مجمع البحوث الإسلامية: منهج الأزهر يقوم على الوسطية والاعتدال    مساعد وزير الصحة: تسليم 20 مستشفى على مستوى الجمهورية خلال العام الحالي    أبرزها تنظيم الإعلام الإلكتروني، مجالات التعاون بين مصر والأردن (إنفوجراف)    جامعة دمياط تختتم الملتقى الأول لخريجي كلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي    يونيسف: التصعيد الأخير في رفح الفلسطينية سيؤدي إلى معاناة مزيد من الأطفال    كيربي: قدمنا بدائل لإسرائيل لهزيمة حماس لا تستدعي عملية عسكرية في رفح    البيت الأبيض: بايدن أعرب لنتنياهو عن معارضته عملية رفح الفلسطينية مرارا وتكرارا    الخارجية الأمريكية: لا توجد مؤشرات علي عملية عسكرية واسعة برفح    الرئيس السيسي يحذر من العواقب الإنسانية للعمليات الإسرائيلية في رفح الفلسطينية    محلل سياسى فلسطينى: إسرائيل استغلت حرب غزة لتحقيق أهداف استراتيجية لها    زد يعود للانتصارات بالفوز على سموحة 1/2 في الدوري الممتاز (صور)    "بعد اقترابه من حسم اللقب".. كم عدد ألقاب الهلال في الدوري السعودي؟    ارتفاع الأمواج ل3 أمتار، الأرصاد تحذر من الملاحة بالبحر المتوسط غدا    حريق هائل بمخزن شركة الإسكندرية للأدوية بحي المنتزه    ننشر مذكرة دفاع حسين الشحات في اتهامه بالتعدي على محمد الشيبي (خاص)    إياد نصار يكشف تفاصيل شخصيته في مسلسل إلا الطلاق (فيديو)    أسماء جلال تنضم لفيلم "فيها إيه يعني"    روبي تتصدر التريند ب "الليلة حلوة"    قوات الاحتلال تعلن بدء عملية عسكرية بحى الزيتون فى غزة    مسلسل البيت بيتي 2 الحلقة 6.. الجن روح تطارد بينو وكراكيري وتخطف زيزو (تفاصيل)    الأزهر للفتوى يوضح فضل شهر ذي القعدة    بالفيديو.. خالد الجندي: أركان الإسلام ليست خمس فقط    أمين الفتوى: الزوجة مطالبة برعاية البيت والولد والمال والعرض    حسام موافي يحذر أصحاب هذه الأمراض من شرب المياه بكثرة    بنك التعمير والإسكان يحصد 5 جوائز عالمية في مجال قروض الشركات والتمويلات المشتركة    أوقاف شمال سيناء تعقد برنامج البناء الثقافي للأئمة والواعظات    القباج تشهد انطلاق الدورة الثانية في الجوانب القانونية لأعمال الضبطية القضائية    لمواليد برج العقرب والسرطان والحوت.. توقعات الأسبوع الثاني من مايو لأصحاب الأبراج المائية    "الخارجية" تستضيف جلسة مباحثات موسعة مع وزير الهجرة واللجوء اليوناني    تفاصيل مشروع تطوير عواصم المحافظات برأس البر.. وحدات سكنية كاملة التشطيب    «الهجرة» تكشف عن «صندوق طوارئ» لخدمة المصريين بالخارج في المواقف الصعبة    مصطفى غريب يتسبب في إغلاق ميدان الإسماعيلية بسبب فيلم المستريحة    متحور كورونا الجديد «FLiRT» يرفع شعار «الجميع في خطر».. وهذه الفئات الأكثر عرضة للإصابة    وزير الصحة يشهد فعاليات المؤتمر العلمي السنوي لهيئة المستشفيات التعليمية    فصائل عراقية: قصفنا هدفا حيويا في إيلات بواسطة طائرتين مسيرتين    قوات الدفاع الشعبى تنظم ندوات ولقاءات توعية وزيارات ميدانية للمشروعات لطلبة المدارس والجامعات    محافظ الشرقية: الحرف اليدوية لها أهمية كبيرة في التراث المصري    محافظ أسوان: تقديم أوجه الدعم لإنجاح فعاليات مشروع القوافل التعليمية لطلاب الثانوية العامة    بعد قرار سحبه من أسواقها| بيان مهم للحكومة المغربية بشأن لقاح أسترازينيكا    على معلول يحسم مصير بلعيد وعطية الله في الأهلي (خاص)    ظهور أشياء غريبة في السماء لأول مرة.. ماذا يحدث خلال كسوف الشمس المقبل؟    