أسعار الذهب في مصر اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025    أسعار الخضراوات والفواكه بأسواق كفر الشيخ.. البطاطس ب10 جنيهات    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025    أجواء شديدة البرودة وشبورة كثيفة.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس اليوم    إصابة 4 أشخاص إثر تصادم ملاكي مع ربع نقل بقنا    وزير التعليم يكشف حقيقة عدم دستورية نظام البكالوريا    جيش الاحتلال: هاجمنا عنصرًا مسلحًا في الناصرية جنوبي لبنان    طقس الكويت اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025    أسعار الأعلاف في أسوان اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025    مودرن سبورت يعلن رحيل مجدي عبد العاطي    نتائج مباريات الجولة الأولي لدور المجموعات فى كأس أمم إفريقيا 2025    النصب على الرئيس    بوتين يشيد ب«بطولات جنود كوريا الشمالية» في حرب أوكرانيا    تحطم طائرة رئيس الأركان الليبي في تركيا.. تحقيق شامل وتفاصيل الرحلة الأخيرة    رئيس وزراء أوكرانيا السابق: تمسك زيلينسكي بالجيش المقاتل يدل على عدم اهتمامه بالسلام    هل يجب الاستنجاء قبل كل وضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    حكم تعويض مريض بعد خطأ طبيب الأسنان في خلع ضرسين.. أمين الفتوى يجيب    حين يكون الخطر قريبًا.. كيف تحمي الدولة أطفالها من الاعتداءات الجنسية؟    تحدث بعد الجرعة الثانية، اكتشاف سبب التهاب عضلة القلب النادر بعد لقاحات كورونا    "العدل" الأمريكية تكشف عن مليون وثيقة إضافية مرتبطة بإبستين وتبرر أسباب تأخر النشر    إخلاء العقارات المجاورة لعقار المنصورة المنهار | بالصور    كان على وشك الزواج.. حبس ربة منزل لقتلها طليقها بشبرا الخيمة    تطعيم الجديري المائي بمراكز «فاكسيرا» في القاهرة والمحافظات    الكويت تدين الهجوم المسلح الذي استهدف أفراداً من الشرطة الباكستانية    الكرملين: المفاوضات حول أوكرانيا ينبغي أن تجري خلف أبواب مغلقة    وزير الثقافة يلتقي محافظ الأقصر لبحث تكثيف التعاون    بطولة أحمد رمزي.. تفاصيل مسلسل «فخر الدلتا» المقرر عرضه في رمضان 2026    بعد غياب أكثر من 4 سنوات.. ماجدة زكي تعود للدراما ب «رأس الأفعى»    سقوط نواب بارزين وصعود وجوه جديدة.. أطول ماراثون برلماني يقترب من خط النهاية    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الخميس 25 ديسمبر 2025    بعد 159 عامًا في قصر العيني.. «البرلمان» ينقل جلساته للعاصمة الجديدة    إعلام فلسطيني: قوات الاحتلال تطلق النار على مناطق بخان يونس ومدينة غزة    بعد تصريح مدبولي: "لا أعباء جديدة حتى نهاية برنامج صندوق النقد الدولي".. كيف طمأنت الحكومة المواطنين؟    كارم محمود: لم أجد صحفيا مهنيا تورط يوما في انتهاكات أثناء تغطية العزاءات    كأس الأمم الأفريقية 2025.. الكاميرون تهزم الجابون بهدف "إيونج"    خبير مروري لتليفزيون اليوم السابع: تغليظ عقوبات المرور يعالج سلوكيات خطرة    لم تحدث منذ 70 عاما، محمد علي خير يكشف "قنبلة مدبولي" للمصريين في 2026    موعد مباريات اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025| إنفوجراف    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في قضية السباح