نشأ المصريون على قيم ومبادئ سامية قلما توجد فى شعب آخر عنوانها: التماسك والترابط والنخوة والرجولة والشهامة وعزة النفس والمحاجاة على النساء والتعامل معهن كأم أو أخت أو ابنة.. ومع نشوء عصر الانفتاح بدأت ظواهر جديدة تطرأ على المجتمع، وراحت تكسب أرضا كل عام، فتغيرت القيم وظهرت مبادئ جديدة تنذر بدمار الوحدة الشعبية، وتباعد بين طبقات المجتمع. ونتيجة لتغير هذه القيم تحولت المبادئ السامية إلى مبادئ "سافلة"، وأصبح للتماسك معنى آخر، يعنى الحمية والنزعة القبلية دون مراعاة الحق فى جانب من؟! والترابط صار للمصلحة فقط وبغير المصلحة يكون القتل والحرق والذهاب ل"مستشفى الأمراض العقلية"، وانقلبت النخوة إلى تبلد، بل ومشاركة بالقول أو الفعل أو حتى النظر. والرجولة أصبحت تعنى: قوة البدن، وقهر الضعيف، ومعاملة الطرف الآخر على أنه" أصلا ما بيفهمش حاجة". أما الشهامة فقلما تذكر إلا من البعض، فلا توقير لكبير ولا احترام لعجوز ولا مساعدة لمريض، وإيثار غيرك على نفسك "بقت موضة قديمة". عزة النفس "يعنى الكرامة" أمست "هتدفع لى كام.. ياسيدى وتاج راسى وراس اللى خلفونى". ونأتى إلى المحاجاة على النساء فحدث ولا حرج عن: التحرشات، والعنف، والضغوط النفسية فى الشوارع والميادين.. وما تنساش الأعياد.. أصل العيد فرحة!! وبناءً على كل ما ذكرت، والذى يُظهر الصورة سوداء قاتمة.. أقول: مازال هناك بصيص كلمة عربية دائما ما تذكر فى هذه المواقف أمل، وهو فى الأساس ما دفعنى لكتابة هذا المقال.. ثلاثة مواقف مصرية صميمة "دون تحضير أو رتوش" شاهدتها ولم يحكها لى أحد. أول هذه المواقف فى "مترو الأنفاق" ذلك الجهاز الحيوى لأكثر من نصف مليون راكب يوميا ويزيد، حيث إن الازدحام شىء عادى ومعتاد هذه الأيام، لكن أن تجد شابا يتحمل ويتحامل على نفسه لإجلاس شيخ أو عجوز مسن فهذا من المبادئ التى بليت منذ فترة.. الموقف أبهرنى.. شاب جالس.. يدخل رجل بلغ من العمر عتيا.. يقوم الشاب ليجلس الكهل ويُظهر له ابتسامة ودود.. يرد عليه الرجل بدعوة جميلة، المبهر ما سيأتى يعقب الشاب: يا أبتا إن واجبكم علينا ليس توقيركم فقط وإنما إكرامكم وإعزازكم بعد أن فقدتم ذلك من قبل حكومة لا تشعر بكبير ولا صغير. الموقف الثانى، المكان "استراحة استعلامات وزارة الداخلية".. يدخل رجل معه طفلتاه.. وصوته الزاعق بلا خشية من أمين شرطة يلكزه أو ضابط يأمر بسحله.. وإنما رجل يريد أن يقدم شكوى بسبب احتجازه فى الشارع ومنعه من المشى لخروج سيادة الوزير حبيب العادلى فى هذا التوقيت.. أبهرنى أننى لأول مرة أشعر أن واحداً من المصريين يستطيع رفع صوته فى المكان الوحيد الذى لا ترفع فيه إلا أصوات النسور وطرقعة النجوم فقط دون المساس به.. بل أخذ القائمون على حراسة البوابة والاستعلامات بتهدئته وهو يزداد صراخاً إلى حد أنه لم يعبأ بوجود "نسر ونجميتن" فى وسطهم يكلمه ويهدئ منه، المواطن المندفع يطلب تقديم شكوى لينال حقه.. قصد المقال.. أن أحد الأمناء أخذه ليهدئه فى إحدى الزوايا.. وقال له: يا فلان أنت لو عملت ده فى قسم كان زمانك اعتقلت أو مت من الضرب وجبت دم من كل حته.. لكن علشان أنت هنا.. هناخد شكوتك.. وأتفضل روّح". ثالث المواقف.. أحلاها.. كنت أهبط داخل أحد الأنفاق صباحاً.. وفى الصباح يكون الكل متعجلاً للحاق بساعة "ضبط الوقت" قبل أن تغلق ويبقى اليوم راح "أونطة".. المهم أننى أوقعنى حظى بمن أمامى.. سيدتان تضع إحداهما ذراعها فى ذراع الأخرى.. تتحدثان.. الأولى "محجبة" والأخرى "دون حجاب".. الأولى "مسلمة" والأخرى "مسيحية".. دون قصد التقطت أذناى ما كانتا تتحدثان فيه.. "وأنا دورى فى الجمعية قرب.. طبعاً يا حبيبتى.. عايزين الجمعية دى تخلص علشان تبتدى لنا فى الجمعية الجديدة.. زى ما الرب يريد.. بس نكون برضه مع بعض.. وهو مبلغ ينفع فى تجهيز البنات" حالة إنسانية خالصة دون انتماء لعصبية قبلية أو النظر لأحداث طائفية.. ولكن هذه هى مصر بأبنائها تجانس يمكن أن يلتئم فى ظل هذا الغمار الطائفى.. ائتمان على المال "عمل جمعيات كنوع من التكافل والتآلف الاجتماعى".. دعاء ليس وراءه نفاق أو رياء، وإنما عشرة قديمة فى بلد كافح عشرات السنين من أجل إجلاء المحتل عن نفوس جُبلت على تنسم الحرية فى ظل جو أسرى يجمع بين جرجس وحسن ومرقص وأحمد وزينب ودميانة.. ومن هنا يستحقون أن نطلق عليهم: همُّ دولا المصريين!!