بعد ظهورها مع إسعاد يونس.. ياسمين عبد العزيز تعلق على تصدرها للتريند في 6 دول عربية    "الخشت" يستعرض زيادة التعاون بين جامعتي القاهرة والشارقة في المجالات البحثية والتعليمية    وزير الصحة: دور القطاع الخاص مهم للمساهمة في تقديم الخدمات الطبية    حكم هدي التمتع إذا خرج الحاج من مكة بعد انتهاء مناسك العمرة    محافظ الغربية يوجه بتسريع وتيرة العمل في المشروعات الجارية ومراعاة معايير الجودة    تأجيل محاكمة المتهمين في قضية فساد التموين ل 8 يوليو    "العمل": تحرير عقود توظيف لذوي الهمم بأحد أكبر مستشفيات الإسكندرية - صور    القبض على المتهمين بغسيل أموال ب 20 مليون جنيه    21 مليون جنيه.. حصيلة قضايا الإتجار بالعملة خلال 24 ساعة    ما حكم قطع صلة الرحم بسبب الأذى؟.. «الإفتاء» تُجيب    مستشفى العباسية.. قرار عاجل بشأن المتهم بإنهاء حياة جانيت مدينة نصر    أحمد عيد: سأعمل على تواجد غزل المحلة بالمربع الذهبي في الدوري الممتاز    دفاع حسين الشحات يطالب بوقف دعوى اتهامه بالتعدي على الشيبي    اليوم.. وزير الشباب والرياضة يحل ضيفًا على «بوابة أخبار اليوم»    جهاد جريشة يطمئن الزمالك بشأن حكام نهائي الكونفدرالية أمام نهضة بركان    معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية يسجل 31.8% في أبريل الماضي    مصدر عسكري: يجب على إسرائيل أن تعيد النظر في خططها العسكرية برفح بعد تصريحات بايدن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية واسينى الأعرج "جُمْلُكِيَةُ آرَابِيَا"
نشر في اليوم السابع يوم 27 - 06 - 2011


مَقَامُ اللَّيَالِي.
-1-
كل الحكاية بدأت بكتاب انفتح على الخوف، وانتهى في قلب النّار، قبل أن ينام نهائيا في عمق لغة مكسوة بالزغاريد، تشبه الصراخ والخوف قليلا.
-2-
لست مهمًّا. أنا راوي الصّدفة. وراوي الصّدفة معذور لأنه لا يقول في النهاية سوى مشاهداته ومكاشفات من عاشرهم من الڤوالين الذين لم يبق منهم في عصرنا الحالي الكثير، في ظل مخابر البحث المتخصصة في شأن البشر وتاريخهم. ربما كنتُ العملة النادرة في هذا الزمن الذي غرُبَ، أو هو بصدد الأفول، ماسحا في مسالكه كل الأيادي البيضاء والرمادية والمعتمة، التي صنعته.
ما سأحكيه قد لا يصدّقه الناس بالبساطة المعهودة، لأنه يقع في صلب ليلة الليالي، وفي حواشيها، وخارج الحساب الزمني، وميزان الكسور والثواني والدقائق والساعات والأيام، وربما السنوات أيضا وحتى القرون. ولأن الليلة ثقيلة إذِ انبنتْ عليها شعلة الموت والأمل، لا يحكيها إلا من غُسِل بلهيبها من قريب أو من بعيد، ومن غُمِّسَ في رذاذ رمادها، وَقُمِّطَ بأشلائها التي انجلت مع الفجر الأول للحياة. وحتّى من احترق بنارها التي سمَّاها الأولون من الأخيار بنار الجنة لأنها لم تحرق الأخضر واليابس، ولكنها هدَّمت سور الخوف، وكلَّ ما تصلَّب وأصبح حطبا جافا يصلح لأن يكون طعما للهب المقدس.
