أصدر المركز القومى للترجمة كتاب "النظام القديم والثورة الفرنسية" للكاتب الفرنسى أليكسى توكفيل، ترجمة خليل كلفت. وضع توكڤيل كتابه هذا بعد ثورة 1789 الفرنسية الكبرى، بقرابة ستين سنة كذلك، إذ لم يكن من الممكن لأحد أن يتنبأ بهذه الثورة أو تلك، حيث يستحيل التنبؤ بالثورات بوجه عام مهما قال قائل أو آخر إن حالة اجتماعية سياسية ما تتجه بأمة أو دولة إلى ثورة لا يعرف موعدها أحد. وهنا يقول مترجم الكتاب خليل كلفت "كما كان على توكڤيل أن يدرس ويحلل ثورة بلاده بعد ستين سنة، فعلينا أن ندرس ونحلل ثورتنا الآن، والفرق هو أنه كان يقوم بتشريح جثة، مهما قال إن تلك الثورة كانت ما تزال مستمرة، على حين أن علينا أن نقوم هنا والآن بدراسة ثورتنا فى خضم تطوراتها لكى نسير بها إلى الأمام فى مواجهة أخطار كبرى تهددها، وربما كان الخطر الأكبر يتمثل فى سياقها التاريخى ذاته وفى طبيعتها وفى نتائج الثورات فى العالم الثالث بوجه عام". إذ يرى كلفت أن كتاب توكڤيل يقدم لنا عونا كبيرا فى هذا المجال رغم أن السياق التاريخى لثورته تختلف جذريا عن السياق التاريخى لثورتنا، ويحدد توكڤيل منذ الجملة الأولى فى مقدمته لكتابه طبيعة هذا الكتاب، قائلا: "الكتاب الذى أقدمه الآن ليس أبدا تأريخا للثورة الفرنسية، فذلك التاريخ مكتوب بصورة أروع من أنْ أفكر فى إعادة كتابته، إنه بالأحرى دراسة عن هذه الثورة". ويتألف الكتاب من ثلاثة أقسام: فتناول القسم الأول طبيعة الثورة، ويدرس القسم الثانى بفصوله الاثنى عشر الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، فى حين يبحث القسم الثالث مسألة لماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروبا الغربية، ويطرح توكڤيل أسئلة متكررة تناولها فى القسم الأول من الكتاب، وهى: "ماذا كان الموضوع الحقيقى للثورة؟ وما هى طبيعتها الخاصة فى نهاية المطاف؟ ولماذا على وجه التحديد تم القيام بها؟ وماذا حققتْ؟"، وهو يفنِّد الأحكام المتناقضة عن الثورة، موضحاً أن موضوعها لم يكن تدمير السلطة الدينية المسيحية ولا إضعاف السلطة السياسية، وأنها كانت ثورة سياسية وإنما اتخذت مظهر الثورات الدينية بحكم طابعها الفكرى العالمى وتبشيرها بمبادئ تنسجم مع روح العصر، أما ما حققته الثورة الفرنسية بالفعل فقد تمثل فى كونها تكملة لعمل طويل سابق عليها. ويدرس القسم الثانى، المخصص لدراسة الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، فيشرح طبيعة "النظام القديم" الذى تمثلت الرسالة التاريخية للثورة فى تحريره من القيود والأغلال الملَكية والإقطاعية، لكى يندفع كمجتمع رأسمالى. ويركز توكڤيل فى هذا الجزء على المجتمع الفرنسى الأقدم فى سبيل استكشاف الاختلاف بين الأحداث فى فرنسا والتطور العام لأوروبا، ويبحث أصول الثورة الفرنسية خاصة فى أوروبا. والنظام القديم، عند توكڤيل، لا يعنى حالة اجتماعية بل أزمة حالة اجتماعية، ليس المجتمع الإقطاعى أو الأروستقراطى القديم بل فترة متأخرة لهذا المجتمع عندما صار ممزقا بين المبادئ المتناقضة، وانفصال النظام المدنى عن النظام السياسى، واللامساواة المدنية، والمساواة السياسية، تساوى الجميع فى الخضوع للملك، وعلى هذا الأساس كانت فرنسا هى التى اندلعت فيها الثورة، لأنها كانت قد بدأت فيها بالفعل، مختفية وراء اسم "النظام القديم"، ويطبق توكڤيل تسمية "النظام القديم" على فترة الحكم المطلق أى المركزية الإدارية، ويعنى هذا أن الصيغة الثورية كان لها واقع تاريخى على مدى فترة قصيرة نسبيا فقط، تمتد من عهد "لويس