"الشعب يريد إسقاط النظام".. بضع كلمات قليلة صريحة شكلت رسالة واضحة لا لبس فيها.. شعار رفعته "القلة" القليلة.. وصاغت كلماته الكثير من دماء الشهداء البررة من أبناء شعبنا.. هؤلاء الذين سقطوا كشهداء فى الأمس القريب على يد مأجورى النظام من أعداء الوطن، الذين تخفوا بيننا واختبئوا خلف ظهرنا.. انتظارا للحظة الانقضاض علينا وتصفيتنا. لم يك الخطأ فينا أو فى كلمات شعارنا، بل كان كل الخطأ فى جميع ما جاء به النظام.. مؤسساته ورجاله من سياسات، تلك التى حولت السواد الأعظم منا لمجموعة من العبيد تحيا على أرض وتحت سماء الوطن.. وطننا الذى قصره البعض عليهم فقط، بل وأسقطوا عنا شرف انتماءنا إليه عقابا لنا على اعتراضنا عليهم وعلى سياساتهم.. على سرقتهم لإرادتنا وتزويرهم لكلمتنا.. عقابا على رفضنا توريثه لهم ولأولادهم من بعدهم! خرجنا نحن البعض من أبناء هذا الوطن.. أطفالا.. شبابا.. كهولا.. خرجنا فى سلام للتنفيث عن بركان الغضب المكبوت بداخلنا، ذلك الذى ظل كامنا لسنوات خلف أسوار ضلوعنا.. يشق يوما بعد يوم مجراه عبر أنفاق صدورنا.. يحيا ونحيا معه.. حتى امتص الجزء الأكبر من الأوكسجين الذى نستنشقه وتحتاجه أجسادنا لمواصلة الحياة. خرجنا بعد أن أصابنا الاختناق وفاض الكيل، وضاقت بنا مختلف السبل، كذا بعدما أعمى ضباب "التزوير" أعيننا عن رؤية المستقبل الذى بات ينتظرنا. خرجنا للاحتشاد عسى أن نلقى خارجا أذان تنصت لنا.. عيون تشاهدنا.. عقل حكيم يتفهمنا.. صدرا أكبر يحتوينا.. لا أن يرده بغضبة أكبر ويصب علينا نارا أكثر إشتعالا وإحراقا.. خرجنا رافضين لما ألت له أوضاعنا، ووصل إليه حالنا، وذرفت أعيننا الدمع رثاءً عليه. لكن ماذا كان الرد؟ خطابان تأخرا علينا كثيرا.. خطاب أول للإعلان عن نائب رئيس وحكومة جديدة!.. وآخر حمل النية فى الرحيل، كذا ذكرى من الماضى البعيد وأمنية للمستقبل القريب. ذكرى المحارب.. الطيار البطل محمد حسنى مبارك، الذى خاض الحرب وانتصر، بل وأصر على استعادة الأرض حتى آخر شبر منها، من ثم كان التمنى نيل شرف الموت تحت سماء وعلى أرض وطن عاش عليه وضحى فى سبيله. كلمات خاطب بها الرئيس مشاعرنا قبل عقولنا، من ثم رجفت قلوب الغالبية منا، ذلك بينما ظلت عقول الأقلية متشبثة بأرائها ناظرة إلى ما حققته على أرض الواقع من منجزات أضافت لها من القوة ما يفوق قوة مختلف الكيانات والتيارات بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها، تلك التى ظهرت بعدها متخوفة من احتمالية اختفائها عن المشهد العام.. فراحت تبحث لها عن دور الآن، ومحاولة لعب دور الوسيط ما بين حركة التغيير والنظام، خاصة بعدما خلفه الخطاب الثانى من انقسام بين مؤيد ومعارض. كلمات لم تخلف وراءها فقط الانقسام، بل كذلك طرح وإثارة الكثير من الأسئلة، تلك التى يأتى منها: لماذا انتظر الرئيس خطابا ثانيا ليعلن عن نيته فى الرحيل وعدم الترشح من جديد؟!