عندما يتوهج العقل تبدأ مسيرة الحضارة الإنسانية، وتنطلق شعلتها، وعندما يخبو بريقه ويصاب بالعلل والأمراض، ويكبل بأثقال الجهل والتعصب، ويتعلق بالأساطير والخرافات، يكون ذلك بداية للسقوط والتداعى والانهيار. ومن هنا كان توجه الأمم التى تريد بناء حضارتها ورسم مستقبلها، بأن تضع بناء عقول أبنائها على سلم أولوياتها، فتوجه له جل اهتمامها، وتسخر له كل إمكاناتها، فتصوغ البرامج التعليمية والتربوية القادرة على بناء هذه العقول، بما يمكنها من أداء دورها فى هذه الحياة وبناء رؤيتها، واسترداد شخصيتها والخروج من حالة الشلل والعجز عن الفعل المسيطرة عليها. ومن الأمراض التى تصاب بها بعض العقول فتكون معوقاً فى طريق النهضة ما يمكن أن نطلق عليه (عقلية الانبهار)، ونقصد بها الحالة التى تتجسد فى بعض من ينتسبون لحزب سياسى أو جماعة دينية، فينظرون لكل قول أو فعل أو تفاعل مع حدث لهذا الحزب أو تلك الجماعة بانبهار تام، وإعجاب مدهش، مع إضفاء درجة من التقديس أو التنزيه على القرارات أو التصورات، فكل فعل فتح قريب، وكل قرار حل سحرى للمعضلات والمشكلات، فلا يعترف بخطأ، ولا يتهمها بعيب ولا بنقص، فهم يرون أن رأى حزبهم أو جماعتهم هو الحق، ودونه على الباطل، جاعلين إياه فوق النظر النقدى أو المراجعة الحقيقية، فلا ينظر فى مدى صواب الخطوات وسلامة السير وصحة المواقف. ويمقتون أى لون من ألوان المراجعة والتصحيح، بل إنهم يعدون ذلك فى كثير من الأحيان جريمة ومروق، وينعتون من يفعل ذلك بالخارج عن الالتزام الحزبى، أو المارق من البيعة. وقد يوالى ويعادى على أساس موقف الآخرين وموافقتهم أومخالفتهم لحزبه أوجماعته. وقد تستفحل هذه الحالة فيصل هذا الانبهار بالمرء إلى حد العَمَى عن إدراك الحق، فتصير معوقا ذاتيا، يحجب عن الفرد الرؤية الواضحة للأمور، وتمنعه من النظر فى الأحداث، وتعوقه عن المشاركة الفعالة فى بناء أمته ورقى مجتمعه. وآفة هذه الحالة أنها تنتج جسماً خاملاً وعقلاً تنفيذياً معطلا عن الانتاج والإبداع، عقلا قانعا بما لديه الآن، أو بما تحصل عليه من مكتسبات، حتى ولو كانت وهمية، أو دون المتوقع والمأمول، ولا يطمع لما هو أعلى من ذلك، ولا يرغب فى تطوير آلياته ووسائله، عقلا فاترا قابلا للاستسلام الخاضع لكل مقولة أو رأى دون تمحيص أو مراجعة، يقف عندها مبرمجا لا يتقدم ولا يتأخر ولا يضيف، عقلا لا يعترف بالخطأ أو القصور أياً كان مصدره ومنشأه، بل يدافع عنه، ويلبسه ثوب الصواب، فلا يسعى للتصحيح والتحسين، عقلاً مفرقا لا يتحمس لمساندة جهود وأدوار الآخرين من الأحزاب والجماعات التى تحمل هم هذا الوطن الذى نتشارك فيه جميعا. إن ما نلحظه الآن من بشائر النهضة لم يزل فى حاجة إلى كثير من الجهد وكثير من العمل وإلى عدد من كبير من الأفكار والوسائل والرؤى التى يمكن بواسطتها إعادة صياغة تشكيل وبناء عقول أبناء هذه الأمة، ليكون كل فرد من أبنائها قادراً على المشاركة برأيه وفكره فى كل قضية صغرت أم كبرت، دقت أم عظمت، قادرا على المشاركة الفعالة فى إدارة دفة المجتمع، ومساهماً فى بناء حضارة ورسم مستقبل أمته. فإن النهضة الحقة لا تتحقق بعقول عليلة، والنصر لا يتحقق بعقول عقيمة