في تلك الليلة، ليلة الاستثناء والرعشة، بدت بلاد آرابيا غريبة كأنها تصحو من كابوس طويل. كان الناس في عمق الدهشة، ما يزالون يمضغون مرارة ممزوجة بفرح عميق وبعلامات حلم لم يتمَّ أبدا، وبأسئلة معذِّبة سرت في الدم كالنار في الهشيم: كيف كنا عبيدا على مدار عشرات السنين، وربما القرون المتهالكة التي ربَّت فينا حاسَّة الذلّ لدرجة أن أصبحتْ سادس حواسِّنا؟ كيف قبلنا أن نضع أحلامنا وأجسادنا في ظلّ الحكيم، الحاكم بأمره، سيّد آرابيا، سلطان السلاطين، وملك ملوك العرب وإفريقيا والبربر، ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر، كما يشتهي أن يصف نفسه؟ كيف صمتنا على يد قاتلة، كانت في كل لحظة تضغط على الأعناق بكل ما أوتيت من إيمان و قوة، وكنَّا نختنق ونموت في كل ثانية عشرات المرات، وعندما نفتح أعيننا بين الغفوة والغفوة، نجده يتلمس وجوهنا ويدفئنا بابتسامته التي خسَّرتنا آخر ما تبقى فينا من رجولة وشجاعة الأجداد.
خسرت بعض ملامحي. قلبي تعطل جزءه الأيمن، أي الأقل أهمية، هشاشتي وكل حواسي الحية مجتمعة في جزئه الأيسر، وهدا لم يمس وأحمد الله تعالى على ذلك. لكن الجسد لم يعد يسعف مثلما كان الحال في الزمن المنسحب. أصبح أكثر التصاقا بالأرض، كل يوم يتوغل فيها قليلا. ولم يعد يرقص ويحلق مثلما كان يأمره جنونه في الزمن الخالي. مخي تهاوى قليلا وبدأت لطخات الظلمة تسرق مساحة نوره. الأطباء السبعة الذين زرتهم، مغيرا في كل مرة التحاليل والأجهزة الطبية، والانطباعات البشرية، أجمعوا بلا استثناء على أنها العلامات الواضحة لمرض الألزهايمر أو الخرف، حيث تفقد العيون ألقها القديم وتشخص في أزمنة تذهب وتجيء مثل الموجات المتناوبة، ويتحول المخ المنهك من ثقل ما وقع عليه وما تحمّل، إلى مجرد إسفنج يابس، لا ماء فيه ولا روح، تتلوها بلادة مقلقة، قبل أن ينطفئ كل شيء. ولهذا كله صمَّمت، الآن، الآن في اللحظة هذه، وعلى هذه الحافة القلقة من البحر المنسي، التي لا أدري ماذا سيحدث بعدها، أن أعْصُرَهُ للمرة الأخيرة مثل الخرقة المضمَّخة بالعرق، حتى يفقد كل مائه وأغفو بعدها في سبات العادل الذي ينزلق شيئا فشيئا نحو بياض لا سلطان له فيه ولا عليه. بياض بدأ ينتابني من حين لآخر قبل أن أعود إلى اللحظة الأولى حيث الموجة تأكل الموجة، وكل شيء صاف ومشرق لدرجة إعماء البصر. الشمس التي تغسل السماء كل صباح، تغسل أيضا سطع البحر وتحوّله إلى نور كلّي بألوان لامتناهية يصعب تحمل ألقها ودهشتها وسطوتها على العيون المنبهرة.
