واصل الكاتب البريطانى الكبير روبرت فيسك اهتمامه بالعدوان الإسرائيلى على قطاع غزة المستمر منذ 13 يوماً، وفى آخر مقال له بجريدة الأندبندنت، وتحت عنوان "سنسأل لماذا يكرهون الغرب"، ألقى فيسك الضوء على واقعة ضرب إسرائيل لمدراس فلسطينية تابعة للأمم المتحدة، مستنكراً الصمت الدولى تجاه التجاوزات الإسرائيلية المستمرة، فإلى نص المقال: إذن، مرة أخرى تفتح إسرائيل بوابات الجحيم على الفلسطينيين، مضرجة يدها بدماء 40 مدنياً فلسطينياً لجأوا إلى مدرسة تابعة للأمم المتحدة. ولا يعد هذا نتاج عمل سيئ لليلة واحدة فى غزة من قبل جيش يؤمن "بطهارة السلاح". ولكن لماذا ينبغى لنا أن ندهش من سوط قوة غشيمة لا تعرف الرحمة؟ هل نسينا مقتل 17.500 فلسطينى معظمهم من الأطفال والنساء قامت إسرائيل بإباداتهم من على ظهر الحياة فى محاولتها الفاشلة لغزو لبنان عام 1982، أم هل نسينا مصرع 1.700 مدنى فلسطينى فى مذبحة صبرا وشتيلا، أم هل غابت عن ذاكرتنا مذبحة قانا عام 1996 والتى راح ضحيتها 106 لاجئين لبنانيين، أكثر من نصفهم أطفال، وضحايا مذبحة لاجئ "مروحين" عام 2006 فى قاعدة تابعة للأمم المتحدة، الذين طردتهم إسرائيل من منازلهم ليواجهوا طائرات الموت الإسرائيلية، ويلقوا حتفهم أمام مرأى من العالم الذى لا يعرف سوى لغة الصمت، أم هل غفلنا عن مقتل ألف مدنى لبنانى جراء قصف إسرائيلى ظالم وقت الغزو اللبنانى عام 2006؟ ولكن ما يدعو للمفارقة الحزينة هو أن العديد من القادة الغربيين، ومنهم الكثير من الرؤساء ورؤساء الوزارات، وأيضا العديد من المحررين والصحفيين، قد صدقوا "الكذبة القديمة"، وهى أن إسرائيل تتخذ عناية فائقة فى تجنب سقوط ضحايا مدنيين. وبالطبع وكما هو المعتاد، قام سفير إسرائيلى آخر بإدلاء التصريحات المخلصة قبل ساعات قليلة من مذبحة غزة قائلاً: "إسرائيل تبذل كل ما فى وسعها ولا تدخر جهداً فى تجنب سقوط الضحايا المدنيين". ويجب أن يعلم كل رئيس ورئيس وزراء يكرر هذه الكذبة الإسرائيلية، والتى تستخدم كعذر لتجنب الإذعان إلى اتفاقية وقف إطلاق النار، أن دماء نساء وأطفال مجزرة ليلة أمس لن تجف أبدا من على أيديهم. والحقيقة الحزينة هى لو أن الرئيس الأمريكى، المنتهية ولايته، جورج بوش امتلك قليلا من الشجاعة ليطلب وقفا فوريا لإطلاق النار لمدة 48 ساعة قبل وقوع تلك المذبحة البشرية أمس الثلاثاء، كان من الممكن إنقاذ حياة أربعين شيخاً وسيدة وطفلاً، والتى ضاعت هباء على أيد لا تعرف الرحمة. ما حدث مساء أمس ليس فقط يدعو للخزى، وإنما هو وصمة عار تلطخ تاريخ البشرية. هل يكون توصيف "جريمة حرب" كافياً لوصف تلك المجزرة؟ نعم، لأنها كانت سيتم وصفها كذلك لو أن حماس هى التى كانت قامت بارتكاب هذا العمل الوحشى. وأخشى هنا أن أقول إنها كانت بالفعل جريمة حرب. فلا أملك سوى قلمى الساخر لأعبر به عن رد فعلى بعد تغطية الكثير من عمليات القتل الجماعى من قبل جيوش الشرق الأوسط – سواء كانت تلك الجيوش تتمثل فى الجيش السورى أو العراقى أو الإيرانى أو الإسرائيلى. وتدعى إسرائيل إنها تخوض حربا ضد "الإرهاب الدولى"، بل وتدعى إسرائيل أنها تحارب فى غزة من أجلنا، من أجل المثل والرموز الغربية التى نعتد بها كثيراً، تحارب من أجل أمننا وسلامتنا ومعاييرنا. إذا فنحن أيضا متواطئون فى البربرية التى تعانى منها غزة الآن. وقد قمت فيما مضى برصد الأعذار التى تستخدمها إسرائيل لتبرر ارتكابها مثل هذه الفظائع، وستقوم إسرائيل فى الساعات القادمة باستخدام البعض من تلك الأعذار ومنها: أن الفلسطينيين هم الذين قاموا بقتل لاجئيهم، وأنهم قاموا باستخراج جثث ذويهم، من المقابر وزرعوها فى الحطام، ومن يستحقون اللوم فعلا هم الفلسطينيون لأنهم أيدوا ودعموا فصائل مسلحة، أو أن المسلحين الفلسطينيين استخدموا عن عمد اللاجئين الذين لا حول لهم ولا قوة كغطاء يحميهم من البطش الإسرائيلى. فمن ارتكب مذبحة صبرا وشتيلا هم حلفاء الكتائب