الفنان طه قرنى فنان الشعب يظهر أخيراً، واسمه طه القرنى، الذى يدافع بلوحاته عن الفن الجميل، وأحدثها جدارية "المولد" التى تغطى أكبر قاعات العرض بمركز الهناجر للفنون. فنان كبير يستحق لقب "فنان الشعب" بجدارة، وجدانه مرتبط بالناس البسطاء الكادحين والمكافحين بحثاً عن لقمة العيش، عاش سنوات يرسم ويصور "سوق الجمعة" الشهير فى لوحة بانورامية تجاوزت العشرين متراً، وملأت جدران قاعة العرض الرئيسية بدار الأوبرا، وكانت حدثاً كبيراً لفت الأنظار، هكذا يقول الناقد كمال الجويلى، مضيفاً: عشرات الوجوه وكل منها يحمل تعبيره الخاص، بأسلوب أكاديمى دقيق ومعبر وخلفية ظهرت فيها القلعة من بعيد. جدارية هائلة تذكرنا بخبرات الرواد فى الجداريات المتحفية، كما فى متحف ابن لقمان بالمنصورة، وكان قد انتهى هذا الزمن بفنانيه الرواد، وأصبحنا نبحث عن الحداثة، والمبالغة فى الشطحات المتواية خلف الحداثة وما بعدها، بينما تبتعد عن القيم الجمالية وتلجأ إلى الاستسهال. طه القرنى نموذج للفنان ذى الحس القومى، والذى أصبح العملة الناردة وسط تيارات التسطيح، دخل مجددا فى دورة إبداعية، فذهب إلى الموالد وعايش مظاهرها وجوانبها ولمحاتها، من الدراويش إلى السقا، والبخو، والنيشان، والبيع والشراء بالبركة، وآلاف الناس، وأبدع هذه العناصر على مستوى الموضوع، أما على مستوى التقنية، سعى القرنى إلى التعبير بأسلوب أكثر حيوية وجذباً للمشاهدين. لمسة انطباعية اعتمد القرنى فى جدارية "المولد" اللمسة الانطباعية الخاطفة، المحملة بانعكاس الضوء على الطبيعة لتزداد حيوية الشكل ونضارته وجاذبيته الجمالية والتأثيرية، كل وجه يحمل تعبيراً وملامح متميزة، كما حقق فى هذا العمل الإحساس النابض بالفراغ، الذى يربط بين أمامية العمل بكل تفاصيلها وملامحها الدقيقة، وبين الخلفية البعيدة المزدحمة بآلاف البشر فى درجات هادئة خافتة، بمقدرة فى التقنية ولمسة الفرشاة الحية وغنائية الملامس، وهارمونية الألوان وانسجام التكوين، على الرغم من ضخامة الجدارية التى تقارب هذه الثلاثين متراً. هدير الصمت، هو المعنى المعبر عن الحالة المتجسدة فى اللوحة كما يسميها الفنان عز الدين نجيب، معتبراً أن إحدى المشكلات التى تواجه الحركة التشكيلية فى مصر وتحول دون تواصلها فى المجتمع، هى افتقارها لمساحات مشتركة من التلقى للتاريخ والمأثور والمزاج والمعتقد، تلك التى تسهم فى تشكيل الهوية لأى شعب، ولا شأن لذلك بنوع الدراسة أو الاتجاه الفنى الذى يمارس من خلاله الفنان عمله، بل ويرتبط الأمر بما نسميه الوجدان الجمعى والإدراك الكلى لدى المتلقى، بالبصر والبصيرة على حد سواء، وبقدرة الفنان على الإمساك بهما، فالفنان طه القرنى، حسب نجيب، يجعل من هذين العنصرين منطلقه ومبتغاه معاً، فى سعيه إلى المتلقى واستقطابه، ولوحته الملحمية الكبرى "المولد" ترتكز بكاملها عليهما. فنان الجماهير يرى نجيب أن فكرة المولد طقس شعبى يضرب بجذوره فى الوجدان الجمعى، لمختلف الطبقات منذ مئات السنين. إنها حياة كاملة تتغذى على الموروث وتتوازى – وتتقاطع أيضاً - مع عالم يحكمه المجهول ويفضى به إلى مجهولين: المجهول الأول لا يقتصر على قوى الغيب وما تملكه من مصائر البشر، بل يشمل قوى فوق الأرض تفرض أوضاعاً قد لا ترضاها السماء، والمجهول الثانى حياة بلا يقين فى عدل فوق الأرض، تبحث عن عوض عنه فى السماء، فى هذه المنطقة بين اليأس والرجاء، بين الخوف من المجهولين، يتوسل الإنسان بالأولياء: تقرباً إلى الله وابتغاء لمرضاته تغذيه وتحركه نحو ذلك ثقافة متأصلة منذ القدم لجماعات صوفيه التحمت بالذاكرة الجمعية، وأسست مرجعية لقطاعات عريضة من الشعب، عوضاً عن مرجعيات المؤسسات الرسمية المنوط بها إحقاق الحق والعدل، والتى لا يصل للبسطاء منها إلا قبضة البطش والتكميم. طه القرنى فنان الجماهير كما يحب أن يطلق عليه مكرم حنين مساعد رئيس تحرير الأهرام الذى يقول حول مادة العمل: يصل رواد الموالد المصرية إلى ما يقارب اثنى عشر مليونا من البشر، ويصل عدد المشايخ والطرق الصوفية إلى ما يقارب ثلاثة آلاف وستمائة وخمسين وليا وصاحب مقام ، ولكن يمكن اختصار أشهرها إلى عشرين طريقة، تبرز أنشطتها فى المدن الرئيسية، والباقى فى القرى والنجوع والأماكن النائية، بحسب دراسة للفنان طه القرنى عاشق تجمعات المهمشين والذى سجل اسمه فى موسوعة جينز العالمية لأطول لوحه زيتية، وكان موضوعها "سوق السيدة عائشة" وقد بلغ طولها 22متراً. وقد أثارت ضجة كبيرة وحوارات متعددة فى كافة وسائل الإعلام العالم الماضى. ويضيف حنين: مفاجأة ثانية أن يخرج علينا الفنان المتمكن طه القرنى بعمله البانورامى الضخم "المولد" التى يصل طولها إلى 32متراً فى تكوين واحد متصل. لا يستطيع الإنسان إدراكها فى يوم واحد وقد استغرق الفنان ما يزيد على أربعة أعوام كاملة فى إنجازها، وهذا يكشف لنا مدى الإصرار والعناد الذى تميز به الفنان لكى ينال مكانة رفيعة وسط الفنانين المصريين، بالتحامه الذكى مع أفراد وجماعات من الشعب فى تجمعاتهم، وقد اختار هذه الطريق عن وعى كامل ودراسة وتعاطف وبمنتهى الحرية والتفانى، قام بتصوير المئات من هذه الشخصيات الفقيرة والمهمشة، التى يتجنبها كثير من البشر، مخلداً وجودهم وعشوائية حياتهم، كاشفا عن بشر يعيشون فى متاهة تأويهم الشوارع والعشوئيات والمقابر.