الآن هدأ كل شيء، وبانت الأشجار والفراشات والألوان التي ظلَّت زمنا طويلا متخفية وراء سواد الأدخنة وحرائق الأجساد اليابسة. الأشكال الغائمة بدأت تتضح شيئا فشيئا. وبدأتُ معها أسترجع بعض حواسيّ، وأشمّ عطرَ الأشياء المحيطة التي توقفتُ عن شمها منذ زمن طويل، كلما عددت أوقاته، ندمت على تيهه الكبير الذي سرق منّي الكثير. ومنْ منَّا لا يندم على زمنه عندما يكون الفناء هو مآله الأخير؟
آن الأوان لأحني رأسي قليلا وأكسر هذا الصمت التي بلّد حواسي، واخترق كل شيء جميل فيَّ، وسطَّح ما تبقى من عزّ دفين.
ليْلة اللَّيالي هي الليلة الوحيدة التي تأتي من حيث لا ينتظرها أحد، وتَسحب مثل موجات تْسُونامي كل شيء في طريقها، البشر والفلسفات والأفراح الوهمية والخيبات المتغطرسة، قبل أن تتحول إلى طوفان يشبه طوفان الكتب المقدسة الذي يعقبه الصمت المريب حيث لا حياة، لا عصافير، لا شدو ولا أشجار، تماما كما في بدء الخليقة. ويحتاج الناس إلى زمن طويل ليستوعبوا ما حدث لهم. لا تشبه في شيء اللّيالي العاديات الموريات. موجة ساحقة لا عيون لها، لا ذوق، لا قلب لها، وربما لا ذاكرة لها أيضا لأنها هي المحْو عينه. ذاكرتها يصنعها من ينجون من زحفها ومسحها الكاسح. أشهد بعد هذا العمر أنه لم يعد لديَّ ما أخسره، ولا ما أربحه أيضا، ولا حتى ما يعنيني. لقد أقسمت أمام مرايا الصباح التي رتَّقت كسورها بالنار التي ألهبت أعماقي، أن أقول الحقيقة ولا شيء آخر سوى الحقيقة، كما لمستُها بنفسي، أو كما روتها المخطوطات الضائعة في بلاد أوسع من بحر وأضيف من مسافة رمشة عين.
بقي أن أقول، لا عبقرية لي فيما أرْويه. شيء عِشتُهُ، شيء أحسسته أو ربما كان مجرد حلم قبل أن تحوله الموجة العارمة من رؤيا إلى حقيقة، وشيء سمعته في أسواق الڤوّالين الصادقين الذين انطفأوا في وقت مبكر، أو بكل بساطة، جاءني مع الرياح الساخنة القادمة من صحاري القفر والفقر، أو تلك الباردة التي غطتني بها مرتفعات القلب وأجنحة الروح. فإذا ما صدّقني الناس، فذلك ما أرجوه، فأنا في النهاية ابن زمني بكل ميراثه، من الناجين بالصدفة من زحف الموجة القاتلة التي لحقتْ بها شمس مغسولة من أي غبار ومن أي لون، لأول مرة أراها في حياتي، وإذا ارتآني الناس مجرد دجَّال، ورجل عابر في زمن يركض بسرعة نحو حتفه، يقصّ خرافات وأوهام ثقيلة ليخِفّ من حرائق داخلية أكلت أباه وأمه فيتَّمته في وقت مبكر، قبل أن تأكل أخاه الأوحد، وابنه الأوحد، وحفيده الأوحد، عليهم أن ينتظروا قرنا آخر ليتأكدوا من صدق ما حدث في جملكية آرابيا، ومن أن الهواء الساخن الذي أحرق الوجوه كل هذا الزمن، لم يكن كابوسا، ولكنه كان شيئا يشبه الحقيقة قبل أن ينزلق نحو أناشيد الڤوالين الذين منحوه ما شاءوا من ضحكاتهم ودموعهم وحنينهم.
هل يجب أن أُذكِّر مرة أخرى أن كل شيء بدأ بكتاب، وانتهى أيضا بكتاب؟ عفوا، بدأ بحرقة قاسية جدا، تلتها سيول من الشجن بسبب حروب إخوة الدم والدين، وكمّ لا يُعد ولا يُحصى من الوقائع التي صعب عليَّ فهم الكثير منها لحظتها، قبل أن ينتهي كل شيء في عمق كتاب دُفنت فيه أسرار جملكية آرابيا وحاكمها، وصُنَّاعها الذين اندثروا في أثرها. كان الحاكم بأمره، ومن سبقوه، يظنون أن الناس الذين همسوا في آذانهم على مدار القرون قد أفادوهم، وخافوا عليهم، لكنهم في النهاية عجلوا باندثارهم المتواتر، وتحويلهم إلى حكاية طويلة لن ينتهي أبدا رجع صداها لأنها في جرح الناس وفي دمهم.