يوسف    بالأسماء، أحكام الإدارية العليا في 49 طعنا على نتائج ال 30 دائرة الملغاة بانتخابات النواب    صاحب فيديو صناديق الاقتراع المفتوحة بعد خسارته: لم أستغل التريند وسأكرر التجربة    العالمي فيديريكو مارتيلو: الموسيقى توحد الشعوب ومصر وطني الثاني    صفاء أبو السعود: 22 دولة شاركت في حملة مانحي الأمل ومصر تلعب دور عظيم    سكرتير بني سويف يتابع أعمال تطوير مسجد السيدة حورية للحفاظ على هويته التاريخية    تحت عنوان: ديسمبر الحزين 2025.. الوسط الفني يتشح بسواد الفقدان    أخبار × 24 ساعة.. رئيس الوزراء: انتهاء برنامج مصر مع صندوق النقد الدولي بعد عام    بالصور .. محافظ الجيزة يزور الكنيسة الكاثوليكية لتهنئة الأقباط بعيد الميلاد المجيد    ما حكم حشو الأسنان بالذهب؟.. الإفتاء توضح    ترتيب أمم إفريقيا - رباعي عربي في الصدارة عقب الجولة الأولى    الكاميرون تفتتح مشوارها الإفريقي بانتصار صعب على الجابون    محافظ القليوبية: توريد الأجهزة الطبية لمستشفى طوخ المركزي تمهيدا للتشغيل التجريبى    محافظ الدقهلية ورئيس جامعة المنصورة يتفقدان أعمال التطوير بمكتبة مصر العامة    يلا شوت بث مباشر.. مشاهدة الكاميرون × الجابون Twitter بث مباشر دون "تشفير أو اشتراك" | كأس الأمم الإفريقية    وسرحوهن سراحا جميلا.. صور مضيئة للتعامل مع النساء في ضوء الإسلام    إقبال كثيف للمصريين بالخارج على التصويت بانتخابات النواب والفئة العمرية "31–50" عامًا تتصدر    صحة الفيوم تطلق مبادرة "صوت المريض" لدعم مرضى الكلى    محافظ البحيرة تتفقد القافلة الطبية المجانية بقرية الجنبيهي بحوش عيسى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 24-12-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.محمد المهدي يكتب:ثورة جيل عربي مختلف(رؤية تحليلية لثورة الشباب العربي ضدالهوان)
نشر في الدستور الأصلي يوم 03 - 02 - 2011

كان جيل الأجداد يرتعد من العمدة وشيخ الخفراء ويدعو للوالي بطول العمر والبقاء , وكان جيل الآباء يهرب فزعا من أي "بذلة ميري" ويقبل أيدي الحاكم ورأسه وكتفه وربما قدميه ويدعو له بدوام الحكم وتوريثه لأبنائه وأحفاده , وحين ينصرف من حضرته يلعنه في سره فإن لم يستطع ففي منامه . واستقرت هذه الصورة في إدراك أولي الأمر العرب فتعاملوا مع الشعوب العربية على هذا الأساس لسنوات طالت حتى الملل , بعضهم يكتفي بالترهيب وبعضهم يمزج الترهيب الواسع بقليل من الترغيب , وسادت قناعة لدى القاصي والداني بأن الشعوب العربية ليست شعوبا وإنما رعية (مأخوذة من رعي الغنم وليس من الرعاية) , وليسوا مواطنين وإنما ضيوف ثقلاء على أولي الأمر إن شاءوا أكرموهم وإن شاءوا صرفوهم أو أهانوهم . ومع طول الوقت وتنامي الخوف اكتسبت الشعوب العربية أخلاق العبيد وتنازلوا لحكامهم طوعا أو كرها عن الحرية والكرامة الإنسانية ورضوا بلقمة العيش المغموسة في المذلة والهوان . واستدعت الذاكرة التحليلية تعرض غالبية الشعوب العربية للإستعمار مرات عديدة من أراذل البشر وبادر المحللون بالقول بأن الشعوب العربية شعوبا قابلة للإستعمار , وحين تحررت تلك الشعوب من الإستعمار الأجنبي وقعت في قبضة بعض أبنائها الذين ألغوا إرادتها وسلبوا خيراتها واستبدوا بها فأصبحت تلك الشعوب توصف بأنها "قابلة للإستحمار" .
