جو التحرير المعبأ بالباعة الجائلين، لم يكن كذلك وعلى هذه الصورة، لم يتسم مرة بأنه سوق مثل سوق العتبة أو الموسكى الممجوج بالزحام، وعلى كل لون ليكن هذه هى حاله من بعد ثورة خلع الخوف. المجمع ببنائه الضخم المتميز المقوس كأنه اليد الحاضنة المرحبة يكل آت وغاد، وقف شيخ فى مقتبل العقد السادس وقد بهره بائع اللعب الصينية التى غدت منتشرة فى كل مكان من القاهرة يلهث إليها الأطفال، وهى تبهر الكبار قبل الصغار. تسمر الشيخ ذى اللحية البيضاء والقامة البدينة مع القميص والبنطال وجاكت شتوى ثقيل كمن يبدو أنه موظف كبير أمام لعبة راقصة تهز رأسها بخفة بالغة، حتى ألتف حولها نفر من الأطفال تبسم الشيخ ضاحكا، منها ثم انحنى أمام أحد الأطفال الذى وقف معه كأنما يشاركه الضحك والإعجاب باللعبة الراقصة. وتحدث الشيخ قائلا للطفل: هذا حبيب العادلى بعدما ألقى القبض عليه وقد جن جنونه.. ضحك الطفل أكثر، وردد ضاحكا: حبيب العادلى. واسترسل يضحك كأنما يعلم بالحدوتة التى تعيشها البلد منذ شهور قاربت الآن العام. قال البائع قولة أدهشت الشيخ: لا يجوز يا عم الشيخ، ده خلاص بيتحاكم وهياخد جزاءه، بلاش نتريق. أحسن!.. الأول صحيح كنا نسخر ونضحك.. وأما الآن هم أمام المحكمة بين يدى القضاء.. وربنا وحده من يحدد مصيره.. توقف الشيخ وكأنه استرجع زلة لسانه حين أطلق هذه السخرية العفوية.. أيقن حالها أنه لم يعلم الطفل شيئا بل علمه فقط أن يسخر ويضحك، بينما البائع البسيط الذى قد لا يفوق الشيخ علما هو من تعلم من الثورة وما بعدها: نعم ألا نسخر من أحد وأن العدل هو صاحب الأمر، هو فقط من يحسم نهاية الحدوتة، لم يجد الشيخ تعقيبا على قول البائع سوى أن يلوذ بالصمت، وعاد يربت على كتف الطفل المبهور باللعبة، ثم انحنى له وأعاد إليه قولا آخر: هذه اللعبة فرحانة بالحرية.. بالثورة.. ما فيش خوف خلاص من دلوقتى..! غير أن الطفل أشار إليها ثانية وهو يضحك: العادلى.. العادلى. لاذ الشيخ بالصمت ثانية.. كأنه يفكر فيمن تعلم الدرس هو أم البائع؟.. لما نسخر من أحد؟.. ربما يكون أحدنا مكانه يوما ما ولما لا؟.. ألا إنها فتنة الدنيا فقط علينا أن نتعظ ونتعلم، لحظات وقد توقف البائع عن النداء لألعابه وسط الميدان وتنبه لصمت الشيخ، وأخذ يراقبه بعينه، وقد أعطى ظهره إليه.. ومشى فى تؤدة.. ربما أدرك الآن أن البائع علمه درسا.