خطاب ممزق ورقته باهته تتمايل حروفها لتنحرف عن السطر.. رائحة البارود تتسلل إلى الهواء المحيط فتلوثه يمتد جسده الممصوص من اللحم ليفترش أرض المعسكر معلنا وفاته يداه مازالتا تتشبثان ببندقيته الميرى تعترف بفعلتها (نعم أنهيت حياتى بملء إرادتى) تلك الإرادة المسلوبة دفعتنى لاختيار الموت حرا طليقا.. عن العيش بلا هدف!! تحملنى الملائكة ترفعنى إلى السماء تهدهدنى كلماتهم الحانية تمسح عن قلبى حزنا تغلغل إلى نفسى فخربها.. كنت على يقين أننى سأجد العدل فى السموات العلا.. ستمتد يد الرحمة لتنقذ ما تبقى من إحساس بأننى إنسان يتبخر جسدى الفانى وتذوب أوصاله فى مساحة العدم غير المرئى أشعر بروحى تتحرك فى براح أبدى.. ليس له أركان تحكمه لا يمين ولا شمال، لا شىء فوقى ولا شىء تحتى.. أخيرا أنا أحيا بلا قهر .. بلا ظلم من بشر الآن أنا بين يدى الله يحاسبنى, استرحمه فيرحمنى.. أشكو إليه فيسمعنى تتجمع الأوراق كلها فى ملف أصفر شفاف يكتب فى خانة تعريفه (ملف المجند رقم 5344 وحدة الأمن المركزى بمطروح) سبب الوفاة (انتحار) بقايا ملابسه تحكى قصة أخرى تحملها أخته بين أحضانها تلملم بقايا عرقه الذى اختلط بالدم تبتسم ابتسامة ميتة فمحمد لم يكن أخاها الوحيد لكنه توأمها.. فرقت الأيام بينهما منذ تزوجت وأقامت فى القاهرة رأته فى منامها يناديها يستنجد بها فاستيقظت لتسمع خبر وفاته لتشق الحقيقة قلبها نصفين.. النصف الأول لا يصدق أن محمد انتحر والنصف الثانى لا يصدق أنه مات.. لن تسمع ضحكته تتردد فى بيت العيلة كل عيد.. لن يناديها يا طماطم كما كان يفعل!! جمعت شتات روحها وانطلقت تبحث عنه.. يا محمد إياك تبعد.. ده البعاد غربة وكربة ومهانة حدثته فى كلمات أصدقائه.. سمعت منهم كلماته الأخيرة.. عرفت أن من قتلوه كثيرون جنيهاته الخمسون التى لا تكفى فتات العيش وزينة حبيبة القلب وابنة عمه التى لم يحلم بامراة غيرها فى حياته القصيرة لكنها تبخرت كأحلامه مع أول دقه باب تخطف ملائكة الأرض من بين رموش العين كلهم مسؤولون، الشاويش محمود الذى ترك له البندقية مملوءة بالبارود والضابط رأفت الذى حكم عليه أن يتعرى أمام زملائه كعقاب يستخدمه عند اللزوم ضحكات هيستيرية تصاحبها ضربات موجعة على القفا تنطلق من أيدى زملائه الأوامر العسكرية كحد السيف إذا لم تنفذها شطرتك نصفين لم يسع محمد للموت لكن الموت زحف إلى بندقيته ليرحم روحه الطاهرة من دناءة البشر.. لن يتعذب بحب ذهب مع الريح ولن يقبل الإهانة حتى ولو كانت ميرى ولن يصبح مسخا وسط أهله وناسه اختار أن يبتعد فى صمت كما جاء إلى الدنيا فى صمت هكذا قالت له أمه أنه لم يبك عندما خرج من جوفها إلى صدمة الدنيا لكنه ظل مذهولا يقلب رأسه يمينا ويسارا يبحث عن شىء ما ربما عن نفسه التى جاءت الدنيا لهدف ما لكنه لم يدركه !! فاطمة أخت محمد حكت قصته للبيه الضابط علشان يحكم، هو محمد صحيح انتحر ولا كل دول قتلوه .. محمد كان ميت قبل ما طلقة الرصاص تخرج من بندقيته ولما طلعت استريح وابتسم .. فاطمة حضنت جثته طلة عينه كانت بتناديها بتقولها سامحينى يا أغلى الناس للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا