إيماناً بضرورة دعم المواهب الجديدة فى مجال الثقافة والأدب، ينشر موقع اليوم السابع بعضا من أعمال القراء الأدبية، وفيما يلى قصة قصيرة للقارئ حسام أبو سعدة، نرجو أن تنال إعجابكم: الأخطبوط وقف "هانى" يرقب أحد الأفواج السياحية مبهوراً.. الفتيات فى غاية الحسن والجمال والفتيان يتفاخرون بعضلاتهم المفتولة وهم يحملون الحقائب إلى بطن الأتوبيس، لم يلحظ فى عين أى منهم رهبة الغربة، بل يقفزون فى مرح ونشاط وكأن الدنيا بأسرها ملكاً لهم. انطلق الأتوبيس بالسائحين بينما راح "هانى" يتجول بجوار شاطئ البحر.. الطريق تحت قدميه يتلوى يميناً ويساراً مثل ثعبان ضخم، وكان هناك شيطان ماكر يسرق الطريق من خطواته، تعثر أكثر من مرة حتى كاد أن يسقط.. ثم جلس على أحد المقاعد الحجرية خائر القوة وهو يرقب الأفق المعتم برهبة. لا تبدو فى السماء نجمة واحدة، السحب تكاثفت وتمددت وكأنها تتعمد حجب النور عن هذا العالم المتخبط. تذكر يوم أن كان يجلس هنا، فى المكان نفسه مع صديق العمر "أيمن"، يخططان لإنشاء مكتبا صغيرا فور الانتهاء من دراسة الهندسة، يحلمان بزوجتين وفيتين، وأبناء أبرار، ثم يدبان على نفس الطريق بخطوات واثقة، وقلبين مفعمين بالأمل، فالجميع يعلم جيداً إذا اجتمع هذان الصديقان على شىء، فلابد أن يكون النصر حليفهما. انسكب فى أذنيه أنين الناى، التفت ليجد شاباً ضريراً يبث شكواه للأمواج الآتية من العالم البعيد بتنهداته فى نايه الحزين.. أخرج كل ما فى جيبه ووهبه للشاب الضرير بعد أن ثارت فى نفسه كل الأشجان... لم يستطع فى يوم من الأيام مقاومة سحر الموسيقى. لا تغفو عيناه إلا على رنين أوتار الجيتار، فتتطهر روحه من دنس المادة وتنطلق لتسبح بحمد ربها فى العالم الرحب... لكنه بعد أن فقد صديقه، فقد الإحساس بكل شىء، أصبح كمن يعيش نصف ميت نصف حى، حتى الموسيقى لم تعد قادرة على استعادة توازنه، فراح يهيم فى الأرض وحيداً لا يجد ما يفعله.. رأى أمامه ملهى ليلياً فاندفع فى جنون.. راح يشرب ويرقص طوال الليل بينما فى عينيه بريق العناد والتحدى.. سينهى دراسته عما قريب، ويقيم مكتباً هندسياً ضخماً بمفرده سيشيد فى هذا العالم إنجازات فنية رائعة تخلد اسمه عبر التاريخ، فيشهد الجميع بعبقريته وموهبته، ويندم "أيمن" على جهله وغبائه.. لكنه اليوم، بعد أن أنهى دراسته لا يعرف من أين يبدأ وكيف؟ أمال رأسه للخلف، ثم أغمض عينيه محاولاً ترتيب أفكاره.. أقل خطأ هندسى قد يدفع به إلى غياهب السجون.. لابد أن تكون البداية قوية ومنظمة بإحكام شديد، ليحقق طموحاته الكبيرة.. الشركات العملاقة لن ترحم أبداً المكاتب الصغيرة. اقتحم أذنيه وقع خطوات مترددة، أدرك أنها روح هائمة حائرة مثله.. التفت ليجد شاباً مكفهراً وفى عينيه بريق الغضب لم يعرفه من أول وهلة، ثم خفق قلبه بشدة عندما اكتشف أنه صديقه "أيمن".. راح يرقبه فى تشف وسخرية وهو يتذكر المحاورات والمشاجرات التى حدثت منذ ثلاث سنوات.. كانت بداية المحاورات عندما خفت بريق الروح الطموحة الوثابة فى نفس "أيمن". أهمل دراسته وبدا وكأنه قد نسى أحلامهما. فى هذه الأيام حزن "هانى" كثيراً، فقدم له شريط موسيقى وهو يقول: اترك الكتب قليلاً واستمتع بالموسيقى، قد تعاونك على استعادة نشاطك؟ فقال "أيمن" فى غضب: الموسيقى حرام. اندهش "هانى" وهو يسأل: من قال ذلك؟ ◄جارنا الدكتور "ممدوح". ضحك "هانى" ساخراً، ما علاقة طبيب الأسنان بعلوم الدين؟ فثار "أيمن" مدافعاً. ◄الدكتور "ممدوح" أستاذ كبير فى الجامعة، وهو ليس إنساناً منغلقاً كما تتصور، لقد قضى أكثر من عشرين عاماً فى أمريكا. دامت المناقشات بينهما عدة أشهر. كل منهما يحاول إثبات صحة رأيه بالبرهان القاطع.. وفى النهاية حطم "أيمن" المسجل فى غضب ثم أمسك بذراع صديقه وهو يقول: ◄هيا بنا لنصلى العشاء. سحب "هانى" ذراعه وهو ينتقض فى عناد: لن أصلى. أنا إنسان كافر ولا شأن لك بى. حزن الأهل والأقارب كثيراً وهم يرون ذبول شجرة الصداقة. لقد اصفرت الأوراق وتساقطت حتى أصبحت مجرد قطعة من الخشب الأصم لا قيمة له، فراح البعض يحرق البخور إيماناً بأنه لا تفسير منطقى لما حدث سوى الحسد أو السحر.. وفى منتصف العام التالى فصل "أيمن" من الجامعة بعد مشاجرة كلامية عنيفة مع أحد الأساتذة، لقد اتهم "أيمن" أستاذه بالكفر والجهل، لأنه يخطئ فى تشكيل كلمات القرآن.. منذ أن فصل "أيمن" من الجامعة لم يلتقيا إلا اليوم فقط. هب "هانى" واقفاً يستعد للمواجهة الحاسمة بحثاً عن الخلاص من حياة البرزخ التى يحياها وحيداً، كيف تكون الموسيقى حراماً بينما كان "بلال" مؤذن الرسول يعزف على الناى؟ كيف تكون الموسيقى حراماً بينما استقبل الأنصار الرسول وهم ينشدون على الدفوف "طلع البدر علينا"؟ استعد "أيمن" للمواجهة الحاسمة بحثاً عن الخلاص من حياة البرزخ التى يحياها وحيداً. كيف تكون الموسيقى حلالاً وهى التى جعلتك تدمن الخمر؟ كيف تكون الموسيقى حلالاً وهى التى جعلتك تلهث خلف الراقصات فى الملاهى الليلية؟ لم يشعر أى منهما وهو يستعد لمواجهة صديقه اللدود، بالأخطبوط الضخم الذى بدا فى الأفق.. فى لمح البصر قبض الأخطبوط بأحد أقدامه الكثيرة على "هانى"، فراح يصرخ ويتلوى طالباً النجدة من صديقه. قبل أن يفكر "أيمن" فى إنقاذه قبض الأخطبوط بقدمه الأخرى عليه. اعتصرها بقوة. امتص دماءها بقسوة بالغة. ولم يتركهما إلا جثتين هامدتين على قارعة الطريق.. وبعد قليل تجمعت الكلاب الشاردة تنهش الصديقين. حسام أبو سعدة