الحاكم بأمره كان بدء الحكاية ولم يكن منتهاها. الناس عندما صعدوا فوق ركام الحرائق والدبابات التي تحولت فجأة إلى قطع ميتة من الحديد الثقيل وصدّأتها النيران المشتعلة والأمطار والحرائق بسرعة، كانوا يعرفون أن زمنا انتهى، وأن زمنا آخر ينتظم في الأفق بالكثير من اليقين، ربما كان أشد قسوة، ولكن أقسموا على أن يغيروا كل شيء، حتى المواقيت والساعات الخادعة التي ضبطت على دقات قلب الحاكم بأمره، صاحب جملكية آرابيا.
كل شيء بدأ بكتاب... وها هو اليوم يعود إليه. قد ينفتح بدوره على كتاب آخر لا أحد يعرف أسراره الخبيئة، ولا بلاغته الخادعة. لا أحد يعلم متى يتمّ الإنباء عن ذلك إذ يكذب المنجمون العالمون حتى عندما يصدقون وتسندهم الصدفة.
لا صدفة فيما حدث. كلّ شيء جاء مثلما كان محفوظا في كتب النور. وكل ما نتمناه ونريده أن يُفتح هذا الكتاب على بعض الخير...
على كل الخير...
الفصل الأوّل
كتاب الحَقِّ
ليس مهمَا أن يكون اسمها دنيا أو دنيازاد، الأهمّ أنها كانت جنون العرش وخرابه، ماءه وعطشه، حقيقته وسرابه. قصَّتها أطول من قرْن وأقْصَر من كلمة.
في تلك الليلة، التي يسمِّيها العارفون ليلة الليالي، والتي لا تشبه أية ليلة أخرى، نظرتْ دنيا إلى الساعة الحائطية الكبيرة، فتحتْ عينيها عن آخرهما وهي تقرأ الأرقام التي بدأت تتداخل وتَتَماهى فيما بينها. كانت تعرف أن الزمن توقف عند اللحظة الفاصلة بين الحرائق الأخيرة التي اجتاحت ساحات آرابيا العامة، وآخر الكذبات التي غزت قصر عزيزة بقوة والتي لم يبق أمامها إلا سحر الحكاية. بحسها الحيواني الحاد، حس الذئبة التي تحدّق بها كل المخاطر، لعبت دنيا آخر الورقات لتُسْمِع صاحب جملكية آرابيا، الحاكم بأمره، الغارق في غيِّه، كل الحكاية ومآلها القاتل. كانت تعرف أكثر من أي شخص آخر أنَّ رياح ليلة الليالي الساخنة والعاتية، التي تكنس اليابس والأيْبَس، بدأت تهبّ بقوة ولم يكن بمقدورها أن توقفها أبدا، ولا حتى بمقدور الحاكم بأمره فعل ذلك. هي مثل الشيخوخة، عندما يبدأ الجسد في الانكسار والتهاوي والاستسلام لناموس الوجود، يتسارع كل شيء نحو الانتفاء مهما كانت الحلول الترقيعية الأخيرة.
سحبتْ الكتاب الذي رقصت حروفه وخطوطه بقوة أمام عينيها المتعبتين، من ركام الأوراق التي لم تأكلها النيران الأولى التي سبقت عواصف وحرائق ليلة الليالي. قرأت عنوان كلماته مقطعة لتختبر ما تبقي حَيًّا من حواسها: المبتدأ...والخبر... في مدونة... العِبر. وهي تتمدد على فراش الغواية العريض، المعطر بماء الزهر والياسمين وورد الرمان، وتتحسس للمرة الأخيرة صوفه وحريره.