، لماذا لم ينزل إلى جموع المحتشدين فى الشارع لمخاطبتهم كما اعتدناه فى بداية حكمه منذ أكثر من ربع قرن مضى؟ لماذا الدفع بالجميع إلى التناحر اليوم ولمصلحة من؟ لماذا الإصرار على الانتقاص من المشهد العام الأن وحصره فى مجرد الآلاف دون إعادة النظر إلى حقيقة أرقام انتخابات الرئاسة 2005، وكم ما حصل عليه الرئيس من أصوات قدرت وقتها أيضا بالآلاف؟! كثير من الأسئلة التى مازلت دون جواب حتى الآن، لكن ورغم ذلك فإنه يبقى السؤال الأهم اليوم هو ذلك المطروح حول أسباب استمرار الأزمة.. وكيفية الحل؟.. متى نعود جميعا إلى ممارسة حياتنا الطبيعية من جديد؟ الحقيقة أن المعضلة الآن ليست فقط فى انقسام الآراء، لكنها تكمن فى كيفية إيجاد الحل لأزمة الثقة والشك السياسى فى النظام لدى المحتشدين، حيث لم يك من المتوقع أن يأتى الحل فى مجرد أيام عبر العديد من رسائل الطمأنة والحوار. إلا إنه - وفى ذات الوقت - لم يعد مقبولا الاستمرار فى الاحتشاد، كورقة ضغط على مائدة الحوار، حيث إنه لابد من أن يعى المحتشدون جيدا أن مجرد سماح النظام باستمرارية إتاحة الفرصة للاحتشاد.. هى فى حد ذاتها الآن تبقى رسالة واضحة للاعتراف بالحق وتغيير منهج التعاطى معه والاستجابة له، وهو ما ينذر بتحوله رويدا رويدا من ورقة ضغط عليه إلى عامل حسم لصالحه فى حال استمراريته لوقت أطول. كذا فإنه لابد على الجميع، وأن يعى حقيقة ما صنعته الكثير من الأحداث التى شهدناها على مدار الأيام القليلة الماضية، بل وكثير من التجارب التى خضناها فيه، ذلك بعدما دفعتنا فجأة ودون سابق إنذار لتولى عجلة القيادة، ومن ثم تحمل المسئولية فى غياب تام لمختلف مؤسسات الدولة من حولنا. وهو الأمر الذى يقود إلى ضرورة استيعاب أنه لم يعد يستطيع أحد الوقوف اليوم أمام رياح التغيير.. لم تعد لديه القدرة على إعادة عقارب الساعة والعودة بالتاريخ إلى ما قبل 25 يناير. لن يستطيع أحد سرقة ما تم إنجازه، بل ولن يفلح أحد فى إخراج من فى الميدان فعليا.. فحتى وإن خرجوا منه اليوم شكلا.. فقد حفر الكثير منهم ملامحه عليه بدمائه. أيضا فإنه لن يستطيع أن يأتى الآن من ينسينا حقوقنا.. أو يكمم أفواهنا، بل ولن تطل أغلاله أيدينا.. أو يعمى زيف كلماته أعيننا. نهاية فإنه لابد من توجيه الرسالة: شكرا سيادة الرئيس.. الشكر كل الشكر لك، لكنه ليس على ما حققته لنا من إنجازات شهدنا لك بها وشهد الوطن عليها.. فهى واجبك تجاهه ونحونا، لكن يبقى جزيل الشكر لك على جميع ما أتت به سياسات حكوماتكم المتعاقبة علينا، تلك التى قدمت لنا اليوم بالفعل جيلا جديدا.. لم يعد يبحث الأن سوى عن مستقبل أفضل له.. وعهدا جديدا فى كل شىء ينتوى رسم ملامحه بما صنعته يداه.