الآن قد تغير الوضع وظهر جيل جديد لم يفهمه الآباء ولم يفهمه أولي الأمر , جيل لم يتعود تقبيل أيدي أبيه أو عمه أو جده , جيل لا يخشى الكاب أو النجمه أو الدبوره , جيل بدا مستهترا بالضوابط والقوانين فخرج بسيارته يقود بسرعة جنونية ويقطع إشارات المرور , جيل لا يشرب اللبن مساءا ولا ينام مبكرا , جيل تمرد على نظام التعليم وعلى القيم السائدة , جيل دخل على الإنترنت منذ نعومة أظفاره وتجول في كل المواقع ورأى كل شئ وأي شئ دونما استثناء أو خجل أو استحياء , ورأى وعرف في طفولته المبكرة مالم يره أو يعرفه آباؤه في شيخوختهم المتأخرة , جيل كبرت طموحاته وقصرت إمكانياته , جيل تعرض لإغراءات بالمتعة والرفاهية والصعود ثم اكتشف أن إمكاناته لا تسمح بشئ من ذلك , جيل اطلع على أنماط الحياة في دول العالم المتقدم فرأى الحرية والمساواة والعدل وحقوق المواطنة والرفاهية ووسائل المتعة ثم حين أغلق جهاز الكومبيوتر رأى واقعا تعسا في بيته ووطنه , جيل رأى ديموقراطية حقيقية في أكثر دول العالم بينما وطنه مازال يركع للحاكم الأبدي ويدعو له ولأولاده بدوام البقاء , جيل رأى الشفافية في بلاد كثيرة بينما رأى في بلده كل ألوان الفساد واللف والدوران والألاعيب الثعبانية والثعلبية , جيل عجز أن تدور أحداث حلمه داخل حدود الوطن فكفر بالوطن وظل ينتظر بلهفة تلك اللحظة التي يعبر فيها الحدود إلى وطن آخر أكثر عدلا وحرية وجمالا وشفافية وديموقراطية وعطاءا , جيل حاول الهروب من الوطن فغرق على سواحل أوروبا أو تجمد في جليد غاباتها , جيل رفض أن يتلوث وعيه بأفكار الآباء الإنهزامية البالية فتمرد على كل شئ حتى على نفسه , جيل وجد بعضه معرضا للإنتحار يأسا وكمدا دون أن تمتد إليه يد المساعدة حتى لو أعذر وأنذر واستغاث وهدد , جيل يئس من الكبار الذين تربوا على الكذب والنفاق والفهلوة والغش والخداع والرشوة والمحسوبية والذل والهوان وأخلاق العبيد , جيل يملك الكثير من الإمكانات والمهارات والطموحات ولا يجد لها مكانا في وطنه , جيل عجز عن تحقيق حلمه في زواج من أحبه فتورط في علاقات ألهبت ضميره فاستبدلها بزواج عرفي عله يشعر ببعض الطمأنينة , جيل تلقى تعليما فارغا من المضمون ومتخلفا عن العصر وتسلم في نهاية مشواره المضني ورقة (شهادة) اكتشف أن ليس لها قيمة في سوق العمل أو معترك الحياة , جيل حاول الهروب بالإنغماس في المخدرات أو سماع الأغاني أو مشاهدة الأفلام على الإنترنت ولكنه حين يفيق يشعر بالإنحدار والهوان أكثر فأكثر , جيل حاول البحث عن معنى عميق لحياته لدى الدعاة الدينيين فاكتشف أنهم سطحوا فهمه وزيفوا وعيه ودعوه لمزيد من الإستكانة والخضوع لكل كبير واختزلوا قضيته في لحية وثوب وسواك وبعض الطقوس , جيل اكتشف أن حكامه ربضوا على أنفاسه سنوات طوال عجاف وخدروا وعيه بوعود تتجدد مع كل دورة حكم وطالبوه بالصبر حتي تؤتي السياسات نتائجها في المستقبل القريب واكتشف أنه يجري وراء سراب , جيل اكتشف أن ثمة تمثيلية تجري في وطنه يشارك فيها أشخاص يسمون أنفسهم رؤساء أحزاب وقادة معارضة ورموز فكرية وثقافية والجميع في النهاية يسعون لمصالح شخصية ضيقة ويتبنون مواقف براجماتية انتهازية ويعملون على ترسيخ وتثبيت الوضع القائم لأجل غير مسمى .
