أفزعتنى طرقات الباب المتتالية فقاومت إحساسى واستأنفت قراءة ملفاتى العالقة لكن الطارق لم يكتف كاد أن يكسر بابى وهو يفتحه عنوة. يقف لاهثا تتساقط قطرات العرق من مسام جلده الدسم.. تعلو وتهبط أنفاسه المتلاحقه محاولا التقاطها، لكن الصدمة تدفع عينيه الى الحملقة فى وصمت مريب يكبل صوته حتى صدقت للحظات أن الصول فتحى قد ولد أخرس!! لم تفلح كلماتى الوديعة فى تخفيف حدة توتره.. فاضطررت لإحكام قبضتى عليه وأجلسته بقوة ورششت كوبا من الماء المثلج فى وجهه ليستعيد اتزانه فتجمدت نظرته وكأنه يرى عفريتار أو وحشا كاسرا.. فإذا برجل يدخل وراءه، جسده النحيل وملابسه المتهالكة وشعره المترب ذكرنى بشحاذين المقابر أو الفارين من مستشفى المجانين. وجهت تساؤلاتى للصول فتحى الذى ظل يرتعد عندما اقترب هذا الجسد منه أكثر. لم ينطق فتحى!! اسمى يا بيه محمد عمران.. سنى 35 سنة.. كنت ميت وصحيت!! كذبت أذنى وارتشفت فنجان قهوتى وسألته وبعدين: فردد الجملة على مسامعى مرة أخرى فبلعت ريقى عدة مرات ورفعت حاجبى مستفسرا ماذا يعنى؟ تفاصيل جمدت الدماء فى عروقى.. كبلت الكلمات فى فمى.. أدركت حالة الصول فتحى وما حدث له. محمد كان بالأمس القريب عريسا جديدا يمرح فى سعادة زوجية بلا حدود.. تخيل أنه امتلك الدنيا بين يديه عندما تزوج فاطمة!! عاد إلى عمله كعامل نظافة بعد أسبوع من شهر العسل. إحنا يا بيه ناس غلابة وشهر العسل بالكتير أسبوع ويمكن ثلاثه أيام وفى أحد الأيام كنت ماشى فى الشارع سرحان وأنا باعدى الشارع ماحسيتش بنفسى إلا وأنا فى المستشفى شفت خيالات قدامى فاطمة كانت بتعيط.. وأمى شفتها قاعدة على الأرض تايهة ده آخر حاجة سمعتها وحسيت بيها.. لما فوقت لقيت الدنيا ضلمة وزى ما أكون ملفوف بملاية سرير فانتفضت وصرخت بأعلى صوتى يابيه اكتشفت أنى مت, والملاية هى كفنى وانى مش فى المستشفى لكن فى القبر!!!!!! أيوه والله دفنونى.. تبادلت نظرات الدهشة والريبة فى كلامه مع الصول فتحى.. كيف يموت ويصحو مرة أخرى وتسألت: هو الميت بيصحى؟! ويصدر من أعماق فتحى صوت مكتوم كأنه يخشى أن يصل لغيرى مستكملا حكاية محمد العائد من الموت فالقصة لم تنته بعودته للحياة لكنها بدأت أحداثها مثيرة مفجعة.. بدأها محمد بالصراخ والهذيان ينادى على أمه وعلى فاطمة غير مصدق أن كل هذا التراب ما هو إلا قبر مغلق رماه أهله فيه ليعلنوا وفاته بأيديهم. سمعه حارس القبر وتصور أن هناك لصوصا جاءوا للسطو على جثث الموتى لكنه ما إن فتح باب القبر حتى وجد محمد وقد تعلق فى عنقه يستنجد به وهو عار من كفنه. لم يحتمل عبدالصبور الحارس وسقط جثه هامدة ليعلن قبر محمد وفاة عبدالصبور وولادة محمد من جديد واكتفى بأن يرتدى جلابية عبدالصبور ليستر جسده وترك كفنه يغطى بها سكان المقابر جسد عبدالصبور. سقطت والدته من هول المفاجأة ولم يستطع عقلها إدراك الحقيقة فاستراحت إلى الأبد. أما فاطمة فكذبت عينيها وطردته رافضة حقيقة عودته للحياة فهذا يعنى بالنسبه لها أن ترد كل المال الذى أخذته لأن محمد مات. كانت قاسية القرار.. عنيفه النظرات وقالت تحسم أمرها: زوجى مات ومعى شهادة وفاته لا يملك وثائق تؤكد أنه حى.. وهى تملك كل شىء لم يصدقه أحد نبذه الجميع وكأن القدر قد كتب عليه أن يدفن فى قبر وهو ما زال حيا.. ويعيش فى قبر بعد أن عاد للحياة.. ارتعش بدنى من إطلالته وساورنى إحساس بالتشاؤم.. والتمست العذر لأهل محمد.. وألف عذر لمحمد نفسه.. أمرت فتحى أن يفتح محضرا لإثبات أن محمد حى!! فالورقه الرسمية الوحيدة الصالحة غير منتهية الصلاحية هى شهادة وفاة محمد. للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا