مازلت أتصفح الفيسبوك على الكمبيوتر بعد أن شربت قهوتى فى مقعدى المعتاد بالإنترنت كافيه؛ حين شعرت بأن أحدا حولى ينظر إلى أو يراقبنى، رفعت رأسى لأجد شخصين أشعثين متجهين نحوى. كانت ملامحهما تدلان على أنهما ليسا من زبائن المكان، ولم أتحير طويلا كى أدرك أنهما مخبران شرطة؛ فى سرى قرأت الفاتحة ودعوت أن تمر الأمور على خير. حين انتهت رحلتهما بالوقوف فوق رأسى عاجلنى أحدهما قائلا: "قوم يا روح أمك". لم تعجبنى لهجته ولا قوله فقلت له ألا يدخل أمى فى الموضوع، وأنا أسألهما لما أقوم. رد أحدهما بمزيد من التبجح:" علشان نفتشك يا ابن ال....". صوته القبيح كان قد لفت نظر كل الحاضرين الذين التفتوا إلىّ حيث اجلس، مراقبين تطور الموقف بينى وبين الغوريلاتين المتنكرتين فى صور بنى آدمين والواقفين أمامى. اعترضت مرة أخرى على سبابه وتحديتهما برفضى الوقوف لهما. لم تكن خطوتهما التالية كلاما إذ مدا أيديهما فى آن ولحظة واحدة ليجذبانى من قميصى عند مؤخرة رقبتى لأجد نفسى مشدودا قصرا وبعنف نحو الباب. أثناء الرحلة القصيرة من مقعدى إلى باب الكافيه عاجلانى بصفعة أو اثنتين وكأنهما يبطلان مقاومتى، ومع الصفعات تزامن وابل من القدح وأقذع الألفاظ؛ لم أدر لما لم يسارع أحد من الجالسين لنصرتى: أهى المفاجأة أم أن صوت الصفعات جعلهم يؤثرون السلامة؟ حين خرجنا من الباب دلفوا بى إلى مدخل العمارة المجاورة، لم يعد هناك مجال لاعترض على شتائمهم المقذعة وسبابهم المتوالى فقد فاقه الضرب المبرح الذى بدأوا يناولاننى إياه فى تناغم وشره حيوانى، صفعة تلو الصفعة وضربة مؤلمة تلو الأخرى، لم أستطع أن أقرر إن كان الألم الجسدى أشد أم أن الإهانة المعنوية هى التى كانت تعتصرنى، بدأت قواى تخور فلم أعد قادرا حتى على رفع يدى لأدرأ ما يكيلونه لى من ضربات؛ اختلطت بداخلى أصوات صفعاتهما على وجهى وجسدى مع تأوهاتى التى لم أعد أدرى إن كانت بداخلى فقط، أم أن غيرى يسمعها. فى لحظة ازداد فيها حنقهما أمسكا برأسى واندفعا بى نحو باب العمارة الحديدى: آه.. آهههه.. آه.. أى ألم؟ احسست بدمائى تغطى وجهى وحلقومى يبتلع لسانى ومن بعده أسنانى التى تكسرت. يبدو أن الوحشين أعجبهما إثر ارتطام وجهى بالحديد فأخذا يكرران خبط رأسى مرة تلو الأخرى ثم من جديد ثم إلى مزيد مرارا وتكرارا دون آدمية ولا إحساس ممن لا مشاعر لديهم أو ممن ماتت إنسانيتهم من أمد بعيد. لم أعد أحس وجعا وكأنما الألم قرر أن يرحمنى فبدأ يخدرنى؛ لأول مرة أدرك أن قمة الألم ما هى ألا توقف الإحساس به؛ كم أنت رحيم يارب. أحسست بهم يجران جسدى على الرصيف؛ الطعم فى فمى خليط من الدم والإسفلت وكثير من المرارة؛ والسؤال فى ذهنى مازال: لماذا؟ أظن أنهم أدخلونى سيارة ثم ما لبثوا أن أخرجونى منه، لم أعرف أين ذهبنا ولكنهم بدأوا من جديد فى الضرب دون تمييز ودون رحمة، لا أدرى أن أدركوا أنى قد فقدت كثير من الإحساس وإن أنفاسى قد بدأت تنسحب رويدا رويدا من جسدى، لم أعد أشعر بشىء وتوارت آناتى خلف دوى تكسر ضلوعى وعظامى واختلطت بداخلى آهاتى مع آهات كل جزيئ فى جسدى وكأنى وجسمى غدونا فى حالة انفصال. حين تلقيت ضربتهم الأخيرة أدركت أن هذه آخر لحظاتى فى هذه الدنيا التى وددت لو أننى تمتعت بعيشها أمدا أطول، أنفاسى ما زالت تتثاقل وأحاسيسى تتوارى، وكأن قدرات الحس عندى فى طريقها للانغلاق؛ لم تعد العين ترى وكاد القلب عن النبض أن يتوقف، ظلام دامس أحاطنى وأن رأيت فى آخره خيط نور رفيع. فوجئت بأحدهما يفتح فمى ويمد أصبعه الغليظ داخله تاركا شيئا فى حلقى قبل أن يلموا أشلائى ويدخلوننى فى السيارة ليرمونى من جديد أمام المقهى الذى بدأت منه رحلة وداعى لدنياكم، صارعت وأنا ملقى على الإسفلت فى يأس محاولا التنفس، ولكنى لم أملك سوى الحشرجة التى صاحبتها ارتعاشة فى كل جسدى لم البث إن رحت بعدها فى سبات عميق تبعه سكون وراحة وسلام تملكوننى ليحلوا مكان الألم. أنا اسمى خالد سعيد وهكذا قتلت.. تذكرونى ولا تجعلوا أما أخرى يفطر قلبها أو تتحسر لأن ابنها مات موتتى.