ربما يشكل "محمد بوعزيزي" في لحظة حرقه لنفسه تجسيدا مكثفا لأزمة هذا الجيل من الشباب العربي , فهذا الشاب قد حصل على مؤهل عال يفترض أن يؤهله لحياة كريمة في وظيفة لائقة , ولكنه لم يجد ذلك وإنما اضطر (كي يعيش) أن يعمل على عربة خضار , ولنا أن نتصور قدر الهوان الذي يشعر به كل يوم وهو يجر أو يدفع عربة الخضار ليعود بقروش قليلة آخر النهار بالكاد تسد رمقه , ولنا أن نتصوره وهو جالس مع نفسه يحلم بشريكة حياته التي حلم بها سنوات طويلة , كيف يتقدم لها ولأهلها بأنه بائع خضار على الرغم من كونه حاصل على مؤهل علمي , وكيف يتخيل حياة أبنائه ونظرتهم إليه وهو يقضي يومه في الشارع على هذه العربة .وللعلم فإن الذين وصفوا محمد بوعزيزي من أهله وجيرانه وأصدقائه ذكروا بأنه كان شابا نشطا واعدا مبدعا ومحبا للحياة , وهذا يجعله أكثر وعيا وألما بما يحدث له . إذا كنا قد استطعنا أن نستوعب الأزمة التي عاشها بوعزيزي حتى هذه المرحلة فإن بإمكاننا أن نقترب من اللحظة الحرجة التي جعلته يفضل الموت حرقا على تلك الحياة (وهي حالة مرشح لها الكثير من الشباب العربي المحبط) , وذلك حين أتت الشرطة لتخطف منه لقمة عيشه الجافة (ممثلة في عربة الخضار) وحين يعترض على ذلك (كأبسط حقوقه الإنسانية) تصفعه امرأة "شرطية" على وجهه فتهين كرامته كرجل وتهين كرامته كمواطن وتهين كرامته كإنسان . وربما يكون في طبقات وعيه إحساس بالهوان والإذلال والغضب من "امرأة" أخرى غير تلك الشرطية , امرأة هي زوجة الحاكم لبلده وهي تتحكم في ثروات البلد وتنتزعها من الشعب وتوزعها على أقربائها , أو يكون في طبقات وعيه امرأة أخرى يذهب ليتقدم لخطبتها فتنظر له باذدراء على أنه بائع خضار في الشوارع , أو امرأة أخرى أحبها وحلم بزواجها ولكنها هجرته نظرا لحاله المتردي . إنه إحساس الهوان والإذدراء ذلك الإحساس الذي يسيطر على كثير من الشباب العربي وهو يرى نفسه "لاشئ" ولا يعبأ به أحد ولا يهتم به أحد ولا يحترمه أحد . تلك هي اللحظة الفاصلة التي شعر فيها بوعزيزي بمشاعر مركبة ومعقدة منها غضبه الشديد من المرأة التي أهانته وأذلته ومن الحكومة التي أفقرته وسلبته حقوقه وحريته ومن الناس الذين خذلوه ولم يدافعوا عنه في محنته , وربما كره نفسه لأنه رضي بالمهانة والذل والخضوع , ولأنه ضعيف أمام كل هذه القوى المسيطرة عليه فقد توجه بغضبه وعدوانه نحو ذاته فدمرها بأقصي درجات التدمير وهي الحرق , وكانت صورته وهو منحني أو راكع تحت وطأة الألم والشعور بالهوان ملهمة ليس فقط للشعب التونسي كي يهب ويطالب بحقوقه , ولكن للشعوب العربية كلها التي عاشت نفس الظروف بأشكال مختلفة . وتوالت أحداث الإنتحار حرقا بين أفراد عديدين في أكثر من بلد عربي ربما تقليدا لنموذج بوعزيزي الذي نال شهرة إعلامية واسعة وربما رغبة في أن يتكرر سيناريو التحرر التونسي في بلاد عربية أخرى تهفو نحو التغيير من سنوات طويلة وربما لإثارة الإنتباه نحو معاناة الناس لدى سلطات عربية فقدت القدرة على سماع معاناة الناس مهما ارتفع صوتها , وربما انتقاما من ذات المنتحر وكراهية واحتقارا لها لأنها رضيت بالذل والهوان سنوات طوال , ومن هنا نستطيع القول بأن ظاهرة استشرت في العالم العربي وهي "حرق الذات" أو "الإنتحار الإحتجاجي" أو "البوعزيزية" .
