رغم تطاول البنيان وامتداد صروح الإبداع تشابكًا وتعانقًا، يظل سؤال الوظيفة والكيفية والغائية حاضرًا بقوة، ووفق كثافة الواقع وإحكام غزله تنعكس مستويات التشكيل الإبداعى والجمالى الفردية على مرايا هذا الواقع، وعلى حدقات مواقعيه، ويظل السؤال الأكثر صعوبة وإلغازًا هو سؤال الاشتباك مع الاشتباك، أو الإبداع على الإبداع، فإن كان الإيغال فى بنية الواقع وطبقات الدراما المتداخلة فيه تفكيكًا وتركيبًا وصياغة أدبية وروائية أمرًا مرهقًا وشاقًّا ولا يتأتّى- كما يليق بالواقع وتوقيعه نصوصيًّا- إلا لعتيد واستثنائى، فإن الإيغال فى صورة الواقع الأدبية والانطلاق فى إهاب تفكيكها وإعادة تركيبها نقدًا وتحليلاً هو الإرهاق والمشقّة ذاتهما، ولا يتأتّى إلا لفئة قليلة ومائزة من ذوى البصائر الرائقة والأبصار النافذة. هذه الفئة من البصيرين المبصرين يندر أن تدوس شراك وفخاخ المقولات الكبرى التى جرى تقعيدها وترسيخها كسرديات لا يُداخلها الشك، وأصبحت عقيدة حيّة لدى طوابير وأجيال متلاحقة من أهل الصنعة والواقفين على تخومها، ولعلّ واحدة من هذه المقولات المفخّخة ما ارتبط فى أذهان كثيرين بسهولة قراءة وتلقّى عالم نجيب محفوظ الروائى والنفاذ إلى عمق أغواره، فربّما لشدّة اقتراب محفوظ من قوانين الواقع ومفاتيح ديناميكيّته الحيّة وماء شخوصه فى طبقاته العميقة تصوّر قطاع من القراء- فى مستويات التلقّى والنقد- أن مخالطة عالم نجيب محفوظ يسيرة وممكنة على غير هدى من عتاد واستعداد مغايرين لما درج عليه الوعى التبسيطى النزِق، فالواقع السهل هو ذاته الخازن والكامن لجوهر الميتافيزيقيا والمتمترس خلف رؤى سرابية مخاتلة لا يقنصها السائر فى طيّاتها إلا قدر اقتناص العين لماء الصحراء السيّار، ولعلّ اقتراب نجيب محفوظ من قانون الواقع واقتناص روحه الخالصة يجعل ارتياد عالمه والتريّض فى أبهائه أمرًا محفوفًا بالمخاطر، وقراءته واستكناه مبانيه ومعانيه بقلب وروح العارف، لا بجسد وعقل الدرويش، غاية غير موفورة بيُسر، ووفق هذه الرؤية أعتقد أن الروائى والناقد والكاتب الصحفى مصطفى بيومى يتحرّك فى عالم نجيب محفوظ- بخفّة وتمكّن ووقوع على الخارطة المثلى- وينفذ إلى رحم الماء ومنبت النبع دون اكتفاء بالوقوف المشدوه على فورته وظاهر عطاياه وحسب. مصطفى بيومى، الذى يحمل على كتفيه الوسيعتين أربعة وخمسين عنوانًا، تمتدّ ما بين الإبداع السردى والنقد الأدبى والتراجم الشخصية التوثيقية: ثمانى روايات وإحدى عشرة ترجمة شخصية وخمسة وثلاثين كتابًا نقديًّا وفكريًّا، يُقدّم عنوانه الخامس والخمسين «المسكوت عنه فى عالم نجيب محفوظ»- بعد ستة عشر كتابًا سابقة عن محفوظ وعالمه- ليطوّف بالقارئ فى عطيّته الجديدة الفريدة تطوافًا عميقًا ودقيقًا فى أعماق ودواخل عالم محفوظ الروائى وشخصياته، عبر ما يزيد على ألف صفحة ومائتين وثمانين ألف كلمة، وتحت اثنين وعشرين عنوانًا فرعيًّا، لا تغادر كبيرة ولا صغيرة فى معمار محفوظ الروائى إلا أحصتها، ما يجعل هذا الكتاب الفريد سفرًا جامعًا ومرجعًا مهمًّا لقراءة تحليلية وتفصيلية لشخوص