الثالث عشر" إلى عهد "لويس السادس عشر"، أى على مدى أكثر من قرن. وكما يقول كلفت، فإن الثورة الاجتماعية إذن هى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعى إلى نظام اجتماعى آخر وقد تحتاج فى فترة من فترات تطورها إلى ثورة سياسية عنيفة بطبعها فى مواجهة المقاومة الداخلية "الحروب الأهلية" والخارجية "الحروب الدفاعية والهجومية"، ويجب أن يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية قد تجلبها تطورات بنيوية وظرفية، داخلية وخارجية، عسكرية واقتصادية، ويكفى التوقف قليلا عند بعض التراكمات البدائية لنرى مدى وحشيتها داخل وخارج الحدود بل إن الحرب تكاد تكون شكلاً نموذجياً كشرط من الشروط الموضوعية للانتقال مثلا من العبودية إلى الإقطاع. أما فى القسم الثالث يتساءل توكڤيل من كتابه : لماذا إذن سارت فرنسا فى طريق الثورة العنيفة؟ ولماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروبا الغربية التى كانت تشترك معها فى نفس مسيرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، من جهة، والتى كانت شعوب بلدان منها "ألمانيا بالذات" تعانى معوقات الامتيازات والحقوق الإقطاعية والملكية وبقايا القرون الوسطى بصورة أشدّ وطأة بما لا يُقاس؟ ويوضح الكاتب وجود عدة عوامل مهدت فرنسا لذلك الحدث الكبير، لاندلاع ثورة 1789 منها: ضعف الإقطاع، ضعف القنانة، إفقار وتدهور النبلاء، تطور الملْكية العقارية الفلاحية، نمو الصناعة والزراعة والعلاقات السلعية النقدية، تبلور طبقة برجوازية من رجال المال والأعمال، تبلور طبقة عمالية واسعة، الثورة الفكرية والأدبية وبروز الفلاسفة والمفكرين والأدباء كقيادة سياسية للشعب، ازدياد الشعور بوطأة الامتيازات والحقوق الإقطاعية والنفور الشديد منها ومن الإقطاع الدينى بحكم هذه التطورات التقدمية ذاتها، التهاب كراهية اللامساواة والرغبة فى الحرية، الاندفاع الثورى الناتج عن كل هذا. وهناك مسألة دقيقة يطرحها توكڤيل ويعيد طرحها المرة تلو المرة وهى المفارقة المتمثلة فى التناقض بين ما أراد الفرنسيون أن يحققوه عندما قاموا بثورة 1789 وما حققوه بالفعل، بين الهدف المنشود والمحصلة، مما يكشف عن تناقض عميق للغاية بين الحلم الذى يلْهب الشعوب إبان الثورات وفى فترات الإعداد لها وفى فترات أولى تالية لانتصارها، من ناحية، والإدراك الواعى للمحتوى الحقيقى لهذه الثورات، من الناحية الأخرى. فثورة 1789 هى رأسمالية من حيث محتواها، وبالتالى رأسمالية من حيث قيادتها وأهدافها ورسالتها التاريخية وأداة كبرى لتحقيق النظام الاجتماعى الاقتصادى الرأسمالى، فلا عجب إذن فى أنْ يعانى الفرنسيون فى نهاية المطاف استغلاله وقهره بعيدا عن الحرية والمساواة والإخاء التى كانت شعارات تعبئة البشر الذين كانوا وقود الثورة، ولا عجب إذن فى أن يصطدم الحلم القائم على الأوهام بالواقع الوحشى الذى يتحقق بتراكم "طبيعي". ولا يعنى هذا أبدا التقليل مما حققته الثورة بالفعل، فقد كانت من الأدوات التاريخية الكبرى لرفع الشعب الفرنسى إلى مستوى الحضارة الرأسمالية، فهذه الحضارة مرحلة تاريخية كبرى متصاعدة إلى الأمام مهما بلغتْ وحشيتها ضد "مواطنيها" وضد "الآخرين"، فهى لا تملك بحكم طبيعتها إلا أن تكون وحشية. ويؤكد توكڤيل على أن الفرنسيين إنما قاموا بتشييد صرح مجتمعهم الجديد باستخدام أنقاض "الثورة الأولى" أى "النظام القديم"، وإذا كانت ثورة 1789 ما تزال مستمرة فى زمنه، كما يقول، فإن تلك "الثورة الأولى" أو "النظام القديم" هى التى كانت مستمرة إذن.