« - ... هذا هو إذن الأمير، أو المبتدأ والخبر في مدوّنة العِبَر؟ لصاحبه نيكولا ماكيافيلي المهبول؟ الذي أدخل الذلّ على بيوت السلطان، وفكَّك سحر العرش، وهزّ أركان جملكية آرابيا؟ »
ظلَّت دنيا مدة طويلة تتأمل جمار المدفأة المتقدة وألسنة اللهب المتصاعدة على الأطراف. ورّقَت الكتاب الصغير الذي كان بين يديها، صفحة صفحة للمرة الأخيرة بعد أن قرأته سبع مرات، وفي كل الفصول إذ لوضعية الشمس والقمر تأثيراتهما في كل أفعالنا بما في ذلك فعل القراءة. عندما انتهت منه، أغلقته بعنف كمن يسد بابا ظلت مشرعة مدة طويلة على الفراغ. لم تستطع كتم غيظها على أختها، أو ما رُوي أنها أختها، شهرزاد. تأملته للمرة الأخيرة بخطوطه المعقوفة والألوان النارية، التي ختمت على جلد التغليف، في طبعته الأنيقة المترجمة إلى اللغة العربية خصيصا للحكام والسلاطين وذوي الشأن العظيم، وبدون تردد، رمته في عمق اللهب.
«- الأمير... كتاب المبتدأ والخبر في مدوّنة العِبَر. البدء بِمَنْ وإخْبار من؟ والعِبْرة لمن؟ ياااااه... أنتَ أيضا لم تكن رحيما يا ماكيافيلي. أنظر من حولك ماذا فعلتَ؟ يجب أن تفخر بنفسك يا عزيزي، هذا الخراب كله بفضلك. »
تمدَّدت من جديد بكل طولها على الصّوفة، ثم أغمضت عينيها قليلا إلى أن سرقتها الإغفاءة الأولى. رأت نفسها فراشة من فراشات الجنة قبل أن تستيقظ على كابوس اليد الخشنة التي امتدت لها وبدأت تتأمل عينيها الصغيرتين قبل أن تضغط عليها بقوة، فتشعر بضيق شديد وحالة اختناق قامت على إثرها بفزع وارتجاف.
فتحتْ عينيها. نظرت مليا إلى السقف، تتحسس صدرها وحواسها التي بدأت تستيقظ بهدوء وطمأنينة. لم تر شيئا إلا انكسارات الضوء الخفيفة التي كانت تأتي كل من جوانب الصالة، قبل أن تمتصها الحيطان المكسوة بكتَّان المخمل الهندي وقطيفة بلاد السند.
ظلت دنيا على هذه الوضعية حتى آذان العشاء وهي تستمتع بهسيس الأوراق التي كانت وتتلوى في عمق المدفأة الألمانية. عندما رأت الكتالوغ الخاص بالمدافئ الجديدة، للمرة الأولى، قالت للخادم بلا أدنى تردد: أريد هذه، لأن لا شيء يقاوم المحارق الألمانية. في لمح البصر، تُحول كل شيء إلى رماد. تفضل القوة العاصفة التي تأخذ كل العناصر في أثرها على الحرق المتأني. تكره الأشياء المقسطة، إلا في الحكاية، فهي تتلذذ وتلمس وتشم، وترى الأثر في العيون والملامح، تريد من كل الحواس أن تصاحبها.
عندما فتحت عينيها للمرة الأخيرة بكثير من التكاسل، نظرت إلى الساعة الحائطية الذهبية المعلقة في نفس المكان منذ أكثر من قرن كما روى لها الحاكم بأمره. لا شيء تغير في نظام الأشياء، هو بالضبط وقت الحكاية. خمّنت بأن الحاكم بأمره ينتظر الآن مجيئها كما تعودت أن تفعل كل ليلة. عليها أن تقول كل شيء في الزمن الذي بين يديها قبل أن يأكل رأسها. هي تعرف جيدا أن العواقب ليست سليمة ولكنها ستذهب إلى منتهى الشهوة إذ لا يمكنها أن تترك القصة معلقة في الفراغ.