واستنفر المستبدون على طول الوطن العربي وعرضه كلهم يرددون عبارة واحدة "نحن لسنا مثل تونس" , والجميع يعلم بأنهم "أسوأ من تونس" لأنهم يمارسون القهر السياسي والفساد بطرق ملتوية , وهنا فقط يصدق قولهم بأنهم ليسوا مثل تونس . وقد فوجئ هؤلاء الذين حاولوا الإستمرار في الإنكار بموجات الإحتجاج والغضب تجتاح شوارعهم طلبا للخبز والحرية والعدل والمساواة والديموقراطية والكرامة الإنسانية , حدث هذا في مصر واليمن والجزائر والأردن والسودان ولبنان . والمراقب للأحداث والتداعيات يدرك بوضوح أننا أمام ثورة شعبية عربية حقيقية لايحركها تجار السياسة ولا يحركها المنظرون والفلاسفة , وإنما يحركها ذلك الشباب الذي وصفناه آنفا بكل مزاياه وعيوبه , وقد نجح فعلا هذا الشباب في تحريك الشارع العربي بقوة وفعالية بعد أن يئس الجميع من إمكانية قيامه من سباته العميق , وكان الرأي السائد هو أن الشعوب العربية شعوبا ليست ثورية بطبيعتها , وأنها شعوبا منقادة قابلة للإستهواء والإستلاب والقهر والإغواء والإحتواء والإستعمار والإستحمار , فإذا بهذا الشباب يغير هذه النظرة ويفعل شيئا مختلفا . ولقد استخدم أدوات جديدة على الجيل القديم , تلك الأدوات التي كان يقضي فيها ومعها ساعات طويلة مثل الإنترنت والموبايل , هاهو الآن يستخدمها للحشد والتنظيم , وينشئ بها غرف عمليات , ويدير بها المظاهرات والإعتصامات بشكل حيّر المراقبين وأدهشهم .
وشعور الهوان لدى الشباب العربي ليس فقط من العوامل والظروف الداخلية وإنما من القهر الخارجي الذي يعانيه حين تتعامل إسرائيل وأمريكا مع بلاده وغيرها من البلاد العربية بقدر هائل من الإستعلاء والإحتقار والإذلال , وحين يحاول أن يأخذ موقفا تجاه كل هذا يفاجأ بموانع وعقبات داخلية , ويفاجأ باستسلام وتسليم أولي الأمر , ويفاجأ بضياع الحقوق العربية وامتهان الكرامة العربية واحتلال الأراضي العربية وسلب الإرادة العربية واحتقار الذات العربية .
وإذا حاولنا قراءة الشعارات المرفوعة في المظاهرات الأخيرة في تونس ومصر والجزائر واليمن والأردن ولبنان وغيرها فهي تتركز حول لقمة العيش والبطالة ورفض الإستبداد والمناداة بالحرية والعدل والمساواة ورفض التمديد والتوريث , ووراء كل هذا تجد محورا هاما وهو الشعور بالهوان , ذلك الشعور الذي أصبح يسيطر على المواطن العربي ويوخز وعيه , ويزداد ذلك الوخز كلما ازدادت مساحة الوعي , ومساحة الوعي تزداد كل يوم خاصة مع الوسائط الإعلامية الحديثة والمتعددة .