وعوالم ومُحرّكات السرد والفعل الروائى والإنسانى فى عالم نجيب محفوظ، واستخلاصًا كاشفًا ودقيقًا لتصورّات محفوظ المعرفية والاجتماعية عن بنية المجتمع المصرى وعلاقات القوى الفاعلة فيه عبر رحلة أدبية وإبداعية امتدّت لما يناهز ثلاثة أرباع القرن، وهى الرحلة الوارفة التى يتتبّع مصطفى بيومى أيّامها وعواديها ليقدّم طرحًا ناضجًا لأسئلة نجيب محفوظ الاجتماعية والإنسانية، ويضمّ ما هشّمه ووزّعه على رواياته وقصصه ليصنع فسيفسائية عظيمة الدقة والوضوح والسبر لأغوار وتفاصيل المجتمع المصرى وما عبرته من تحولات واعتمل فى صدره من طاقات فعل وصراعات قوى وإرادات. فى كتابه المَرجِع، يؤصّل مصطفى بيومى لقراءة سوسيولوجية وسيكولوجية وتاريخية لعالم نجيب محفوظ، ويقتفى العلامات الصغيرة قبل الكبيرة بدأب شغالات خلايا النحل لينحت إطارًا فسيحًا للصورة، ويضعك فى القلب منها روحًا مندغمة فى عالم محفوظ ومتراسلة معه تراسلاً حيًّا، ولشدّة الإحاطة وبلاغة التتبع والاقتفاء ستجد نفسك وكأنك فى نص إبداعى موازٍ وقائم بذاته، يؤنسن الأشياء والموجودات الحية ويعتمدها مدخلا لقراءة الصورة العاقلة ودوائر الفعل الإنسانى، فلدى مصطفى بيومى قدرة على التقاط إلهامات وإشراقات محفوظ التى وضعت شيئًا من روح تكثيفها للعالم والشخصيات فى القطط والكلاب التى تتريّض وديعة وهامشية تمامًا فى رواياته، بنفس قدرته على الاشتغال على المفاتيح الكبرى لقراءة عالم محفوظ الزمكانى والإنسانى عبر منظومة الأمن والسياسة وأجهزة الشرطة والجيش وجماعة الإخوان المسلمين وتاريخها الملتبس مع الدولة والعلاقات المصرية الأمريكية، دون أن يغمط هذا العبور- شاسع البون بين الحيوانى الهامشى والسياسى المتصدر لمتن الصورة وواجهتها- أهمية الاشتباك الحى مع مستويات الفعل والتداخل الاجتماعى والعقدى فى مستوياته المرتبطة بالإطار النفسى للشخصيات ومرجعياتهم الدينية وتفاعلهم الحى مع الإطار الاجتماعى لخان الخليلى ومناطق محفوظ الأثيرة، دون تفرقة بين الاحتفاء بالحياة فى بيوت القاهرة الفاطمية، أو الحياة- بمعناها النفسى والاجتماعى والقيمى- فى المقابر وما تعتمل بها من صراعات ومحفزات وقوى دفع لعربة الحياة نفسها، وما تشتمل عليه من سياق تاريخى ومعرفى، وما تنطوى عليه من أسئلة الوجود وإضاءات الكشف والفلسفة والتفسير لغوامض المتن، وإلى جانب هذه المراوحة لا يغفل مصطفى بيومى رصد بعض الظواهر النفسية والاجتماعية المحركة لمحفوظ وعالمه على امتداد رواياته، كالانتحار والقمار والشذوذ الجنسى والطلاق والعنوسة وقتل الأب، وبعض الظواهر المعرفية والثقافية كالصحافة والإذاعة والتليفزيون والغناء والشعر، وهى الفسيفسائية العريضة من إحكام التناول وحُسن ترتيب العلامات وصفّ الدلالات واختيار الألوان، بما يسّر لمصطفى بيومى- وللقارئ الذى سيقع على منجم فاره ماتع ومترع بالإضاءات البصيرة اللامعة- أن يرسم بورتريهًا ناصع الصنعة وبالغ الإتقان، للروائى الأبرز فى مدوّنة الرواية العربية، ولعالمه الفسيح الكاشف لجوهر مصر والواقع على طينة المصريين وقوع التشكيل الأول.