كانت دنيا أو دنيازاد كما يشتهي الحاكم بأمره تسميتها، قد استعادت راحتها بعد سلسلة الإغفاءات المتتالية، دفنت آخر ضحكات السخرية بين شفتيها ثم انسحبت باتجاه الفراغ الذي كان يملأ القلب والذاكرة. كانت تعرف أكثر من غيرها أن العد الزمني توقف عند هذه اللحظة بالذات، فليلة الليالي استمرت زمنا لم يستطع تحديده علماء الخط والرمل، ولا حتى الذين عرفوا أسرار النجوم والبحار والأنواء الخالية من أي عطر. كانت دنيا تعرف الكثير مما خبأته أختها، أو ما قيل إنها أختها، شهرزاد عن شهريار. فالأسرار والأخبار المنسية كانت تأتيها من القلعة والحقول المسيّجة والبراري وأسوار المدينة والحيطان الثقيلة والهرمة، التي كانت تدفع بعيدا أمواج السواحل الرومانية بكثير من التعب والمشقة. كانت تعرف ما لم يعرفه غيرها. تعرف السر الكبير الذي صاحب بشير إلمورّو ، آخر السلالات المنقرضة، القادم من أدخنة وهزائم غرناطة، لا ينطق عن الهوى أبدا. لم يعد إلى هذا الفراغ القلق الذي يشبه البياض، إلا ليروي خيبة السلطان الذي أخفق في الاستمرار لأنه خسر المنعرج الأساسي في حياته. كان يجب أن يكون نبيها. السلطان لا يحتمل الغباوة على الأمد الطويل. وتعرف جيدا أن بشير إلمورّو ليس إلا لونها ومطيتها لإتمام اللوحة الكبرى التي استمر رسمها أكثر من خمسة عشر قرنا. كانت مليئة بالنور والظلمة وبقايا مطر جفّ في السماء قبل أن يلمس التربة. عندما روت حكايته للحاكم بأمره ضحك طويلا من سذاجتها قبل أن يتّهمها بالدروشة وقلة النباهة.
قالت له في ذلك المساء الذي أصبح اليوم بعيدا: يا حبيبي و قرة عيني، يا من سجدت عند قدميه سطوة العرب والبربر، و العجم، يا حاكمي بأمره وعزه ودينه وسلطانه، من أين أبدأ هذا الخوف، فالسواد يملأ القلب والمدينة ورؤوس العباد، والنسيان يزحف باتجاه القصر والوجوه الحالمة. مولاي، كل شيء يتآكل بسرعة وعليك أن تسمع لي قليلا قبل أن تحملنا رياح العواصف الساحقة إلى حيث لا ندري ولا نعلم. عندما قلتُ لك يا مولاي اقرأ المبتدأ والخبر في مدوّنة العِبر، الذي يسميه العجم ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر الأمير لصاحبه ماكيافيلي الذي عاش على حافة القصر، في عز الحروب والفتوحات والغزوات قلت لي لا وقت لدي، أنا منشغل بأمة لها كِتَابها وليست في حاجة للعجم. عندما ألححت عليك حتى كدتَ تنفر مني، ضحكتَ طويلا وقلتَ: هذه هي الحقيقة، بسبب فقرة شعرت بأنها تستفزّني، مزقته ورميته في البالوعة. سألتك وما الذي حرّك غضب حبيبي ومولاي؟ قلتَ: هي ذي. « على الأمير أن يقرأ قصص الأولين من الذين سبقوه، وأن يتَّعض ويَعْتَبر أعمال الجيدين منهم، ويرى كيف حكموا وسَاسوا في فترة الحروب والقلاقل، أن يتأمل خفايا انتصاراتهم وهزائمهم حتى يهتدي بجيدها، ويتجنب سيّئها. وأن يقوم بما قام به الخيرون من الرجال في الماضي الذين اتبعوا من كان أفضل منهم، فرُفعوا إلى سدة المجد. » أضفتَ يا مولاي وأنت في حالة غليان، لم يكن من الممكن إرجاعك إلى جادة الصواب: أنا لا أقبل بمن يعطيني