فداءً لفلسطين، وأول من رفض المساومات، حتى عندما كان الثمن حصارًا اقتصاديًا وضغوطًا دولية لا تتوقف. واليوم، تقف مصر، قيادةً وشعبًا، في مواجهة الخداع الإسرائيلي – الأمريكي، تدرك أن القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع سياسي، بل قضية هوية، معركة وجود، معركة بين العدل والظلم، بين الاحتلال والتحرر. ولأن مصر ليست كأي دولة أخرى. ومصر لا تقف على الحياد، لا تستطيع أن تكون متفرجة، فالقضية الفلسطينية ليست مجرد قضية سياسية بالنسبة لها، بل هي جزء من الأمن القومي، جزء من التاريخ، جزء من الدماء التي سُفكت على أرض سيناء، وعلى أسوار القدس، وفي شوارع غزة. لقد حاولوا رشوتها، حاولوا تهديدها، حاولوا الضغط عليها، لكنها لم تتزحزح. لم ترضخ للضغوط، لم تُبع، لم تتنازل. واليوم، مع تزايد المؤامرات، تؤكد مصر، قيادةً وشعبًا، أنها لن تسمح بتمرير أي مخطط لتصفية القضية الفلسطينية، حتى لو بقيت وحدها في هذا الميدان. كيف نكسر دائرة الأكاذيب؟ * فضح الأكاذيب فورًا، وعدم السماح لها بالانتشار. * إعادة توجيه النقاش إلى القضية الحقيقية: الاحتلال، العدوان، الفساد السياسي. * رفض المصطلحات المضللة، وإعادة توصيف الأمور كما هي: إسرائيل كيان استيطاني محتل. * الحفاظ على الموقف العربي الموحّد، ومنع إسرائيل وأمريكا من خلق انقسامات مصطنعة. وفي النهاية،ان الحقيقة ليست فقط ما نقوله، بل ما نرفض أن يتم طمسه. والتاريخ ليس مجرد ما حدث، بل ما نختار أن نتذكره ونقاوم نسيانه.