الهدوء يلف أطراف المدينة، حيث نهاية المدِّ العمرانى والتقائه بالاتساع اللامتناهى للأرض البكر وبراح رقعتها الخصبة.. هناك، تابعت بعينى صامتًا، جريمة قتل، ببشاعةٍ مارسها أحدُهم، ليس قتلًا عاديًا، كان مصرًا على سلبها الروح، بينما تقاوم حتى آخر نفس تلفُظُه.. منع عنها هواءً يبث فى رئتيها الحياة، أغرقها فى مياه آسنة، انتزع عنها نضارتها، حوّل خصوبة رحمها المعطاء لتربة عفنة، تصدر عنها روائح تؤلم القاصى قبل الدانى، تسكنها الحشرات بأصواتها الليلية.. بيديه الملوثة بأصابعه الغليظة غطّاها؛ ليخفى بشاعة معالم جريمته متكاملة الأركان. عجيبٌ إصرارُه على سلبها بقايا روح عزيزة تقاوم.. بينما يمزقنى متابعة الانسحاب التدريجى للروح منها لحظة بلحظة. الآن جفّت، تحول جلدها الرطب شقوقًا تصرخ عطشًا ولا من مجيب، زحف على أطرافها بناء مشوه، وأحجار من بعيد أتت تُفرد على باقى جسدها؛ ليختفى تماما جسم الجريمة وأى أثر يشهد أن هنا ذات يوم روحًا أزهقتْ. ما زلت أسمع صدى أنين بقايا أنفاسها من تحت البناء، يقتحم ليلى المجهد، يوجع ضميرى، يسلبنى النوم، بينما جاراتها تتألق متباهية بنضارتها المعطاءة. **** هناك وسط العمران.. عاشتْ "أخرى" معه راضية، لم تطلب الكثير.. مجرد اعتبارها شريكة، إنسانة مثله، من حقها أن تحيا.. تبحث فى ثنايا أيامها الباهتة عن أمل لأجله تُكمل وبه تستمر- تحترق لأجله- كان يمتص رحيقها منتشيًا بينما تضمر كل يوم، فاستحالتْ شبحًا يجر ظلال هياكل صغاره ويتلاشى.. سقاها مرَ قبحه حتى ارتوت، اعتادتْ بيئته العطنة، فقدت ذاتها؛ ما عادت تحتمل الابتعاد عن جلادها.. أسلمت كيانها لعشق مرضى استوطن روحها، نفث فيها من روحه الشيطانية المريضة، عبّأها من شروره؛ إن غاب عنها جنّ جنونها، وسقطت فى دوامة انتظار طويلة للحظة عودته ليمارس قسوته المعتادة عابثَا بروحها وجسدها.. من بعيد أتابع أخبارها.. تشكو - بهدوء يستنزفنى وجعًا- تعايشها ووحشيته.. أنسج لها حبلًا من نور أصنعه، ألقيه لها، تتعلل بطول بقائها فى حفرة الظلام، التى أورثتها العمى؛ فما عادت تبصر سوى سواد ظلمة ليلها الطويل معه.. وسط خضم أمواج ضياعها، أمدُّ للغريقة يدّ الأمل أنتشلها، أُهيئ لها قارب النجاة، أترك لها المجداف.. من بعيد أرقبها، مع أول ضربة من يدها لتسيير حياتها، تتجه بلا وعى لجزيرة أوجاعها مستسلمة، راضية وربما سعيدة.. فى ذروة وهج الاشتعال لأنير دروب عتمتها، أستفيق بنفخة منها لضوء شمعة احتراقى لأجلها؛ تُطفئنى للأبد.. غابت عنى حقيقة- فى زحمة رغبتى بدعم خلاصها- أنه غرس فى أعماقها بذرة شرِّه.. نمتْ بذرةُ فنائها، تتشعب فى زوايا أحشائها، حجبت ملامح براءتها القديمة، صارت تشبهه، نسخةً مشوهةً منه.. ماتت تابعتُ الجريمتين.. أنا الشاهد المشارك فى القتل بصمتى وفشلى، ومع العجز فى منع ما يحدث فقدتُ شيئًا منى، قُتلت ببطء.. لم أكن الشاهد الوحيد على ما حدث، لكنهم شاركوا بتأييدهم، ورفضتُ.. أنا من بقى بعضى ليروى، فمن يروى عنى مقتلى؟!