دروسا في السلطان وهو سيئ السيرة. هذا مكيافيلي تَاعَكْ، فُصل من سلطنة فلورانسا في شتاء 1513، لأنه ضبط بالجرم المشهود وهو يحضر لانقلاب مع أغوستينو كابوني وبييرباولو بوسكولي ضد الكاردينال جوليانو دي ميديسي ، فحُكم عليه بالحبس حتى الموت، ولكنه في النهاية استفاد من رحمة سيده، وحُكم عليه بالإقامة الجبرية في ضيعته في سان كاسيانو حتى نهاية أيامه. كل شيء كان فيك مظلما، ولم تكن قادرا لا على الاستماع ولا على رؤية ما ينفعك وينفعنا معا. أدركت بحاسة شمي التي تلتبس مع حاستي السادسة، أنه لا جدوى من إزعاجك لكي استمر في الحياة وتستمر أنت في مسالكك التي اخترتها أو اختارتك. الآن كل شيء تغير ولم نعد نملك الزمن الذي كان بين أيدينا ولا رخاء الوقت. رائحة الموت أصبحت تملأ كل الأمكنة، والحرائق أتت على كل شيء ولن تتأخر في أن تلحقنا بالباقي. الوقت يا مولاي يموت أيضا مثلما تموت بقية الأشياء. يتهاوى كالرمل، وعندما نريد لملمته يتسرب من بين الأصابع و شقوق اليد التي لا نراها ولا نحسها. هل تسمعني يا قرة العين؟ هل يصلك صوتي المبحوح بألف حكاية وحكاية كان يجب أن أُسْمِعها لك ولكني ترددت كثيرا حتى قبل أن أدخل إلى شوك فراشك للمرة الأولى. يجب أن تظل صاحيا يا صاحب العز والمعرفة، أنا دنيا أو دنيازاد كما شئتني، ولستُ بأي حال من الأحوال شهرزاد.
أنا وأنتَ الآن في جحيم ليلة الليالي. مصير أحدنا ملتصق بالآخر. ننجو مع بعض أو نندثر مع بعض أيضا. ولهذا عليك أن تسمعني. أن تفتح عينيك قليلا فيَّ كما وعدتَني وأقسمتَ على المُصحف أنْ لا تُوقف غيِّي وحكْيي وهبلي، حتى النهاية، حتى ولو حرّكتْ قصصي المروية شأنَك العالي قليلا.
- وهل خالفتُ لك أمرا، يوما يا دنيازاد؟ أنا في حضنك وحضن حكايتك. أعرف جيدا سلطة لسانك وسحره، ولهذا حضَّرْتُ صبْري وخِرقَتي الحمراء التي تمنعني من ارتكاب المعصية الكبرى التي لا غفران بعدها.
- أعرفك يا مولاي ومآلي، ولهذا جعلتك تقسم على المصحف لكي أحفظك من نفسك. حرائقُك عندما تأتي، تأكلك وتأكل كل من نام في ظلِّك.
- أنا رائق تماما في هذا المساء. فقد غلَّقت أبواب المدينة، وأعطيت أوامري لتشغيل المطحنة البشرية. أريد عندما أستيقظ صباحا، أن لا أجد لا عُمَّالا يتحيَّنون الفرض للانقضاض على قصر عزيزة، ولا علماء جعلوا من قلعة الحكمة قنبلتهم الموقوتة. سترين يا دنيازاد وتعطينني الحق، كل الحق، عندما نفتح أعيننا في نفس الفراش على آرابيا أخرى خارجة من رحم القوة والنَّار.
- كل السرّ هنا يا مَوْلاي. هذا الاستيقاظ المبكّر سيكون على أية مشاهد؟
تفحَّصت عينيه عميقا. بدتا هاربتين عن كل ما كان يحيط بهما. هو الحاكم بأمره، الحكيم، وملك ملوك العرب والبربر ومن جاورهما من ذوي السلطان الأكبر، ولا أحد غيره، الذي حكم جملكية أرابيا بيد من رصاص، وعقل من رماد، بعد أن أخصى كل رجالها، واختبر الدنيا والعباد والنفوس المغلقة، قبل أن يجزم بأن كل ما حوله غبي ولا يستحق إلا حياة الذل والإبادة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.