اللبنانية اليمينية، بينما وقفت القوات العسكرية الإسرائيلية، كما أشارت لجنة التحقيق الإسرائيلية، تراقب لمدة 48 ساعة ارتكاب الفظائع ولم تفعل شيئا. وعندما أشار أصبع الاتهام إلى ضلوع إسرائيل فى تلك المجزرة، اتهمت حكومة مناحم بيجن العالم بالافتراء على دولة إسرائيل المسكينة. وبعد أن أطلقت المدفعية الإسرائيلية قذائف مميتة على قاعدة تابعة للأمم المتحدة فى قانا عام 1996، حينها ادعى الإسرائيليون أن مسلحى حزب الله كانوا أيضا يحتمون تحت سقف قاعدة الأممالمتحدة، وما كانت هذه سوى كذبة أخرى من أكاذيب إسرائيل التى لا تنتهى. وكانت حرب عام 2006 – التى بدأت عندما أسر حزب الله على جنديين إسرائيليين على الحدود- والتى حصدت أرواح أكثر من ألف قتيل لبنانى، بكل سهولة، مسئولية حزب الله. بل ووصل بإسرائيل الأمر إلى أن تدعى أن جثث أطفال مذبحة قانا الثانية، تم نبشها من المقبرة، وكانت هذه أيضا كذبة أخرى. أما عن مذبحة "مروحين" فلم تقدم عنها إسرائيل أعذاراً. وحينها أمرت العسكرية الإسرائيلية سكان القرية بالفرار وترك منازلهم، وعندما أذعن اللبنانيون إلى الأوامر، وجدوا سيلا من هجمات الحربية الإسرائيلية فى انتظارهم. وقام آنذاك اللاجئون بوضع أطفالهم أعلى شاحنة كانوا يفرون بها ليبرهنوا للطيارين الإسرائيليين أنهم مدنيون أبرياء، بلا ذنب أو جرم، ولكنهم، نظرا للغشاوة التى تلطخ الضمير الإسرائيلى، أصبحوا هدفا سهلا من مسافة قريبة، مما أسفر عن مقتلهم جميعا ولم ينج منهما سوى اثنين. ولكن إسرائيل لم تعتذر أبدا عن تلك المجزرة أو حتى تبررها. وكذلك قامت هليكوبتر إسرائيلية قبل 12 عاما بالهجوم على سيارة إسعاف تقل مدنيين من قرية مجاورة – ومرة أخرى كانت إسرائيل السبب فى خروجهم وذلك لأنها أمرتهم بالرحيل- وأسفر هذا الهجوم الدامى عن مقتل ثلاثة أطفال وسيدتين. وأيضا حينها ادعت إسرائيل أن مقاتل تابع لحزب الله كان يختبئ فى سيارة الإسعاف، وكان هذا كالمعتاد غير حقيقى. وقد قمت بتغطية هذه الجرائم عن كثب وقمت بالتحقيق فيها جميعا، وحاورت الناجين، لذا كان من الطبيعى أن يكون مصيرى الحتمى، ومصير بعض من زملائى، أن نتهم بأشهر افتراء على الإطلاق وهو أننا بالطبع معادون للسامية. وأنا أكتب ما يلى دون أن يعترينى أدنى شك فى أننا سنسمع تلك الافتراءات الظالمة من جديد. فلا يشعر المرء بالاستغراب حين يسمع كذبة أن حماس هى الملامة، والله وحده يعلم كم من الجرائم التى يجب أن تلام عليها إسرائيل دون إضافة هذه الجريمة الأخيرة، وأيضا سنسمع كذبة نبش جثث الموتى من المقابر، ومن المؤكد أننا سنسمع كذبة أن حماس كانت تختبئ فى المدرسة التابعة للأمم المتحدة وقامت بقصفها إسرائيل مساء أمس، وبالطبع ودون أدنى شك سنسمع أشهر كذبة على الإطلاق وهى كذبة "معاداة السامية". وسيقوم قادتنا وحكامنا العظام بتذكير العالم أن حماس هى التى خرقت اتفاقية وقف الإطلاق أولا. وكانت هذه أيضا كذبة إسرائيلية، فالحقيقة هى أن حماس لم تفعل، بل قامت إسرائيل بمخالفتها فى 4 نوفمبر عندما قامت بقصف خلف وراءه 6 فلسطينيين قتلى فى القطاع المنكوب، وأيضا خرقتها إسرائيل فى 17 نوفمبر بقصف آخر أسفر عن مقتل 4 فلسطينيين. نعم، إسرائيل حقا تستحق الأمن والحماية. فمقتل 20 إسرائيليا فى غضون 10 سنوات يعد حقيقة حزينة بالفعل. ولكن مقتل 600 فلسطينى فى غضون أسبوع، ومقتل الآلاف منذ عام 1948 – عندما قامت إسرائيل بمذبحة دير ياسين التى كانت البداية لترك الفلسطينيين أرضهم التى أصبحت الآن إسرائيل- فتلك نقرة أخرى. وتعيد تلك المجزرة إلى الذاكرة، مستوى وحشية وبشاعة سفك دماء حروب البلقان فى تسعينيات القرن الماضى، فهى أكبر من مجازر الشرق الأوسط التى اعتدنا عليها. ولكن بالطبع عندما يغضب العرب ويعبر عن حنقه وسخطه الأعمى وينفجر فى وجه الغرب، نقول إن الأمر لا يعنينا فى شىء، وسنتساءل لماذا يكرهونا؟ ولكن دعونا لا نقول إننا لا نعرف الجواب!.