والصورة الآن هي كالتالي : أنظمة حكم عربية شاخت على كراسيها وتجاوزها الزمن منذ سنوات بعيدة وهي مصرة على التشبث بكراسيها بأي ثمن وبأية طريقة حتى لو تفتتت أو ضاعت أو احترقت الأوطان , وحتى حين تشعر باستحالة أن تعيش للأبد تسعى لتوريث السلطة للأبناء , وفي حالات الخطر نراهم يركبون طائراتهم ويحملون أموالهم ويتركون الوطن يحترق بأهله ويعيشون في رفاهية في البلد الذي يقبل إقامتهم , وفي المقابل نرى شبابا تفتحت عينه على عوالم وتقنيات حديثة وأفكار جديدة لاتفهمه تلك الأنظمة ولا تتواصل معه ولا تضعه في الإعتبار , وهذا الجيل ليس قابلا للخداع أو للإحتواء أو للإستهواء كما كان الحال مع جيل الآباء والأجداد , فهو أكثر وعيا وأكثر اطلاعا على الثقافات وأكثر تواصلا مع العالم الخارجي المتقدم , وأكثر تمردا , وأكثر معاناة , وأكثر طموحا وأقل إمكانيات وفرص . ومن هذا الفارق في التوقيت نفهم ثورة الشارع العربي على أيدي هذا الجيل الشاب المختلف الذي لم يفهمه زين العابدين بن علي (على الرغم من ادعائه بالفهم بعد فوات الأوان) ولا يفهمه بقية الحكام العرب الذين ظنوا أن بإمكانهم إيقاف عجلة الزمن أو على الأقل ضبط إيقاعه على إيقاع قلوبهم وأفكارهم البطيئة بحكم الشيخوخة .
والمشكلة لا تنحصر فقط في فارق التوقيت وفارق السرعة وفارق الإيقاع بين هذا الجيل الجديد والجيل الذي يحكم ويتحكم , وإنما تتمثل – كما ذكرنا - في شعور عام بالهوان لدى المواطن العربي شابا كان أو مسنا , فالجميع يشعر بالتهميش والإستبعاد على المستوى السياسي , حيث لا انتخابات ولا مظاهر حياة ديموقراطية في بعض الدول , أو انتخابات مزورة وديموقراطية شكلية خادعة في دول أخرى , والنتيجة النهائية حالة من الإستبداد المتواصل بلا نهاية ينتج عنها حالة من الفساد تجعل السلطة والثروة في أيدي حفنة قليلة من المنتفعين الإنتهازيين بينما غالبية الشعب يعيش على بقاياهم ويفتقد الحياة الكريمة .
وثمة تصرفات كثيرة ترسخ حالة الهوان لدى المواطن العربي , ربما نكتفي بذكر بعضها في الحالة المصرية كمثال , فعلى الرغم من كثرة المعاناة في الحياة اليومية المصرية , ومحاولة الشكوى والإحتجاج , والنوم على الأرصفة لأيام وأسابيع أمام مجلس الشعب ومجلس الوزراء ومجلس الشورى إلا أن الإستجابة لهؤلاء الشاكين والمتوسلين والمتسولين تكون إما منعدمة وإما ضعيفة للغاية , والسمة السائدة هي التجاهل وصم الأذان وإغلاق الأعين والأفهام من المسئولين . وتستمر المعاناة في التعليم وفي الصحة وفي الشوارع وفي المصالح الحكومية وفي أقسام الشرطة والمحاكم وفي كل مكان دون وجود علامات تغيير حقيقي وكل مايراه أو يسمعه الناس هو بيانات حكومية متكررة تؤكد أن معدلات النمو الإقتصادي في ارتفاع , ثم يكتشف أنها ارتفعت فعلا ولكن على شاشات الكومبيوتر أو لدى الطبقات الأكثر غنى بينما يزداد هو فقرا وحاجة كل يوم , ويخرج منظرو الحزب الوطني كل يوم يتحدثون عن إنجازات عملاقة ويعدون المواطن أنه يحتاج لبعض الوقت كي يشعر بتلك الإنجازات , وأن المشوار مازال طويلا على طريق التنمية وعليه بالصبر , وكأنه لم يصبر عليهم ثلاثين سنة مضت بلا نتيجة اللهم إلا زيادة المعاناة . ويحلم الناس بتغير الوجوه والسياسات عن طريق صندوق الإنتخابات , ولكن يفجأ الجميع بتزوير انتخابات المجالس المحلية ومجلس الشورى ومجلس الشعب , فتزداد حالة اليأس ويزداد الغضب ويتراكم خاصة مع خروج أقطاب الحزب الوطني يتباهون بانتصارهم العظيم وسحقهم للمعارضة وإزالتها من الوجود (في انتخابات يرونها