باتت مصر وللمرة الأولى منذ أكثر من خمسة عقود ملهمة للعالم أجمع، ونسج شبابها تاريخا جديدا من بعض ما تبقى من خيوط الأمل، فخور لأننى من هذا الجيل، وفخور لأننا ولأول مرة بعد سنوات من التهميش أصبحنا نصنع الحدث ولا نكتفى بالمشاهدة والتصفيق والتهليل. كنت على يقين بأن التغيير قادم لامحالة، وأن الثورة ولو كانت مقدماتها بطيئة الإ أنها على وشك أن تبدأ، لأن هذا الجيل وإن لم يكن مثقفا فهو جيل على قدر كبير من الوعى، ويعرف جيدا ماذا يريد، رغم كل محاولات التهميش من النظام المتسلط الذى كان على استعداد أن يقتل شعب بأكمله ليعيش هو !هناك بعض المشاهد عايشتها فى ميدان التحرير لن أنساها لأنها أكدت على قيمة هذا الشعب الأصيل، خاصة عندما جرى الشباب ليجعلوا من أجسادهم دروعا بشرية لحماية المحتف المصرى، وعندما وقف الشباب المسيحى دروعا بشرية لحماية المسلمين أثناء الصلاة فى الميدان، ومشاهد كثيرة أخرى تستحق أن تصنع تاريخا جديدا. حتى جاء خطاب الرئيس مبارك الأخير، والذى كان عاطفى بدرجة كبيرة، وكان تاريخى أيضا، ربما لأن تنازلات الرجل جاءت رغما عنه، وكنت من الذين يؤيدون فكرة استمرار الرئيس حتى نهاية مدتة من أجل تحقيق ما وعد به، أو ربما لأن وجوده – للأسف - ضرورى الفترة القادمة. وللحق، نعرف أن الرجل عندما يعد لا يفى أبدا بوعوده، وكان لمن آثر الأ يترك الميدان الحق فى الحديث عن ضمانات، ولكنى كنت ممن اكتفوا بهذه اللحظات التاريخية ضمانا لكى يحقق ما يريده الشعب خاصة وأن ميدان التحرير ليس ببعيد. كنت من أشد من انتقد الرئيس مبارك ولكننى أرفض تماما إهانة شخص الرجل أو تعليق لافتات بكلمات غير لائقة، وهذا ليس دفاعا عنه بقدر ماهو دفاعا عن هيبة الوطن، هيبة مصر التى هى أكبر من هذا الرجل بكثير سقوط الرئيس بهذه الطريقة المهينة سينشئ عُرفا فيما بيننا أن نسقط كل رئيس لا يعجبنا فى أيام معدودات، وأما من يتشدقون بالحديث بأن رحيل مبارك الآن سيحدث فراغا.. هو كلام فارغ. الشئ اللافت للانتباه هو فوضى التخوين، هناك من يرون أن من هم فى ميدان التحرير الآن خونة ومرتزقة ومندسين، وهو أمر فى غاية الخطورة، لأن معظم من فى الميدان يعرضون أنفسهم لأخطار جمة من أجل حرية هذا الوطن، والشىء المحزن أن يصدق بعض المثقفين إدعاءات التلفزيون المصرى العقيم بأن من هم فى الميدان إما إخوان أو من إيران أو من إسرائيل أو من سلاحف النينجا! هم لهم حق مشروع فى التظاهر، وأعتقد أن خطاب الرئيس لو كان خرج مبكر لكان حفظ دماء الشهداء والجرحى، لذلك من يختلف مع من فى الميدان عليه ألا يُخّونهم لأنهم يصنعون تاريخا وللإنصاف، كما خرج جمع من بلطجية النظام لكى يرهبون شباب التحرير بعد خطاب الرئيس الأخير، هناك أناس خرجوا يتعاطفون مع الرجل، أناس بسطاء، هو حق مشروع أيضا لهم كى يعبروا عن آرائهم. أكتر ما أزعجنى فيما حدث بعض هؤلاء الذين أرادوا أن يركبوا موجة التغيير، فالأحزاب المريضة أخذت تفرض شروطا وتظهر فى الحدث كأنها من صنعته رغم أنه لم تتحرك سوى بعد يقين تام بأن الثورة نجحت، ربما لأن الأحزاب كلها تربت فى "حجر" أمن الدولة وحضن النظام. كذلك أزعجنى كثيرا تحركات البرداعى واتصالاته مع أمريكا، ونغمة حديثه عن أنه سوف يتنازل إذا ما طلب منه قيادة مصر نزولا عن رغبة المصريين، أو هكذا خُيل له، وأكثر ما أزعجنى أيضا حديث خامنئى عن أن مصر تصنع ثورة إسلامية ومع احترامى لشخص الرجل "وهو ماله أهله". الثورة "شعبية" سلمية بامتياز صنعها شباب لا ينتمون لأحزاب سياسية أو تيارات بعينها، رغم وجود عدد من النشطاء، شباب مصر لن يسمحوا هذه المرة أيضا بتزييف التاريخ، ولاتصديق من يتحدثون عن اليورو وكنتاكى والشاب الأجندة! الثورة فن التغيير، والفن يحمل فى طياته الذوق العام، الاختلاف وارد والخلاف طالما على حب الوطن مقبول، على الغرب أن يصمت، وعلى شباب مصر أن يكملوا ثورتهم كما يريدون طالما أنهم ضحوا من أجلها. خلاصة ما أقول، علينا أن نتقبل الآخر وإن اختلفنا معه، شباب التحرير ليسوا مندسين وليسوا خائنيين، إن لم نقف معهم فعلينا أن ندعوا لهم، وإن اختلفنا معهم فعلينا أن لانخّونهم، لا نحب الرئيس مبارك ولكن لانهينه، رحيل الرئيس أمر ضرورى ولكنه فى هذه اللحظة غير صحيح، فبقاؤه قد يكون حلا أنسب وإن لم يكن الأفضل يكفينا أن نقول أن مصر قبل 25 يناير ليست مصر بعد 25 يناير، مصر القادمة هى التى نحلم بها ونتمناها، الشعب المصرى بالكامل صنع هذه الثورة وشارك فى كتابة تاريخها، فيما عدا بلطجية الحزب الوطنى، فالشباب الذين باتوا فى الشوارع يدافعون عن أعراضهم مثلهم كمثل هؤلاء الذين يقفون فى التحرير، لا فرق بينهم أبدا.