المشهد الثورى فى مصر الآن يتماوج بألوان الطيف السبعة، والمهتم بالشئون المحلية لا تتملكه الدهشة من سرعة هذه التموجات فحسب، بل والحيرة أيضا. والصراع الذى بدأ مبكرا على كرسى رئاسة الدولة الفرعونية العريقة يشى بالكثير من القلق والرعب، فالثوار الشبان الذين أفادوا الجماهير فى نهار الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير يواجهون مأزقا خطيرا، إذ أدركوا أنهم مجرد لون واحد من ألوان الطيف السبعة التى تموج بها حركة الملايين سواء الذين ساندوهم أو لم يساندوهم فى ثورتهم ضد الاستبداد وحينما كانوا يخوضون معارك كوبرى قصر النيل، وميدان التحرير، ومعركة الجمل الشهيرة ومعركة وزارة الداخلية الدامية، ناهيك عن معارك السويس والإسكندرية والمنصورة وباقى محافظات مصر المحروسة. كما أن استحقاق الديمقراطية يتطلب من هؤلاء الشبان تقبل ذلك المارد الذى طلع عليهم بعنفوانه بعد أن انكشف عنه غطاء الجهل والتخلف وضيق الأفق نتيجة لممارسات الاستبداد والقمع والفساد السياسى والاقتصادى على مدى أكثر من أربعين عاما على الأقل، وقد خرج هذا المارد من رقدته الطويلة ساعيا إلى ابتلاع كل الحبال التى يراها صغيرة أمامه. ولعبة الديمقراطية بقدر جاذبية بريقها الأخاذ فهى مؤلمة فى معظم الأحيان، والرجل المحظوظ الذى يهيئه القدر للقبض على مقعد الفرعون الأعظم أمامه ثلاثة مشاهد دراماتيكية لنظرائه السابقين فى دولة الاستبداد الأولى بعد ثورة يوليو 1952. المشهد الأول للزعيم ناصر صاحب الشعبية الطاغية وهو يطيح بالعجوز محمد نجيب عام 1954 ويهدر الفرصة الثمينة لتأسيس دولة ديمقراطية على الطراز الحديث، ولكنه يستغل كاريزمته وطغيان قوة تأثير شخصيته على زملائه فى الانفراد بالسلطة والاندماج مع الجماهير الفقيرة مستمدا منها شرعيته الثورية التى قبلت تهوره أمام القوى الغربيةوالولاياتالمتحدة وحتى مع حلفائه فى موسكو من أجل مصالح الدولة المصرية واستقلال إرادتها، لذا لم يكن غريبا أن تحيطه الجماهير الفقيرة بالإعجاب والتأييد رغم القمع الأمنى شديد البأس للمعارضين السياسيين، ورغم الهزيمة الساحقة من العدو الصهيونى عام 1967، وخرج ملايين الفقراء وقتها يرفضون تنحيته عن السلطة ويطلبون منه الاستمرار فى قيادة البلاد لحين الثأر واسترداد الأراضى المحتلة، وتكرر المشهد ذاته يوم وفاته فى سبتمبر 1970 حيث غصت الميادين والشوارع المصرية بملايين الفقراء المذهولين، غير المتصورين أن بإمكانهم الاستمرار بغير ناصر. والمشهد الدراماتيكى الثانى للسيد أنور السادات الذى نصبه ناصر نائبا له عام 1969 . وعندما تولى السلطة عام 1970 طارده شبح ناصر وكاريزميته فقرر التخلص من أعوانه ومريديه فى الحكم والتنظيم الشعبى الوحيد الاتحاد الاشتراكى. ونجح بالفعل فى الزج بهم فى السجون والانفراد بالسلطة فى مايو عام 1971، وتملكه الزهو كثيرا بعد الانتصار المدوى على الدولة العبرية عام 1973 الأمر الذى لم يتمكن سلفه الأسطورى من تحقيقه، وعوضا عن الالتحام بشعبه والاستقواء بجماهير المنتصرين فى الحرب وفرض إرادة الشعب المنتصر فاجأ الجماهير بتصريحات عن أن إرادة السلام كاملة بيد الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعن أن حرب أكتوبر آخر الحروب، ثم الانشغال بإصلاحات اقتصادية على النموذج الغربى أفقدت الجماهير مكتسباتها السابقة وأفقدته تناغمه مع شعبه، بل وابتعد كثيرا عن وجدان الجماهير وعقولهم، فلم يحقق لهم السلام مع الدولة العبرية والذى هبط عليهم بالبراشوط أية مكتسبات إنسانية ومعنوية، وانتهى الأمر بعزلته التامة عن السياق العربى والمحلى واندماجه فى عجلة المصالح الأمريكية والصهيونية التى لم يجن من دورانها سوى الإحباط واليأس والتهور الذى انتهى إلى مصرعه فى مشهد دراماتيكى لم يتوقف عنده ملايين الفقراء من المصريين كثيرا. والمشهد الثالث للسيد حسنى مبارك الذى استلم السلطة بعد مقتل السادات فى حادث المنصة المثير يوم السادس من أكتوبر عام 1981، وانشغل بتوسيع نطاق المؤسسات الأمنية واختصاصاتها، وسمح للمغامرين من أصحاب الأعمال بالتغلغل فى "كرش" البلد ونهبها عن طريق احتلالهم المقاعد الأمامية فى المجالس التشريعية ولجنة سياسات الحزب المهيمن على السلطة وتقلدهم أرفع المناصب فى السلطة التنفيذية، وربط حزام الأمان لسلطته المطلقة فى البلاد بماكينة المصالح الأمريكية الصهيونية الرهيبة التى لا تعرف الرحمة ولا الشفقة، وقد اعتمد على التأييد الأمريكى الإسرائيلى لسياساته وتثبيت أركان حكمه وانفصل تقريبا عن شعبه الذى تم اختزاله فى حفنة من الأفراد يمثلون ما سمى بالحزب الوطنى واعتقد أنهم جميع أفراد الشعب المصرى، وأخيرا شغلته مسألة توريث الحكم وأبعدته أكثر عن فهم حكمة المصريين فى السياسة والحكم، وواجه ثورة شعبية كبيرة طالبت بإخراجه ونظامه من الحكم، وتحقق للثورة ما أرادت. وفرعون مصر القادم وهو يستعد لدخول قصر القبة بضاحية مصر الجديدة بالقاهرة ينبغى أن يعلم أن الزعيم الكاريزمى "ناصر" أهدر فرصا ثمينة لإنجاز دولة ديمقراطية حقيقية تعتمد على المؤسسات وليس على كاريزما الفرد المسيطر واكتفى بتأسيس نظام يحكم من خلاله، أفضى إلى نظام حكم استبدادى مطلق استفاد منه كل من خلفه، لكنه لم ينفصل عن شعبه على أى حال، وأما الذين اعتمدوا على قوى خارجية فى التأييد والمساندة وانفصلوا عن جماهيرهم فحالهم كحال من بنى لنفسه قصرا فوق الرمال يحتمى داخله.