رائعة وحرة ونزيهة) وكأن المعارضة مرض أو فيروس ضار نفخر بإزالته من الحياة السياسية . وحين تنغلق فرصة التغيير عن طريق صندوق الإنتخابات لا يبق إلا التغيير بالإحتجاجات والمظاهرات والضغط الشعبي , وهذا ما حدث في 25 يناير 2010 م ومازال مستمرا . وحين حدث ماحدث لم ينتبه المسئولون في هذا البلد ولم يفيقوا , ولم يتفهموا ثورة هذا الجيل الجديد المختلف , وتعاملوا باستخفاف واستعلاء مع الحدث (وتكررت نفس العبارات التي ذكرت في تونس من أنهم قلة مندسة أو مجموعة تحاول أن تركب الموجة وتهدد الإستقرار) , ومرت أيام والشوارع مشتعلة في أكثر من مدينة مصرية وسقط ضحايا أعزاء من أبناء مصر من الشباب الثائرين ومن الضباط والجنود , ولم يخرج علينا أحد من كبار المسئولين يطيب الخواطر أو يدعو للهدوء وضبط النفس أو يعد بتلبية بعض المطالب المشروعة (وكلها مشروعة ) , وإنما هي حالة التجاهل والإستعلاء وحالة الإحتقار للشعب وكأنه لا يستحق أن يخرج عليه مسئول كبير يخاطبه أو يخطب فيه أو يحاوره أو يهدئ من روعه , وإنما تنحصر الإستجابة في تصدير قوات الأمن المركزي تفرق المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع أو بخراطيم المياه الجبارة أو بالرصاص المطاطي والحي ليموت من يموت ويصاب من يصاب ويشتبك رجال الشرطة (المصريون) مع المتظاهرين الجوعى والمحبطين والمقهورين والغاضبين (المصريين) , بينما يجلس الكبار متعالين مترفعين في أبراجهم العالية , وهذا يرسخ الشعور بمزيد من الهوان الذي هو مستقر في النفس منذ سنوات ويكمن وراء ما يحدث وما سوف يحدث . وللأسف الشديد كان التعامل الأمني هو الأسلوب المتبع في كل الحالات على مدى العقود الثلاثة الماضية , حيث يوكل للأمن التعامل مع الناس مع غياب الحلول السياسية وغياب الحوار بين السلطة والمجتمع , وغياب القدرة على الإنصات لصوت الشارع مباشرة , وقد ألقى هذا أعباءا شديدة على الجهاز الأمني وورطه في مواجهات مع الناس أثرت على إدراك رجل الشارع لذلك الجهاز المهم , وربما نفهم ذلك من اختيار القائمين على المظاهرات ليوم عيد الشرطة ليكون موعدا للإحتجاج .
وحين خرج من خرج متأخرا جدا ليخاطب الجماهير جاء كلامه خاليا من المضمون وبعيدا جدا عن حرارة الحدث , فعاود الكرة ببعض الوعود كانت تنسفها الممارسات في اليوم التالي مع المتظاهرين , ومع هذا – للأسف الشديد – خرجت الخلايا النائمة في الإعلام والحزب الوطني تروج للخطاب التاريخي وتلهب مشاعر العوام ليخرجوا في مظاهرات تأييد للنظام الأبدي ولتكون تلك المظاهرات غطاءا لعدد كبير من البلطجية يعتدون بوحشية على الشباب النظيف النقي الطاهر في ميدان التحرير مؤكدين بذلك أن النظام لم ولن يتغير , وأن من شبّ وشاب على شئ لا يستطيع الآن تغييره حتى لو وعد , ولقد نسي الناس – وهم دائما ينسون – وعودا على مدى ثلاثين عاما كان يتحقق عكسها .
والسؤال الآن : ماهي التوقعات لتلك الحالة الثورية التي أصابت الشارع العربي , وامتدت من تونس إلى الجزائر إلى مصر إلى الأردن واليمن ولبنان والسودان ؟
غالبا ستمتد تلك الحالة وتحدث تغيرات جذرية وتغير التوقعات التقليدية من الشارع العربي , وذلك لأن القائمين بها جيل مختلف شعر بالهوان ولم تعد ترضيه وعودا ببعض الوظائف أو زيادة المرتبات فالأمر تجاوز ذلك بكثير , ومازالت الأنظمة العربية تعيش حالة من الإنكار وضعف الرؤية وضعف السمع واضطراب الإدراك لما يجري في الشارع على أيدي هذا الجيل الجديد المختلف .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.